الجسر
راجي عبد الله
الساعة هي إلحادية عشرة من صباح يوم 31 . 3 . 1988والطائرة تهبط رويداً
رويداً على مدرج مطار برلين الشرقية ، الجو في الخارج يبدو بارداً نسبياً،
فالجليد يتساقط و الأرض ترتدي ثوبها الأبيض،إنه لم يكن ثوب زفاف زوجته و
لا ثوب ميلاد أطفاله الثلاثة، إنه ببساطة ثوب الطبيعة وقت الشتاء .
قالت له زوجته وهم يدلفون البوابة الداخلية
أحمل هذه الحقيبة بيد وأحمل طفلك الصغير باليد الأخرى… وأنا سأهتم
بالطفلين الآخرين .
وقفوا في الطابور المؤدى إلى شباك تأشيرات الدخول،التفت إلى الوراء فرأى
مجموعة من الناس لا يعرفهم، إذ كان البعض منهم على نفس الطائرة و البعض
الآخر قدم من بلدان مختلفة، تناهى إلى سمعه صوت طفل رضيع باك، حينها
تذكر شيئاً من طفولته…
أول ما دخل المدرسة في الخمسينيات من هذا القرن كان يرتدي سروالاً
قصيراً مقلماً بخطين بيضاوين على الجانبين .في اليوم الأول أحفظه نشيداً مازال
يردد صداه حتى هذه اللحظة مليكنا… مليكنا… نفديك بالأرواح … عش
سالماً عش غانماً بوجهك الوضاح .
بعد انتهاء الدوام عاد إلى بيته مروراً بشارع عشرين الذي غطت أرضيته الترابية
المياه الآسنة والأوحال إثر مطر شتوية دامت ثلاثة أيام بلياليها فراحت أقدام سكان
الصرائف تغوص في الطين إلى حد الركبتين إذا أرادوا الخروج من أكواخهم
المرصوفة على الجانبين . أما هو فلم يبال بهذا وظل مشغولاً بشيء آخر . الفرح الذي يتأجج في صدره بعد أول يوم من عمره الدراسي .
في المساء تجمعت العائلة كعادتها حول الموقد داخل الغرفة الوحيدة من غرف
الدار التي بنيت حديثاً من الطابق، عندها سأله أبوه
يا ابني… شنو اللي تعلمته اليوم بالمدرسة؟
نهض ليقرأ النشيد وما أن انتهى حتى ضحك وقال
بويه… من هو الملك؟
هو فيصل الثاني ملك العراق . فكر ملياً بهذا الاسم، حاول أن يرسم له صورة في مخيلته، فهو لم يرّ صورته
حتى في الأحلام، ولم يسمع به من قبل، فلماذا طلبوا منه إذن أن يحفظ هذا
النشيد في اليوم الأول ؟ حتى الملا حلبوص الذي يحمل بيده عصا خيزران
طويلة كي يحفظ هو وأقرانه القرآن لم يطلب منه يوماً أن يحفظ هذا النشيد،
إنها أسئلة ملحة لم يجد لها بعد إجابة واضحة
شنو هو عمله ؟ و وين يسكن ؟
مسح أبوه عينه الكريمة التي اغرورقت بالدمع جراء دخان الموقد الكثيف
هو ما يعمل… الملوك ما يعملون … الملوك يحكمون وبس… أما وين
يعيش… هو يعيش بأحد القصور العالية… بقصر الرحاب أو قصر الزهور
ببغداد .
وبغداد هي هم مثل مدينة المنتفخ شوارعها كلها طين ؟ وبيوتها هم من
قصب مثل بيوتنا ؟
ضحك أبوه فضحك الجميع من بعده
بغداد شوارعها كلها مبلطة وبيوتها مبنية من طابق… وأهلها كلهم يحكون
باللعد والليعني… بغداد غير شكل يا إبني… حتى نسوانها غير شكل .
الأم رمقته بنظرة حادة فصاح الأب بصوت عال
زايره قومي جيبي النفط والخشب… الموقد راح تنطفي ناره .
قاطعه ضابط التأشيرات بلغة إنكليزية مصحوبة بلكنة ألمانية واضحة
هل أنتم قادمون للسياحة؟
نعم للسياحة .
ماهي مهنتك؟
…… .
نظر الضابط إليه بتمعن كبير ، ثم أخذ ينقل نظره إلى جواز السفر تارة و إلى
وجهه تارة أخرى، بعدها قال
أنتظر .
نعم ما عليه إلا الانتظار فهو لا يملك حيلة أخرى،التفت إلى زوجته فوجد نفس
التعبير مرسوماً على وجهها، إنها الحيرة، إنه الخوف من العودة ثانية، وهذا
التعب الذي يسري في كيانهم كأنهم جاءوا من بلاد مجهولة لا تعرف النوم ولا
الراحة أبداً .
هذه الأحاسيس كانت تزدحم في صدورهم، ولولا ثياب الشتاء السميكة لبانت
خفقاك قلوبهم المتسارعة، إلى أن عاد الضابط مبتسماً فهدأت خفقات القلوب
قليلاً .
قال الضابط بعد أن ختم جواز السفر
نتمنى لكم إقامة سعيدة في برلين عاصمة جمهورية ألمانيا الديموقراطية .
دخلوا إلى صالة الأمتعة، أحس بالدوار فهو لم يذق طعم النوم منذ ثلاثة أيام،
وكان حزام الحقائب يدور ورأسه أيضاً
ها هي حقيبتنا الأولى… والثانية… وتلك هي الثالثة .
هتف الأطفال بوضوح فاقترب منهم رجل يبدو من هيئته إنه مواطن ألماني
مرحباً… هل أنت عربي ؟
أجابه والدهشة مازالت عالقة في فمه
نعم .
لقد كنت مسافراً معكم في نفس الطائرة… ألم تلاحظ ذلك؟
كلا مع الأسف… أنت بلا شك مواطن ألماني .
أجل… أنا قادم من الشرق الأوسط حيث تعلمت اللغة العربية هناك .
بعد حديث طويل بينهما أحس بأن فرصة المساعدة قادمة دون ريب، إذ أن
بمقدور هذا الرجل الذي يدعى نوبيرت مساعدتهم في أرض لا يعرفون فيها
أحداً بعد، تناول نسخة من كتابه الأول وكتب عليه الإهداء التالي
إلى الإنسان الذي لا أعرفه والذي ألقيته صدفة… أتمنى أن نلتقي دائماً .
أخذ نوبيرت الكتاب وشكره كثيراً ثم أعطاه عنوانه ورقم تلفونه
هل تستطيع مساعدتنا؟
أي نوع من المساعدة ؟
تردد هو قليلاً ثم قال
بصراحة… نحن لم نأت إلى هنا للبقاء في برلين الشرقية… بل نحن عازمون
على الذهاب إلى برلين الغربية لأن لنا فيها العديد من الأصدقاء…المشكلة أننا
لا نملك تأشيرة الدخول إلى هناك .
زفر نوبيرت زفرة حادة وأجاب بودي أن أساعدكم لكني لا أستطيع… فقصتي مع البوليس الألماني قصة طويلة
جداً ستعرفها فيما بعد… إذا حالفكم الحظ وتمكنتم من العبور والتقينا هناك .
الخيبة ارتسمت على وجهه، ولم يجد أي تعبير عن نفسه، فربت نوبيرت على
كتفه قائلاً
أنا آسف… تلك البوابة مخصصة لعبورنا إلى برلين الغربية… أتمنى لك
العبور إليها وهناك سنلتقي حتماً بعد أن تكلمني تلفونياً… وداعاً .
دلف نوبيرت البوابة وأشار بيده إشارة الوداع، أما هو فقد حمل الحقائب إلى
صالة المطار الخارجية واحدة تلو الأخرى بصعوبة، ثم طلب من زوجته وأطفاله
الانتظار قليلاً قرب الحقائب، عله يعثر على صديق ما جاء لاستقباله من برلين
الغربية، نعم ، إن أصدقاء الطفولة يعرفون ساعة قدومه جيداً ، فقد أخبرهم
بذلك عبر الهاتف و عن طريق الرسائل ، ولكن كيف يمكنه التعرف عليهم و
كيف يمكنهم أن يتعرفوا عليه وسط هذا الزحام ؟ لقد مرت فترة طويلة منذ
أن افترقوا، عشرة أعوام، خمسة عشر عاماً وربما أكثر ، إنه لا يدري ، لا
يدري، وما عليه إلا أن يبحث عن أحدهم .
كان يتنقل بين الجموع و هو يتطلع بالوجوه،ويردد بلهجة مدينته الجنوبية كي
يتعرفوا عليه
وين أنتم يا ربعي… أنا ما جاي أشوف واحد منكم… وين رحتوا ؟
ربما ظن الآخرون الذين في المطار بأنه مجنون حقيقي، فهيئته المتعبة تدل على
هذا وصوته المرتفع أيضاً، وكيف لا وهو الذي يتحدث مع الآخرين بكلمات
يجهلونها وتشبه هلوسة المجانين ؟
أخيراً تيقن بأن لاوجود لأحد من أصدقائه، ولما يئس عاد إلى زوجته وأطفاله
لم يأت أي واحد منهم … عليّ أن أذهب إلى الاستعلامات لنأخذ تاكسي
إلى المدينة…
قاطعته زوجته قائلة
لماذا تطلب تاكسي… فأنت تعرف بأننا لا نملك سوى ثلاثمائة مارك فقط؟ الا
نستطيع الذهاب بالباص؟
أجابها بجزع
لكن الباص ذهب قبل مدة بينما كنت أبحث عن أصدقائي .
تركهم وأتجه إلى استعلامات سيارات الأجرة ، كان الموظف لا يعرف شيئاً من
الإنكليزية سوى بضع كلمات ، و بمساعدة رجل آخر قام بالترجمة عرف أنه
بحاجة إلى سيارة تقله بمعية عائلته إلى المدينة
إلى أي مكان في برلين ؟
أخرج من حقيبته اليدوية ورقة كتب عليها اسم إحدى شوارع برلين حينما كان
في دمشق
إلى فردريش شتراسه… إلى أي مكان قريب منه .
ماذا تعني بأي مكان قريب من فريدريش شتراسه ؟ هناك لا يوجد سوى فندق
ألمتروبول… هل تريد الذهاب إليه؟
نعم .
إذن هات نقودك .
أعطاه مائة مارك غربي، وبعد ربع ساعة تقريباَ خرج موظف الاستعلامات ليصحبه
هو وعائلته إلى الخارج، حيث كانت السيارة بالانتظار .
هاهم يسيرون إلى الأمام والبيوت على جانبي الشارع مبلولة بالمطر، وهنا وهناك
كان الماء يقطر من الأغصان الجرداء، أما هو فقد حدث نفسه قائلاً
أخيراً هاهي برلين… مدينة الحرب و الدمار في الماضي و المطر هو نفسه
دائماً… أنا أحبك أيها المطر لأنك تغسل وجه الأرض .
صمت لحظة، ثم راحت عيناه تتفرسان في البيوت والمباني الكثيرة وكأنهما تبحثان
عن آثار الدمار، ولكن أين هو ؟ أين هذا الدمار الذي حل بهذه المدينة المعروفة
والذي قرأ عنه كثيراً وشاهده مراراً في الأفلام ؟ ربما أصبح من ذكريات الماضي
المنسية ربما كان كابوساً ثقيلاً قد انتهى بعدما أفاقت هذه المدينة من رقادها
الطويل، و لكن يا للعجب من هذه المدن التي تتغير دائماً تاركة المأساة وراءها
بحثاً عن زمن آخر وعن حياة جديدة…
بيد أن مدينته لم تتغير منذ مطلع هذا القرن حتى يومنا هذا ، نهر الفرات مازال
يجري كعادته وديعاً مسالماً وكأنه يناجي سعف النخيل المطل على الجانب منه
مناجاة عشق أبدي لا يوصف، جسر الخشب مازال هو الآخر يوصل ضفة المدينة
بالضفة الأخرى، شارع الشط، الاستهلاك، محطة ناجي عجام للثلج، صرائف
الصابئة ، سوق الصاغة ، شارع عقد الهوى ، القيصرية ، شارع السيراي ،
القائمقامية، المستشفى، الصفاه… كل هذه الأماكن لم تتغير إلا اندر وببطء
شديد ، وكأن لا علاقة لها بمتغيرات الزمن وبحركة الكون، وما الجدوى من
هذا التغيير ما دامت أمراض الجدري والجذام والكوليرا والطاعون قد أكلت
من أجساد وأفئدة وعيون الكثير من أبنائها ردحاً طويلاً من ألزمن ؟ لذلك لم
يبق إلا اليأس .
إن أي تغيير بسيط للغاية ينتشر بسرعة عجيبة في ربوع المدينة من أدناها إلى
أقصاها، فلان بنى غرفة من الطابوق بدلاً من الطين،بعد فترة سيهدمون العزل
وسينقلونه بعيداً عن المدينة، الله يبعدنا عن شر المرضى وأمراضهم الخبيثة،
هذه ألسنة ستكون الزيارة إلى كربلاء بسيارات الخشب بدلاً من اللوريات،
يقولون أن الحكومة ستوزع على الطلاب اليتامى ملابس و أحذية في المدارس
هذا العام .
لكن خبراً جديداً قد هزّ هذه المدينة هزاً عنيفاً، إذ ذات يوم صدر مرسوم ملكي
بتحويلها إلى مدينة الناصرية بدلاً من قضاء المنتفك وتعيين متصرف لها عوضاً
عن ألقائمقام، يومها كانت أمه واقفة وراء التنور تخبز أرغفة الغداء والعشاء
معاً وأخوته وأخواته كانوا حولها ينتظرون الأرغفة الحارة،آنذاك قدم أبوهم من
الخارج لاهثاً وواضعاً يده على عقاله وفمه يزبد
زايره… يا زايره… سمعتي بالخبر؟
ألأم تركت التنور والخبز وهبت مسرعة إليه
شبيك ياستار… صار شي لا سامح الله ؟
ما صار إلا الخير…إبشري يا مرة… المنتفك صارت مدينة أسمها الناصرية
ضحكت الأم في البدء ثم أطلقت هلهولة قصيرة ساخرة تعبيراً عن خيبة أملها،
فوضع الأب يده على فمها ليسكتها
إسكتي… إسكتي… شهرتينا قدام الجيران .
بعد أن سكتت ألأم أردف قائلاً
إنتي جاهلة وما تفتهمين أي شي… المدينة راح تكبر و تتوسع و يجوز تصير
مثل بغداد … هذا معناه بأن الحكومة راح تبني بيوت للناس من طابوق بدل
هذي الصرايف… والشوارع راح تتبلط…كل هذا العمار يحتاج إلى طابوق
وأنا الوحيد بهذي المدينة إللي يملك كوّر الطابوق… يعني راح يتوسع رزقي
وراح أبني بدل ألكوّر معامل تشتغل بالكهربه مو بالنفط الأسود .
ما زالت ألأم تنظر إليه بتلك النظرة الساخرة طيلة حديثه ، وفي النهاية ردت
عليه بصوت عال
مبارك… مبارك… عيش يا حمار لما يجيك الربيع … معامل طابوق تشتغل
بالكهربه هيه أهيه خلي الكهربه إتضوي بيوتنا بالأول حتى نخلص من
الفوانيس وألفتا يل… مو عمت عيونا
هزت يدها هزات عدة، بعدها ذهبت إلى التنور ونظرت إلى عمقه فصاحت بغتة
الخبزات احترقت كلها… كلها صارت سوده مثل الفحم… إيه … خلي
الحكومة توكلكم خبز اليوم .
ضحك وهو يسترجع تلك الأيام، ثم تعالت ضحكاته بشكل مسموع وهو داخل
سيارة التاكسي، مما أثار انتباه السائق الذي ضحك هو الآخر دون سبب
لماذا تضحك يا سيد ؟
هاه إنها عادة قديمة تلازمني حينما أرى المطر… نعم… المطر هو الفرح
وهو الحب… هو الذكرى… أليس كذلك ؟
أجاب السائق وهو يتطلع بالمرآة
معك حق يا سيد .
بعدها صمت برهة من الزمن وسأل فجأة
هل أنت سائح… أقصد أنتم جميعاً؟
شعر هو بالإحراج من سؤال السائق المباشر، تردد قليلاً وأجاب
أجل .
إنه ألان يشعر بالخجل ، يشعر بالمرارة ، لقد تمنى في الماضي يأتي إلى هنا
سائحاً، تمنى أن يتعرف بحرية على هذه المدينة ليعرف شيئاً عن خطيئتها الكبرى
التي ارتكبتها بحق جميع البشر، وتمنى أيضاً أن يعرف الكثير عن حضارتها وعن
ثقافتها السابقتين، آه يا غوته يا شيلر يا بريشت لماذا قامت الحرب ؟
/5/2012 Issue 4211 – Date 28 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4211 التاريخ 28»5»2012
AZP09