الجماعة الوطنية والتنظيم الدولي
د. حسن حنفي
من أهم الموضوعات في النظم السياسية. إذ تختلط الجماعة بالتنظيم بالهيئة بالدولة. ولكل حدودها ووظيفتها. فالجماعة مثل جماعة “الإخوان المسلمين” تجمع بين الجمعية مثل جمعية “الشبان المسلمين” والحزب السياسي مما يفرض قضية الصلة بين الدين والسياسة ومثل كل الجمعيات الأهلية التي ينظمها قانون مثل الجمعيات العلمية والأدبية والثقافية والتاريخية والجغرافية والتي من قانونها عدم التدخل في المسائل الدينية أو السياسية وعدم التمويل الخارجي مما يجعلها تعتمد علي اشتراكات الأعضاء أو التمويل الذاتي الوطني من وزارة الثقافة. أما التنظيم فإنه يوحي بأنه خارجي. وعادة ما يقرن بالدولي، له استقلاله وكيانه ووجوده ومكانه الخاص. له السيادة علي الوطني. وينبثق الحزب السياسي من الجماعة الأيديولوجية بحجة أنه الذراع السياسي للجماعة. ويتم كل ذلك داخل دولة يحكمها القانون. فأحيانا تقوم الجماعة مقام الدولة، الكيان الأكبر، ومقام الحزب، الكيان الأصغر. والحزب مجرد أداة يأتمر بأمر الجماعة ويحقق برنامجها، فعلي هذا الأساس تم انتخابه. وتتكون الدولة من أحزاب عدة تتساوي كلها في الحقوق والواجبات. الدولة هي الحاكم والمهيمن والمسيطر وميزان الاتزان بين القوي الاجتماعية الثلاث وليس فقط بين السلطات الثلاث المعروفة. ومن الناحية النظرية يعمل الجميع من أجل المصلحة الوطنية، بداية من الداخل. فالجمعية لها الأولوية علي الجماعة. الجمعية تنظيم مفتوح، والجماعة تنظيم مغلق. الجمعية ليس لها ذراع سياسي. في حين أن الجماعة لها نظام سياسي وربما أيضا تنظيم سري. وذات علاقة بتنظيم دولي. هي فرع له. وليس من المعقول أن يكون التنظيم الدولي فرع له. فالأصل خارج الوطن. والفرع داخله. والثورة بالداخل لا بالخارج، بالوطني لا بالدولي. فالوطن ركيزة. وقد تتعارض المصلحتان. ولا يمكن التضحية بالوطني في سبيل الدولي وإلا انهار الدولي أيضا. الجمعيات الوطنية أو الأهلية أو المدنية مثل الأحزاب الوطنية ضد “الانترناشيونال”. فالمصالح لا تكون إلا للشعوب والأوطان والدول وليس لهياكل صورية لا وجود لها إلا علي الخرائط والرسوم البيانية. والشعوب لا تتكلم إلا لغات وطنية بل ولهجات محلية ولا تعرف ما يسمي بالاسبرانتو الذي هو تجريد للمقاطع الأخيرة للألفاظ. فيبقى الأصل اللاتيني ويرد كل شيء إلي الأصل الغربي، المركز والأطراف. وحب الأوطان لا يكون إلا وطنيا وليس دوليا. و”مصر التي في خاطري وفي فمي” ليست في كل مكان من الشرق إلي الغرب بل هي في مكان محدد. وطالما غنى الشعراء نيلها وشمسها وفجرها ونخيلها وشعبها وهواءها. وطالما وصفتها الأمثال العامية بأنها “أم الدنيا”، “مصر المحروسة”. ولقد وصفت في الحديث بأن “جندها خير أجناد الأرض، وشعبها مرابط إلي يوم القيامة”. ذكرت في القرآن خمس مرات أنها بلد الاستقرار والسكن (وَأَوْحَيْنَا إِلَي مُوسَي وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا). وهي بلد الكرم للقطاء والذين بلا نسب (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاه). وهي بلد الأمان لكل لاجئ وكما هو مدون علي قاعة الوصول في مطار القاهرة (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، وهو البلد الذي يطلب الإنسان فيه ما يسأل فيجد (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ). عيبها الحكم التسلطي الاستبدادي. يملكها ملك قهار (وَنَادَي فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ). ومن ثم لا يمكن ابتلاع الدولة في التنظيم وإلا كان تنظيما شموليا. ولا يمكن ابتلاع الوطن في الجماعة وإلا كان الوطن أمميا. ويكون الولاء صوريا، لهيكل لا وجود له. ويجف الولاء الوطني الحسي بالأرض والشمس والهواء والنيل والزرع والناس. والأغاني الشعبية معظمها يدور بشأن الحنين إلي مصر “أصله ماعداش علي مصر”. وتغني حب مصر ” يا حبيبتي يا مصر”، “أصله لما يسافر للبلد الغريب، يمكن إنه ينسي في بلدك حبيب”. ويكون الخارج مهربا للداخل يجد فيه الوطن البديل. ويجد الخارج ملجأ في الداخل. فتتداخل الأوطان. وفي هذا الجو تعظم الجاسوسية. ويصعب التمييز بين الأجنبي والوطني. وتتداخل الجنسيات. وتزدوج في أممية جديدة تتجاوز الأوطان. وهي تجربة الشيوعية والدولية الأولي والثالثة التي سرعان ما تتهاوي بنشأة القوميات واشتعالها. فالاشتراكية دين واحد يضم الجميع. وهي تجربة الرأسمالية أيضا. فرأس المال يضم الأوطان ويعبر الحدود. رأس المال بلا وطن. وصاحب رأس المال هو المواطن. والمصنع هو الوطن. والعولمة هي النظام العالمي الذي يضم كل الأوطان. وقد تصور البعض الإسلام بنفس الطريقة، الإسلام بلا أوطان يرأسه الخليفة. يلغي القوميات ويقهرها لو ثارت ويفرض لغته وجنسيته وهيمنته علي القوميات الأخري مما أدي إلي سقوط الخلافة التركية ونشأة القوميات، العربية والكردية والأرمنية والتركمانية تمثلا بالقوميات الغربية وتقليدا لها. وتم اختراق التنظيمات الدولية الأممية بالصهيونية العالمية أو الماسونية. وأصبحت مرتعا للجاسوسية. فقد أصبح من الصعب التمييز بين الوطني والعالمي ولاسيما بعد ثورة الاتصالات وتحويل العالم كله إلي عالم واحد.ولهذا التنظيم الدولي الجديد أساس ديني غير مباشر. وهو التصور الهرمي للعالم، القمة والقاعدة. فالقمة البروليتاريا أو رأس المال أو الفئة القليلة المؤمنة، الجيل القرآني الفريد الذي يقول لا إله إلا الله. ويقلب عالم الكفر إلي عالم الإيمان. ويحول الجاهلية إلي الإسلام كما نادي المودودي لإنقاذ المسلمين في الهند ونشأة باكستان. وكما أثر ذلك في سيد قطب لتكوين جماعة المؤمنين وهي الأقلية في مقابل جماعة الكافرين وهي الأغلبية. ومقابل التصور الهرمي أو الرأسي للعالم التصور الأفقي الذي يجعل الدين في الأرض ومع الناس والشعب، مع المضمون وليس الصورة، مع الوطن وليس مع التنظيم، فوق الساقين وليس فوق الرأس. لقد تنبه الإسلام لذلك. وجعل التعدد أساس الوحدة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا). فالخلق متعدد متباين لتأكيد الاختلاف من أجل التنوع والخلق، وتأكيد الوحدة من أجل التفاهم والتعارف. وهو ما سمته اليونسكو أخيرا “التنوع الخلاق”. وهذه العناصر المتنوعة علي مستوى واحد من القيمة في علاقة أفقية واحدة وليس في علاقة المركز والأطراف كما هو حادث الآن بين الثقافة الأوربية والثقافات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وقد كانت المراكز قديما، موسكو للمعسكر الاشتراكي، ونيويورك للمعسكر الرأسمالي، ونيودلهي للمعسكر في العالم الثالث. وظل العالم الإسلامي يبحث عن مركز بعد سقوط الخلافة في استانبول، القاهرة أو مكة والمدينة أو كوالالمبور أو جاكرتا. ولما صعب إيجاد عاصمة إسلامية واحدة قديما: المدينة أو دمشق أو بغداد أو القاهرة فإنه صعب وجودها حديثا نظرا لصعوبة الخيال ونظرا للتعدد الكامن في بطن الأمة وإن كانت اللغة العربية لغة القرآن والصلاة والعبادة. ولا تعني الوحدة الآن الوحدة السياسية بل قد تعني الوحدة التعاونية مثل الاتحاد الأوربي. الحفاظ علي الوحدة والإبقاء علي استقلال الأوطان كخطوة نحو الوحدة الائتلافية كما هو الحال في معظم الدول الأوربية والأمريكية قبل الوحدة الاندماجية التي مازال الشوط إليها بعيد المنال بناء علي تجارب العرب السابقة.