الجسر

الجسر
راجي عبدالله
لا ليست مفاجأة، بل كانت اختياراً حقيقياً صعباً للغاية، كالسم عندما يسري في
بدن عاشق الحياة. ولكن لا خلاص، فبعد دقائق معدودات سيعبرون إلى الجانب
الآخر وسيتقرر مصيرهم اللاحق.
أشار لهم كاظم بيد مرتعشة وتحدث بصوت أكثر ارتعاشاً
هذا هو فردريش شتراسه… هذا هو ألحد الفاصل بين برلين الشرقية والغربية
… هذا هو جدار برلين.
قبله قبلة الوداع وصافح زوجته وأطفاله، ثم سار باتجاه المنعطف الذي يؤدي
إلى الشارع العام وغاب عن الأنظار.
وقف الجميع قبالة الجدار تحيط بهم الدهشة غير مصدقين، أحقاً هذا هو جدار
برلين؟ أحقاً أنه السد المنيع الذي يفصل بين عالمين مختلفين يريد أحدهما أن
ينهي الآخر؟ هذا غير معقول فارتفاعه لا يتعدى أربعة أمتار من الحجارة
السميكة المرصوفة، وبإمكان أي شخص القفز من فوقه بسهولة ويسر حتى وإن
كان طفلاً ربما يلهو هذا الشعب الألماني مع بعضه أو أن يبالغ
هذا ما بدا له من خلال مشاهدة سريعة عابرة . فأين هذا من الكابوس المرعب
الذي كان يقلق مضجعه في السابق؟ لكن الأمر قد يكون ليس بهذه السذاجة
ولا يستطيع الحكم على الأمور بهذه الصورة المتعجلة، وما عليه إلا أن يتريث
ليكتشف الحقيقة.
دلفوا عبر باب صغير يؤدي إلى ممر ضيق، خمسة ضباط شرطة شرقيين بينهم
امرأة برتبة نقيب كانوا في نقطة السيطرة . إلى اليمين غرفة صغيرة ذات شباك
صغير فيها ضابط تأشيرات، اقترب هو من الشباك وقدم للضابط جواز سفرهم
المزور بكل لياقة
تفضل يا سيد… هذا هو جواز سفرنا جميعاً.
نظر الضابط إليه كالصقر، ثم نهض من مقعده وكأنه كان بانتظارهم منذ مدة،
وبدأ بعدهم واحداً تلو الآخر
أنتم خمسة أشخاص.
التفت هو إلى الوراء فوجد نفسه بالمقدمة وبقية أفراد عائلته يقفون خلفه، بعد
ذلك حاول النظر إلى عمق الغرفة لكن شباكها الصغير جداً منعه من رؤية جوانبها
وزواياها البعيدة، وقتها قال الضابط بنبرة حادة
قفوا جانباً و انتظروا بالداخل بعض الوقت.
الداخل عبارة عن ساحة فسيحة مكشوفة وضعت فيها مجموعة من المقاعد القديمة
التي لا تصلح للجلوس إلا بصعوبة. في مقابل الساحة هناك غرفتان صغيرتان
يفصل بينهما ممر ضيق أيضاً ينتهي إلى غرفة سيطرة أخرى. إن هذا المكان
مخصص أصلاً لانتظار المسافرين المشبوهين فقط، أما الآخرون فكانوا يدخلون
الممر الضيق فرادىً وجماعات ويقفون في صف طويل كأنهم في يوم الحشر.
جلسوا على المقاعد القديمة في حالة انتظار جديد، انتظار سلبه السيطرة كلية
على أعصابه، وبمرور الوقت راح جسده يرتجف ليس من البرد القارس فحسب
وإنما من القلق، كيف لا وجواز سفرهم مزور كانوا قد اشتروه بثلاثمائة دولار ؟
إنها مخالفة صريحة للقانون الدولي عقوبتها السجن أولاً ومن ثم الترحيل إلى البلد
الأصلي ثانياً، إذن هو الموت في كلتا الحالتين.
صورة الموت هذه تجمعت على شكل غمامة منعت عينيه من الرؤيا الواضحة, وصار يرى القادمين من الناس على شكل أشباح ملونة،حمراء تارة وتارة خضراء,
وأخيراً تداخلت لوحة الألوان ببعضها تداخلاً غريباً وتحولت في النهاية إلى لوحة سوداء داكنة.
شعرت بذلك زوجته فسألته وهو يفرك عينيه
ما بك؟
إنه الظلام… الظلام يملأ عيني… أنا لم أعد أبصر إلا قليلاً.
دنت منه وقالت له بصوت هادئ
ــ لا تبال… فليحدث ما يحدث… هل هناك شيء أصعب من الموت…إذن مرحباً به… فنحن لسنا قتلة ولا مجرمين.
على حين غرة بكى طفلهم الصغير بكاء حاداً، لقد مرت ساعتان وهم في الانتظار
دون أن يلوح أي شيء في الأفق، كان يبكي بحرقة وسط أسماع الشرطة التي لم
تبال به، فهذا ليس من شأنهم إطلاقاً، ليس من شأنهم أن يتساءلوا عن سبب نواح
هذا الطفل الرضيع، إنه ببساطة جائع جداً وإن موعد تناوله الحليب المجفف قد
حان وهو بحاجة إلى الماء، مجرد الماء نهضت ألأم من مقعدها حاملة قنينة الحليب فأشار لها الشرطي بالجلوس ثانية، لم
تأبه بذلك وتقدمت نحو الشرطية التي أخذت منها القنينة لتملأها بالماء وتعود بها
سريعاً، فهدأت سريرة الطفل شيئاً فشيئاً وهو يمتص الحليب، وغفا بعدها إغفاءة
شبه عميقة.
هل يمكنك أن تسألهم عن سبب التأخير كل هذا الوقت؟
سألته زوجته
سأحاول.
نهض بتثاقل كبير متوجهاً صوب شباك غرفة السيطرة الأولى، فوجد الضابط نفسه
مازال في مكانه
رجاء أخبرني عن سبب التأخير.
قال للضابط الذي رد عليه بعنف من جديد
عد ثانية إلى مكانك.
لكنكم تعلمون جيداً بأن وضعنا سليم… إذن لماذا كل هذا التأخير؟
نهض الضابط من مقعده كالمستفز وكرر القول
عد ثانية إلى مقعدك.
عاد إلى مقعده مرة أخرى وجلس صامتاً، إنه لا يملك أي خيار آخر وعليه أن يكبت
صرخته المدوية وأن يحبسها بين صدره ولسانه، فدهور الغضب مجتمعة قد
تتلاشى وتتبدد إذا كانت تحت وطأة هذا الظرف، ومن الحماقة هنا الإعراض على أي شيء مادام مصير عائلته تحت رحمة هؤلاء.
على حين غرة جاء شرطي آخر ممسكاً بيد شاب ألماني في مقتبل العمر وطلب
منهم الجلوس قربهم، تطلع هو بوجه الشاب ليعرف سبب وجوده بينهم، فالكلام ممنوع
والرقابة شديدة جداً، وهناك من يراقب التحركات مهما كانت صغيرة عبر عدة كاميرات
وضعت هنا وهناك.
كان رأس الشاب مطأطأ إلى الأسفل كأن عينيه تحفران في عمق الأرضية، لقد
بقي على هذه الحال لفترة طويلة نوع ما حتى رفع رأسه ببطء فبانت ملامح وجهه
البريئة، وبالصدفة التقت نظراتهما ببعضها، فأبتسم أحدهما للآخر ابتسامة خفيفة
تحولت فيما بعد إلى قهقهة واضحة، تنفس هو الصعداء قليلاً فهناك شريك غريب
يبادله الضحكات.
آه، كم تَعلَمَ في السابق إن الضحك على الألم هو أعظم من الألم نفسه ، وإنه
السبيل الوحيد الذي يمكن المرء من الوصول إلى السعادة في أعقد الظروف دون
أن يعتريه الضعف، فربما تصبح هذه الفترة العصيبة مجرد ذكرى مضحكة في
المستقبل من يدري هذا؟ فكر في الأمر كثيراً ثم ضحك بصوت عال.
خمس ساعات مرت على هذا النحو,إلى أن لمح من بعيد شرطياً يتجه نحوهم حاملاً
جواز سفرهم
هيا انهضوا جميعاً.
قال الشرطي فسأله هو
إلى أين؟
إلى برلين الغربية.
استقلوا المترو برفقة الشاب الذي كان موقوفاً معهم إلى مركز المدينة، وما هي
إلا دقائق معدودات حتى وصلوا إلى هناك، وعلى الفور دخل إلى كابينة التلفون
للاتصال بأحد أصدقاء الطفولة
ألو… مساء الخير… هل يمكنني الحديث مع أحمد أمير؟
أجاب الصديق بصوت رخيم
أنا أحمد أمير… مما لاشك فيه أنت هو… هل كل عائلتك معك؟
نعم… فتعال لنا بسرعة.
ضحك أمير طويلاً وقال
سآتي إليكم بسرعة البرق… ولكن كيف يمكنني معرفتكم؟ فأنا وأنت لم نرّ
بعضنا منذ عشرين عاماً.
المسألة بسيطة جداً… سننتظرك قبالة البريد في محطة تسولوكشه كارتن…لا
تخف… فنحن سنعرف بعضنا بالرغم من هذا الفراق.
قهقه أمير على إثر ذلك ثم رفع نبرة صوته
أنا أمزح معك … سأميزكم حتى وأن كنتم بين ملايين البشر … إن عينيّ لم
تتعب بعد وكذلك قلبي.
إذن تعال بسرعة.
أقفل الصديق سماعة الهاتف وانتهت هذه المكالمة السريعة. جلس هو وعائلته في
الزاوية المقابلة للبريد باسترخاء تام،فبعد قليل سيرى صديقه الذي فارقه منذ مدة
طويلة، إنها عشرون عاماً لا غير يا للغرابة حقاً أن الذكرى أقوى من
السنين حينما تقترن بمرحلة الطفولة أو الصبا، في هذه الحالة بالذات تصبح الأيام
مجرد نزهة جميلة…
قبل عشرين عاماً كان الفرح ملعبهم الوحيد،فرح لم تستطع فيه مدينتهما الصغيرة
الحزينة أن تنساه, إنه بحث عن معنىً آخر للوجود وهما قد حققاه ببراءة متناهية،
المسرح، الرسم، بدر شاكر السياب، روايات العالم البعيد، فلسفة جان بول
سارتر،كل هذه الأمور الكبيرة قد ترسخت في الرؤوس الصغيرة دون وعي مسبق
ودون معرفة تامة.
جاء أحمد أمير ملوحاً بسبابتي يديه تلميحات عجائز الناصرية، فضحك هو وبادله
نفس التلميحات، وعلى الفور كان العناق بينهما عميقاً ودافئاً دفء الجنوب. لقد ظلا
متلاصقين لفترة طويلة، حتى خيل للمارة بأنهما جسد واحد أو أنهما تؤمان افترقا
منذ زمن بعيد، أجل، إنهما تؤمان ولدا من رحم بلاد الشمس والتقيا تواً في رحم الغربة، هكذا كانت البداية.
في بيت أمير استمر السهر حتى فجر اليوم التالي بحضور بعض الأصدقاء، فقد
كانت الذكرى سلواهم الجميلة التي لا تنتهي، مسرح ثانوية الناصرية, معرض مديرية
التربية للرسم الذي شارك فيه أحمد أمير وحصل على معظم جوائزه وهو لم يزل بعد في
الثانية عشرة من العمر، مقهى أبي أحمد الذي لا يستقبل سوى المثقفين الثوريين
كما كان يسميهم، سينما البطحاء والأندلس وأفلام إسماعيل ياسين، ملعب كرة
القدم، صديقهم المسرحي عادل ملا عمران الذي توفي بالسرطان نتيجة قلع أحد
أسنانه من أجل أن يحصل على إجازة مرضية من العسكرية, وكان أحمد في كل مرة يردد وهو يتحسر
إيه أخي… ذكرنا بعد… الله على تلك الأيام.
توقف هو عن الحديث وطلب منهم أن يحدثوه عن برلين، فقال أمير
ستعرف برلين عن قرب لأنك ستعيش فيها… برلين يا أخي مثل السجن الكبير
الذي لا حدود له… هل رأيت الجدار؟
وماذا يعني هذا الجدار المضحك؟ إنه سور بسيط الارتفاع…
قاطعه أحمد
إن هذا الجدار ليس مضحكاً ولا بسيطا كما ذكرت … إنه أصعب جدار عرفه
التاريخ … هل تعلم بأنه يحيط بمدينة برلين الغربية كلها … وعلى الجانب
الشرقي منه توجد أبراج عالية للمراقبة… المسافة بينهما لا تتعدى خمسين متراً
فيها جنود يطلقون النار على كل من يحاول العبور إلى الجانب الغربي؟
توقف عن الحديث لبرهة وأضاف
ستعرف ذلك فيما بعد… لأنك حديث العهد هنا…. بعد ذلك ساد الجلسة صمت مفاجئ، فأبحرت عيناه عبر ضوء المصباح المعلق في
سقف الغرفة، وراح بعيداً يقلب صفحات ألزمن الغابر حتى وصل في النهاية إلى
عام 1954، أي إلى العام الذي كانت فيه مدينة الناصرية مهددة بالغرق شأنها
شأن مدن العراق الأخرى، فدجلة والفرات غاضبان هذه المرة غضباً جاماً لم تستوعبه شواطئهما الكبيرة الواسعة. إنه الفيضان الكبير الذي أحاط بالمدينة من جميع جوانبها، ولا مفر لها من الموت الجماعي المحتم، فقد جربت ذلك سنين طوال منذ السلالات الأولى وحتى
اليوم، وكانت في كل مرة تموت ميتة بطيئة ظالمة و تحيا من جديد حياة بائسة
لا علاقة لها بالماضي، لأنها لم تتعلم منه قط، ولم تدرك أبداً أن أرضها
المنبسطة تقع تحت مجرى النهر ولم تتحصن لذلك، ليست هذه هي المشكلة الوحيدة فقط، فالفيضان قادم هذه المرة ليس من نهر الفرات بل من نهر الغراف أيضاً، هذا النهر الذي أسماه أهل المدينة بنهر أبي جداحة وشبهوا ماءه بالشرار المتطاير من النار، لكثرة ما ذاقوا من ويلاته بالماضي.
في فجر ذلك اليوم العاصف استيقظ والده كالعادة على صوت المؤذن لتأدية الصلاة,
وما أن انتهى الصوت من التلاوة حتى ارتفع عالياً وراح ينادي عبر مكبرات الصوت
يا ناس… يا عالم… أيها المؤمنون … المدينة كلها مهددة بالغرق … فيضان أبو جداحة قادم … الطريق بين الشطرة والناصرية مغمور بالمياه … لذا أدعوك أيها المؤمنون رجالاً ونساءً…. شيباً وشباباً…أن تهبوا هبة رجل واحد… احملوا ما لديكم من الأكياس وأدوات الحفر وتوجهوا فوراً إلى الروف.
استمع الأب إلى هذا الصوت غير مصدق، فأيقظ زوجته وأولاده بقوة
اقعدوا… اقعدوا بسرعة… المدينة كلها راح تغرق بالفيضان.
نهض الجميع من نومهم مذعورين كأن زلزالاً قد وقع
شنو… شنو بويه… إشصار؟
أجابهم الأب بصوت يشبه النحيب
الناصرية راح تغرق… الطريق بين الشطرة والناصرية كله مغطى بالماي. هذا يعني إن كورّي غرقت والعمال هم… آخ إنهجم بيتي. حلالي كله راح.
قالت ألام وهي تلطم خديها
شراح نسوي؟
المنادي طلب من الجميع… أن يأخذوا وياهم كل الأكياس والفؤوس إللي ببيوتهم
ويروحون كلهم للروف…
توقف الأب عن الحديث وأشار لهم مسرعاً
هسه مو وقت كلام… يا الله بسرعه جمعوا كل الأكياس إللي بالبيت حتى أكياس
الحنطة فرغوها وإخذوها وياكم… وخلي إنروح ويّ الناس.
شيء غريب حدث فجر ذلك اليوم,الشوارع كلها غصت بالبشر وهم يتقدمون صوب
سور المدينة الجنوبي، بعضهم يحمل الرفوش، والبعض الآخر يحمل الفؤوس و
بأيديهم كمية من الأكياس, أما الفوانيس فقد كانت تنشر ضوءها كدبابيس نارية
تنأى وتقترب أثناء المسيرة،أما أبواب البيوت ظلت مشرعة بعد أن هجرها جميع
ساكنيها ولم يبق فيه إلا العجزة منهم، نباح الكلاب السائب قد تصاعد على نحو
مخيف بما يشبه عواء الذئاب. إن شارع الشريف الرضى لم يشهد هذا الزحام من قبل إلا في وقت عاشوراء،حينما يذهب الجميع لمشاهدة السبايا والتشابيه التي تقام في البرية كل عام بمناسبة واقعة كربلاء، لكن الأمر يختلف الآن، فهم جميعاً كالسبايا يهددهم الماء بالغرق، لذلك كانوا يسيرون بخطىً ثابتة وهم يمرون في الشارع المؤدى إلى الروف وفي صدر كل منهم شعور مزيج من الأسى التحدي، فهذه هي فرصتهم الأخيرة للدفاع عن بقائهم وإلا ضاع كل شيء.
الكل يعرف ماذا يعني هذا الخطر الداهم إلا الأطفال الصغار، إنهم وحدهم الذين
يسيرون مع الجموع وكأنهم في عرس أو كرنفال، فقد ملّ هؤلاء حياتهم العادية
الرتيبة, وهاهم اليوم يشهدون حدثاً من نوع جديد يشاركون فيه أسوة بالكبار، أما
النسوة فقد كنّ كعادتهن أثناء الخطوب يرتدين العباءات السوداء ويتحزمن بالحبال،
وكانت أمه من بينهن تسير للأمام حاملة أخيه الرضيع بيد و بالأخرى تحمل فأساً،
وما هي إلا خطوات وخطوات حتى وصل الجميع إلى روف المدينة.
الروف عبارة عن سور ترابي لا يتعدى ارتفاعه ثلاثة أو أربعة أمتار، يحيط بالمدينة كالطوق ليحميها من أي فيضان طارئ، لا أحد يدري متى أقيم وكيف، لكنه من المؤكد قد أقيم من قبل سكان المدينة منذ سنين طوال بطرق بدائية،
لذا فأنه قد تآكل بمرور الوقت لأنه لم يعد يتحمل المزيد من ضغط الماء عليه.
أول المتضررين كانوا سكان الصرائف الذين بنوا بيوتهم القصبية في الجول خارج
ألروف، لذلك كانوا هم أول من هرع إلى سطحه المرتفع طلباً للنجاة، تاركين
وراءهم كل شيء تحت رحمة موجات الماء الدافقة، ولم تبق في أعينهم الدامعة
سوى الرؤيا الحزينة وهم يرون بيوتهم وإبلهم وهي تجرف بعيداً دون رحمة.
ما هي إلا دقائق معدودات حتى انقسم الناس إلى مجموعات صغيرة تفصل بينهما
بضعة أمتار، بعضهم يحفر التراب بالفؤوس وحتى بالأظافر، والبعض الآخر يملأ
الأكياس ويحكم شدها بالحبال، ومجموعة أخرى تحملها وتضعها بكل تأنٍ في المنحدر.
هكذا أستمر العمل ساعات طويلة بسرعة فائقة، لكن سرعة الماء وقوة اندفاعه
كانا هما الغالبين في بعض الأحيان،فقد أحدثا فجوات وكسرات عديدة هنا وهناك
وكان الرجال يسارعون لسدها بوضع الأكياس واحداً تلو الآخر كي يمنعوها من الأتساع.
لقد مضى الوقت سريعاً حتى استطاعت فيه الجموع سد كل فجوات السد الترابي
وأصبح قوياً نوعاً ما، غير أن المأساة التي خبأها الظلام تحت جنحه بدأت تتكشف
رويداً رويداً وسط أشعة الشمس القرمزية التي أخذت بالشروق، بيوت قصبية
كثيرة أزيلت بكاملها ولم يبق منها أي أثر يذكر، جثث حيوانات منتفخة من بينها
جثث آدمية تجرف بعيداً، أشجار نخيل كثيرة تتقاذفها الموجات العاتية، معامل
الطابوق لم تسلم هي الأخرى من الغرق إلا تلك التي بنيت على الروابي.
كان الجميع ينظرون إلى المساحة الشاسعة من الأرض التي غمرت بالمياه غير مصدقين، لقد اختفت تماماً معالم اليابسة وحلت محلها بحيرة كبيرة تمتد إلى
الأفق البعيد، فبانت لوحة الألوان كأنها حلم من أحلام الطبيعة الغاضبة بفعل أشعة
الشمس وانعكاساتها على سطح الماء، هذه اللوحة الجميلة لا يمكن لأحد أن
يتجاهل روعتها حتى وسط هذا الدمار. رفع أبوه المنظار الذي بحوزته وراح ينظر إلى كوّر الطابوق التي يملكها، لم يرّ
منها إلا الكورتين المبنيتين على هضبة أما الثالثة فقد اختفت كلية عن نظره،بعدها
ناول المنظار إلى ألأم وهو يتمتم
الحمد لله على كل حال… الحمد لله… لكن المشكلة هي عمالي محاصرين
بالماي ويجوز غرق كم واحد منهم… خطيه… همه هم أصحاب عوائل مثلي
ولازم أساعدهم.
توقفت ألأم عن التطلع بالمنظار وسألته
وشلون إتساعدهم بوسط هذا الخطر.
لازم أحاول…إنتي ديري بالك على الأطفال وأنا رايح للمدينة بلكي ألقي طريقه.
مرت ثلاث ساعات على ذهاب الأب لكنه لم يعد حتى هذه اللحظة، يا ترى ما هي
الطريقة أو الوسيلة التي ذهب ليبحث عنها ؟ هل ذهب ليستأجر بعض الزوارق
الصغيرة، كلا، من المستحيل الحصول عليها في هذا الظرف لأن الجميع بحاجة
ماسة إليها الآن, ربما قد فكر بطريقة أخرى تمكنه من تفقد كوّره وعماله، أو ربما
أنه الآن هناك بينهم، فهو طيب القلب إلى درجة كبيرة وهذه الطيبة قد تدفع به
إلى التهلكة، عندها ستترمل هي و سييتم أطفالها الذين أصبحوا خمسة … هذه
الأفكار كانت تدور في رأس الأم المضطرب دون أن تعطيها فرصة صغيرة لتحمل
هذا الانتظار.
كانت الشمس تميل إلى الغروب عندما لمح الأطفال أباهم من فوق الروف المرتفع,
وهو يدنو من بعيد برفقة ثلاثة رجال يقودون حميراً على ظهرها مجموعة من البراميل المقصوصة والملحومة إلى بعضها البعض. ما أن اقترب الأب والرجال الثلاثة من الجموع حتى صاح منادياً
يا أخوان ساعدونا… ساعدونا إنصعد البراميل على الروف…ساعدونا الله يرحم والديكم.
هرع البعض لمساعدتهم وحملوا أنصاف البراميل المقصوصة طوليا والملحومة
ببعضها كالدوب إلى المرتفع، بعد ذلك تجمع الآخرون حولها وراحوا يتطلعون
إليها وكأنها من عجائب الدنيا السبع
شنو هذي… يا ستار استر؟
هذي مو براميل… هذي صارت إبلاّم… دوّب وأحسن.
الحاجة أم الاختراع… ستة براميل تقص طولياً وتلحم ببعضها وتصير زورقين.
لم يعلق الأب بشيء على ما سمعه، ثم أقترب من الأم حاملاً كمية من الأرغفة
والتمر وبعض الأكياس وهو يقهقه
ها زايره… شنو رأيك؟
أجابته ألأم بعصبية واضحة
وتضحك ها وين كنت كل ها المدة؟
عند الحداد… قصينا البراميل ولحمناها… وصارت أحسن من زورقين بالعربي
الفصيح.
شوف البطران… زاير أنا قلبي عليك مثل النار.
ربت على كتفها وعاد ثانية إلى رجاله الثلاثة،حيث ربطوا البراميل بالحبال وبدأوا
ينزلونها رويداً رويداً على الجرف، نزل الأب بمعية أحد الرجال وجلسا متقابلين
في قعر البراميل، أما الرجلان الآخران فقد فعلا نفس الشيء و اتخذا مكانهما في
قعر البراميل الأخرى، في هذه الأثناء صاحت الأم بصوت عال كمن فقد صوابه
زاير… سايمه عليك الله … اترك هذي الشغله لو تخليها للصبح … الدنيا
صارت ليل.
أجابها وهو يلوح بمجذافه
لا تخافين عليّ… راح أرجع بعد أن أطمئن على العمال وودي إلهم المقسوم.
زايره… أخذي الأولاد وارجعي للبيت.
ثم أخذ الرجال يجذفون ويبتعدون شيئاً فشيئاً وسط أنظار الناس التي ظلت تراقب
هذين الزورقين العجيبين باهتمام كبير.
المسافة بين السد الترابي وبين معامل الطابوق قد تتجاوز الخمسة كيلو مترات،
تفصل بينهما برية شاسعة سماها أهل المدينة الجول لأنها تخلو من البشر
تقريباً إلا من القوافل التي تأتي من الشطرة والغراف من الجهة الشرقية، ومن
ناحية سديناوية من الجهة الجنوبية، لقد كان من الصعب على الأب وعلى الرجال
الثلاثة الذين بمعيته أن يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام، لولا هذا السكون الذي
حلّ منذ ساعة وصار فيه الماء يجري بكل وداعة ورفق، لكن هذا لا يكفي لطمأنة
ألأم, فقد ظلت هي وأولادها يراقبون ضوء الفوانيس التي يحملها الرجال من بعيد,
ويتمنون لها ألا تطفئ أبداً.
مع حلول الظلام الدامس بدأت الجموع المحتشدة بالتفرق، بعضهم عاد إلى بيته،
والبعض الآخر ذهب ليبحث عن مأوىً له ولعائلته في مدرسة الشرقية التي أعدت
صفوف الدراسة لهذا الغرض، قلة من الناس لم تبرح مكانها وآثرت البقاء أو
المبيت هنا، ومن بينهم الأم وصغارها الخمسة الذين بقوا في حالة انتظار وقلق
لا يوصفان، وكان الوقت يمر دون أن يلوح شيء في العتمة.
افترش الأطفال الأرض وناموا واضعين رؤوسهم على سواعدهم، فغطتهم
ألأم بعباءتها لتقيهم شر البرد الآخذ بالتزايد بعد انتصاف الليل، ثم جلست على
مسافة منهم قبالة الماء الذي تداخلت رؤيته مع رؤية خيوط الظلام الكثيفة، لكن
عينيها ظلتا شاخصتين في مسافة واحدة بحثاً عن بصيص نور قد يظهر بغتة. هذا
ما حدث، إنهما يدنوان شيئاً فشيئاً من الروف, وكلما اقتربا صارا أكثر وضوحاً وأسرع
إيقاعاً, وهي مازالت تتابعهما بلهفة كبيرة حتى وصلا أخيراً إلى مسافة تبعد عنها بمائتين
ياردة، فنادتهما بصوت عال
الله يساعدكم يا رجال… الله يساعدكم… إلزاير وياكم لو لا؟
لوح لها الأب بالفانوس و أجابها قائلاً
إيه زايره… أنا وياهم… الحمد لله على كل حال… راحت مني كورّة وحده
أحسن مما يروح واحد من العمال… كل شي يتعوض إن شاء الله.
بعد ذلك أخذ يلوح أكثر وأكثر بالفانوس وكأنه يريد أن ينبه الجميع بقدومه، أو
أن يثبت لهم أن الفيضان برغم قوته لم يمنعه من نجدة رجاله، هكذا صار الضوء
أكثر سطوعاً……
هو مازال يبحر بعيداً عبر الضوء المعلق في سقف غرفة صديقه، ولم ينتبه أحد من الأصدقاء لهذه الغيبة الطويلة التي لازمت تفكيره وأبعدته عن جلسة السمر كل هذه المدة، إلا أحمد أمير الذي قاطعه سائلاً ها أخي… أين سرحت كل هذه المدة؟ في الزمن البعيد… فقد شغل تفكيري هذا التشابه بين أسوار المدن مهما كانت. بعد ذلك قال في نفسه
ربما هناك خوف من فيضان آخر كان وراء بناء جدار برلين… فيضان لا علاقة
له بالماء قط.
AZP09

مشاركة