الجسر

الجسر
راجي عبدالله
توقفت سيارة التاكسي قبالة فندق المتروبول، و سرعان ما جاء أحد عمال الفندق
و فتح أبواب السيارة. نزل هو وزوجته وأطفاله وشرعوا بالتطلع إلى واجهة الفندق الأمامية الفخمة غير مصدقين، فالمكان على ما يبدو مخصصاً لإقامة الوفود الرسمية. ربما هم وفود أيضاً أوفدتهم الغربة إلى هنا بشكل غير رسمي.
قال عامل الفندق بلغة دبلوماسية
مرحباً بك يا سيد في فندقنا.
بعدها التفت إلى زوجته و انحنى لها
نتمنى لك طيب الإقامة هنا يا سيدتي.
أخيراً أشار بيده إلى عامل آخر وأخرجا الحقائب من السيارة، بينما دخلوا هم إلى الداخل بمعية السائق فانحنى لهم عامل ثالث كان يقف عند الباب. صالة الفندق الداخلية أجمل بكثير من واجهته، أضواء ومرايا وثريات و مقاعد أنيقة ونساء جميلات، أما هم فقد جلسوا على المقاعد كالغرباء و أخذوا ينظرون بشيء من الدهشة إلى هذا العالم العجيب الذي أمامهم.
عاد سائق التاكسي إليهم بعد أن كان يتحدث مع موظفة الاستعلامات
تفضل يا سيد وخذ بقية النقود… هذه سبعون مارك غربي… أجرة السيارة هي
ثلاثون مارك غربي فقط… وداعاً.
أي وداع هذا ؟ ثلاثون مارك طارت بسرعة كبيرة و اختفت، ربما هناك خطأ ما،
فهم مازالوا في برلين الشرقية و ليسوا في الغربية، و المارك الغربي هنا يعادل أضعافه، ربما هناك خطأ ما إذا كانت هذه هي البداية فكيف ستكون النهاية وهم لا يملكون الآن سوى مائتين وسبعين مارك ؟ هذه الحالة جعلته يتهرب من نظرات اللوم الشاخصة في عيني زوجته وراح يحلق بعيداً في فضاء الذاكرة…
ذات يوم من أيام شهر آب اللهاب لم يستمتع الأب بقيلولة الظهيرة المعتادة، وهو الذي مارس هذه المتعة كأنها طقس من طقوس العبادة، إنها المرة الأولى التي يجلس فيها في باحة الدار مستنداً إلى جدار إحدى الغرف الطينية لكي يتفيأ بظلاله، كان رأسه مرفوعاً إلى الأعلى و عينه تتابع أسراب الحمام المحلقة في السماء، هكذا شعر الجميع بحالة والدهم الغريبة التي تبدو عليه اليوم، أنه شارد الفكر، حزين، صامت، ولا أحد يدري لماذا
اقتربت منه الأم أولاً فسارع الأطفال بالجلوس حوله على شكل دائرة،
سألته الأم
شنو إشصاير ؟ إنت اليوم مو على بعضك ؟ ما نمت الظهر ؟ وطيلة الوقت حزين وما تكلم أي واحد ؟ قل لي شصاير ؟
تنهد طويلاً ثم أخرج سيجارة مزبن وأشعلها من زناد البنزين
زايره اتركيني… خليني بحالي.
بعد ذلك غطا وجهه بالكامل بيشماغه وأجهش في البكاء وراح يتمتم بكلمات
غير واضحة
أفه و الله… هذي هي المرة الأولى بحياتي إللي أشوفك بيها تبكي
قالت الأم فتعالى صراخ الأطفال بغتة
بويه شنو ؟ ليش تبكي ؟
توقف عن البكاء بعدما شعر بوجود الأطفال حوله، ثم مسح دموعه ورفع رأسه
بعنفوان
يمكن راح يعدموه… إذا عدموه أمي ما راح تتحمل… راح تموت لأن هي
كبيرة بالسن.
فغرت الأم فاهها وساد الجميع صمت رهيب، بعد مدة عاودت الأم كرة السؤال
من هو إللي راح يعدموه… فهمني ؟
أخويه طالب… طالب عمكم قبل أسبوع أخذوه … وأنا ما عرفت إلا اليوم بعد ما زرت أمي… المسكينة… خطيه حالتها صعبة… تبكي ليل ونهار.
شعرت الأم بخطورة الموقف وحاولت تغيير مجرى الحديث، كي يسترد هدوءه وتتمكن من معرفة الموضوع بكل تفاصيله فيما بعد
زاير أنا سويت جاي… تعال ندخل للغرفة ونحكي براحتنا.
نهض بصعوبة بالغة وخطا إلى الداخل بتثاقل كبير يتبعه الأطفال، حيث جلسوا حول إبريق الشاي الساخن صامتين كأنهم في مأتم
يا لله اشرب واحكي لي.
رشف الأب الشاي بسرعة دون أن يبالي بسخونته
قبل أسبوع وقت الفجر داهمت دورية الأمن بيت أبويّ… وكان وإياهم عريف
الأمن عفوّن… وأخذوا عمكم ما أعرف لوين ؟
سأل الأخ الأكبر
شنو هو السبب ؟
ما أحد يعرف… لكن جدتكم تقول…عثروا بغرفته على منشورات ضد الملك
وضد نوري السعيد.
لطمت ألأم خديها بقوة وقالت
وأخوتك الأربعة شنو رأيهم؟
أخوتي متبرين من عنده… يقولون هذا الكافر ورطنا ويّ الحكومة… وهو ابن
البارحة.
هزت رأسها بأسف بالغ، ثم شدت عصابة رأسها ونهضت ضاربة الأرض بقدمها
زاير لا تهتم… تريد أدبرلك مواجهة وإياه… تريد إتشوف أخوك؟
طبعاً أريد… لكن شلون ؟
كل شي بالفلوس… كل شي بإلواشرات … اسمعت من النسوان بأن عفوّن يأخذ رشاوى من المساكين ويدبر إلهم إللي يردوه… زاير… أعطيني دينارين
وأنا راح ألبس عباءتي وأروح إلى مرته.
مرت ساعتان ثقيلتان على الأب و هو في الانتظار، ساعتان وهو يدخن السجائر تلو الأخرى ويتذكر أخاه الصغير الهادئ الوديع، إنه أصغر أخوته الأربعة، وأوسمهم وأكثرهم فطنة وذكاء، تعلم القراءة و الكتابة دون أن يدخل المدرسة ولم يكتشف أحد منهم هذا السر العجيب، سر تعلمه خفية . من الذي علمه يا ترى ؟ لا أحد يعرف
التفكير في هذه الأشياء غير مهم الآن، الأهم من هذا كله هل يستطيع جسد أخيه النحيف تحمل التعذيب، ولماذا ؟ من أجل أي شيء يضحي بشبابه الفتي وهو لم يتجاوز بعد الثامنة عشر من العمر ؟ ماذا يريد هذا الصغير ؟ هل يريد إسقاط الملك وهل يتمكن من ذلك ؟ أوهم هذا أن يركض هذا الفتى وراء السراب ولا يجد في النهاية من يسقيه قطرة ماء واحدة ؟ وإذا مات من جراء ذلك، من ذا الذي سيكفن جسده الغض بكفن بال بعد الموت ؟ لقد مات الكثيرون قبله وضحوا بحياتهم، لكن الملك و نوري السعيد و عبدالإله ما زالوا أحياء يحكمون، وما الفائدة من كل هذا ؟ ما الفائدة من الأحلام والواقع راسخ الجذور ؟ الفقر، البؤس الذي حفر في عمق النفوس مغارات عميقة، الجهل الذي أعمى البصائر أكثر من عمى الجدري، الجوع إلى الرغيف الأسود أهم بكثير من أعناب الفردوس المعلقة في السماء ، أجل،
الحلم هو الفردوس الذي لا مكان فيه للفقراء منذ أبد الآبدين صاح الأطفال بغتة وهم ينتظرون قدوم أمهم من فوق سياج البيت الطيني
بويه… أمنا إجت… إجت.
بعد برهة وجيزة دخلت ألام صحن الدار، رمت عباءتها جانباً وقالت
إبشر يا زاير…راح تشوف أخوك…عفوّن يقول خلي أبوكم يجي إلى سجن
الخيالة بعد يومين…الموعد هو الساعة خمسة…ويقول أريد منه دينار ثالث
بعد ما إيشوف أخوه.
في المنخفض قبالة بستان زامل يقع سجن الخيالة على الشارع المؤدى إلى جسر المدينة الخشبي، لقد بني هذا السجن منذ زمن الإنكليز قبيل سنة 1920، لذا فإن بناءه يشبه تماماً ثكنة عسكرية ذو بوابة حديدية كبيرة و ذو سور عال تحيط به الأسلاك الشائكة من كل صوب، أما جدرانه و زنازينه الداخلية فهي رطبة ومعتمة إلى حد كبير كأنها إصطبلات خيول، بل هي كذلك في الحقيقة، فالسجن كان أصلاً مركزاً هاماً من مراكز شرطة الخيالة التي تشكلت بداياتها الأولى من المتطوعين تحت إشراف ضباط إنكليز، لإخماد أي تمرد قد تقوم به العشائر، خاصة عشائر آل زيرج التي تنتشر أفخاذها في أرياف المدينة.
الساعة هي الخامسة إلا خمس دقائق من اليوم الذي حدد موعده عفوّن، الموعد الذي سيرى فيه أخاه ويطمئن عليه، إنه لا يصدق بأنه مازال على قيد الحياة، ولا يصدق أن عفوّن سيفي بوعده، لذا فقد اختبأ وراء نخلة من نخيل بستان زامل في الجهة المقابلة للسجن لمراقبة ما قد يحدث بكل قلق وخوف.
بعد أن مرت الدقائق الخمس بطيئة غير مسالمة، خرج عفوّن ملوحاً بيده تلويحاً
عابراً، فخرج الأب من مكانه مسرعاً وأقترب منه
اسمع … راح تشوف أخوك لكن من بعيد… وما عليك إلا أن تسكت حتى
إذا شفت حالته صعبة…أنا ما أريدك تجلب انتباه أي واحد من الحرس… خلي
الموضوع طبيعي… مفهوم.
دلفا إلى الداخل و توغلا في العمق، و من بعيد لاح لهم ذلك الجسد النحيف
مكوماً في زاوية من زوايا زنزانة انفرادية وقدماه مربوطتان بالسلاسل، في
البدء لم يتعرف عليه، فهذا الرجل قد تساقط شعر رأسه بالكامل أو أن فروة
رأسه قد جزت بسكين حاد لا يرحم وطليت بمادة صفراء تشبه المرهم.
على بعد عشر خطوات من الزنزانة تناهى إلى سمعهم أنينه إلحاد، إنه نفس الصوت الذي يعرفه، صوت أخيه، و الملامح هي ملامحه بالرغم من الكدمات الكثيرة التي ملأت وجهه، أخيراً تيقن بأنه يقف قبالة أخيه الحقيقي دون أن يفعل له شيئاً، إنه عاجز عن أي شيء حتى عن البكاء وسط خطورة الموقف داخل هذا السجن، وما عليه إلا أن يحتفظ برباطة جأشه وأن يكتفي بالصمت.
خارج السجن وقفا ثانية بعد أن انتهت الزيارة الخاطفة المؤلمة، تطلع الأب بوجه عفوّن طويلاً وفجأة خرجت الكلمات من فمه كالسباب
شنو ذنبه ؟ ليش أذيتوه بهذا الشكل يا أولاد…؟
فقاطعه عفوّن سريعاً
ليش هو أذى نفسه ؟ لو كان اعترف من البداية ما كان إضطرينا أن نصب الماء الحار على راسه… بس هو أصر على السكوت والنكران… الإجابة الوحيدة إللي كان يرددها دائماً… إنه لقى هذي المنشورات بالشارع صدفة… وأخذها حتى يسوي منها طيارات ورقية يبيعها للأطفال بعدين.
في هذه اللحظة أدرك الأب مقدار القوة الكامنة في نفس أخيه وسأل قائلاً
وشعر راسه راح يطلع مرة ثانية لولا؟ وشنو هذي المادة الصفرة إللي خليتوها
على راسه ؟
هذا مرهم للحروق راح يشفيه بسرعة … أما شعر راسه فما راح يطلع أبداً
حتى يكون عبرة إله ولغيره بالمستقبل.
وراح تطلقون سراحه لو لا؟
قهقه عفوّن بصوت عال ثم أخفض صوته
اسمع… راح أخبرك عن هذا الشي… بس لازم توعدني بأن هذا يبقى إبينا
وما يعرفه أي واحد غيرنا.
أواعدك بهذا.
التفت عفوّن يميناً وشمالاً وقال
أخوك راح يترحل بعد مدة لسجن الحلة لو لسجن الكوت.
توقف عن الحديث ثم مد يده
جيب الدينار الباقي.
كلهم متشابهون إذن حتى وإن تباعدت الأماكن واختلفت الأزمان، متشابهون إلى درجة معينة مادامت النقود هي الغاية والوسيلة معاً، وكما قالت أمه من قبل، كل شيء يتدبر بالفلوس، بالواشرات، عليه أن يجد حلاً لمشكلته ومشكلة عائلته، لكنهم ، لا يملكون سوى ماركات قليلة وهم الآن في أفخم فندق من فنادق برلين الشرقية
وتلك هي الطامة الكبرى
نهض متجهاً إلى الاستعلامات
نهارك سعيد يا سيدة.
نهارك سعيد يا سيد.
أجابت موظفة الاستعلامات ودنت منه لتتعرف على رغبته عن قرب
نحن بحاجة إلى غرفة لليلة واحدة.
كم عدد الأشخاص؟
خمسة أشخاص… زوج وزوجة وثلاثة أطفال.
نعم توجد لدينا تلك الغرفة بمبلغ 360 دولار لليوم الواحد.
صعق في بادئ الأمر عندما سمع بهذا وتلعثم قائلاً
ماذا ؟ ماذا ؟ 360 دولار ؟ لكننا لا نملك هذا المبلغ.
الموظفة تركته يحاور نفسه لبرهة من الزمن وانشغلت مع زبون آخر، فلقد توجب عليه منذ اليوم، أن يحسب ألف حساب لأية خطوة تخطوها قدماه المتعبتين
ماذا قررت يا سيد؟
سألته الموظفة ثانية
يا سيدة… هل لديكم غرفة بسرير واحد للطفل الصغير… أما نحن فسننام على
الأرض… أعتقد أن هذا مناسب.
نظرت إليه مبتسمة ابتسامة مريرة وقالت
لكن هذا ممنوع… وليس الأمر بيدي.
بقي هو حائراً، إذ لا يوجد أمامه أي خيار آخر سوى المبيت في صالة الفندق حتى صباح أليم التالي جلوساً، و لكن في زحمة هذا الموقف طرأت في باله فكرة أخرى، فأخرج من جيبه دفتر مفكرته القديم وبحث عن رقم تلفون شخص لا يعرفه من قبل مقيم في برلين الشرقية كان قد أخذه في الماضي من صديق له.
هل يمكنك أن تطلبي هذا الرقم يا سيدة؟
تناولت من يده قصاصة الورق التي قطعها من دفتر مفكرته وأدارت القرص، ومرت
ثانية بطيئة وأخرى أكثر بطئاً حتى أقفلت سماعة الهاتف
الجرس يرن ولا أحد يجيب… أعتقد أن الشخص المطلوب خارج منزله الآن.
ثم أشارت بيدها إلى المقاعد وتابعت حديثها
استرح هناك… سأحاول بعد فترة الاتصال به مرة أخرى.
شكراً جزيلاً.
عاد ثانية ليجلس على المقعد مع عائلته و كأن في جسده جبل من التعب تهاوى فجأة في واد سحيق، آه، كم هو بحاجة إلى النوم ؟ إن النوم بالنسبة إليه أعظم وأهم من كنوز الأرض كلها، لا، هناك شيء أعظم وأهم منه بكثير، هو هذا المصير المجهول، وما عليه إلا أن يبقى يقظاً ليراقب ما يحدث.
بعد فترة عاودت الموظفة كرة الاتصال فأجابها الشخص
مساء الخير… هل أنت السيد كاظم ؟ أنتظر لحظة رجاء… هنالك شخص
قادم من دمشق يريد مكالمتك.
تناول هو سماعة التلفون وأخبره بالأمر تفصيلياً، وكان يردد بين آونة وأخرى
أنا وعائلتي في مأزق يا أخي… فتعال سريعاً لمساعدتنا.
أطمئن…سآتي إلى الفندق بعد نصف ساعة تقريباً…وسأذهب إلى الاستعلامات
للسؤال عنكم لغرض معرفتكم… وداعاً.
إنه الانتظار من جديد، انتظار فيه بارقة أمل وسط هذه العتمة، لذا فقد جال بنظره إلى الخارج ليراقب قدوم الشخص المطلوب عبر واجهة الفندق الزجاجية، أثناء ذلك تساءل مع نفسه لماذا هو حزين هكذا، هل لأن دورة حياته أصبحت معقدة جداً حالياً ؟ فالحياة برمتها مليئة بعقد أصعب لم يصادفها لحد الآن ولم يصل بعد إلى حالة اليأس النهائية، هذا ما اكتشفه وهو يشاهد ما يجري أمامه في الخارج بكل فضول.
فهذه الصبية الحسناء التي مرّت تواً، هل ستحزن في المستقبل إذا ما تقدمت في
ألسن و فقدت جمالها الأخاذ ؟ و تلك الحديقة الخارجية هل تشعر بالأسى حين
تتساقط أوراق شجيراتها الخضراء وتذبل ورودها الربيعية ولم تبق إلا أغصانها
الجرداء ؟ كلا، إن حزنه من نوع آخر، إنه فوق الطبيعة وفوق التصور، إنه
حزن إنساني ليوصف
لقد تأخر الشخص عن القدوم… كم الساعة الآن؟
سألته زوجته، فأجابها بعد أن نظر إلى ساعته
لم يحن الوقت بعد… لقد مضت عشرون دقيقة.
عشر دقائق باقية، كان رأسه يتحرك فيها كالبندول في المسافة الفاصلة التي تقع
بين الباب الخارجي وبين الاستعلامات، ذلك رجل أبيض اللون، وهذا القادم رجل
طاعن في ألسن، لا، إنه ليس الشخص المنتظر.
هكذا كان يتابع الناس واحداً تلو الآخر، حتى لمح من بعيد شخصاً أسمر اللون
هزيل الجسم، فهتف قائلاً
لقد جاء الشخص… إنه الآن في الخارج وسيدخل بعد قليل.
سألته زوجته على عجالة
كيف عرفت ؟
إن البشر المعذبين يعرفون بعضهم جيداً… إذ أن لهم نفس الصفات ونفس
الملامح… أنا ذاهب لاستقباله.
نهض بسرعة وتقدم صوب الباب الخارجي، وبينما كان الرجل في طريقه إلى الداخل
سأله فوراً باللغة العربية
عفواً… هل أنت الأخ كاظم؟
نعم أنا.
أهلاً وسهلاً… أنا الذي كنت بانتظارك… وتلك هي زوجتي وأولئك هم أطفالي.
تقدم وأقترب منهم، ثم صافح الزوجة وقبل الأطفال وجلس قبالته
بماذا يمكنني مساعدتكم؟
بالدخول إلى برلين الغربية… فنحن لا نعرف طريق العبور إلى هناك… علاوة
على أننا لا نملك تأشيرة الدخول.
مط شفتيه وهز رأسه تعبيراً عن الموافقة، بعدها نظر إلى حقائبهم الكثيرة الموضوعة على الأرض
لكن لديكم حقائب كثيرة وستكون مصدر خطر عليكم… إذا نجحتم في العبور
إلى برلين الغربية.
خطر ؟ أي نوع من الخطر ؟
أبتسم ابتسامة خفيفة وقال
إن الشرطة الغربية تفتش المترو القادم من فريدريش شتراسه بدقة… وحقائبكم هذه ستجلب انتباههم لا محالة… عندها سيسألونكم عن الفيزا وسيرجعونكم إلى
هنا ثانية.
ماذا نفعل إذن ؟
علينا أن نحملها أنا وأنت ونضعها في مستودع الحقائب القريب من هنا… وبعد
دخولكم اطلبوا من أي صديق لكم أن يأتي لأخذها… أما الآن…فعلى العائلة أن
تنتظر قليلاً في الفندق ريثما نعود.
حمل هو حقيبتين أخف وزناً، بينما حمل الرجل الحقيبة الثالثة الثقيلة بصعوبة وهو يلهث ويردد مع نفسه بصوت خفيض
ماذا يوجد في هذه الحقيبة… هاه ؟
العمر كله
لم يفهم ذلك، أو ربما لم يسمع تلك الكلمتين بوضوح، واستمر في مشيته إلى الأمام بصعوبة بالغة، أما هو فقد كان يمشي خلفه متطلعاً إلى ساقيه اللتين راحتا
تتمايلين شمالاً ويميناً بفعل ثقل الحقيبة.
دخلا إلى مستودع الأمانات فوجدا أن المكان المخصص للحقائب الكبيرة مقفل، فاليوم هو السبت يوم عطلة رسمية.
التفت إليه كاظم قائلاً
يا إلهي… ماذا نفعل ؟ لم يبق أمامنا إلا استخدام الصناديق الصغيرة التي أتمنى أن تكون مناسبة لحجم حقائبكم.
وضع النقود في الحيز الصغير، وتناول مفاتيح الصناديق وفتحها
آه إنها صغيرة الحجم كما توقعت
هيا بنا ندخلها بأي شكل.
ضغطا الحقائب ضغطاً، دفعاها بأيديهما تارة وبإقدامهما تارة أخرى، حتى انتهت
المعضلة بنجاح، بعدها أقفل الصناديق وناوله مفاتيحها ثم قال
علينا أن نعود إلى العائلة كي تعبروا إلى برلين الغربية… أتمنى لكم النجاح لأن
الأمر ليس سهلاً.
ولكن أين هو جدار برلين… أنا لم أره لحد الآن ؟
ستراه بعد قليل.
/6/2012 Issue 4230 – Date 20 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4230 التاريخ 20»6»2012
AZP09