الثيودسا أو مشكلة الشر

الثيودسا أو مشكلة الشر
د.جعفر حسن الشكرجي
الثيودسا Theodicy مصطلح ابتكـــــــره الفيلسـوف الألماني غوتفريد ولهلهم ليبنتز G.W.Leibniz 1646 ــ 1716 ، وجعله عنوانا لأحد أكبر أعماله الذي كتبه باللغة الفرنسية Essais de Theodicee أبحاث في العدالة الإلهية ، ونشر عام 1710. ومصطلح Theodicy مشتق من كلمتين يونانيتين Theos الله و Dike العدالة . وتطلق على تلك المحاولات التي تهدف إلى التوفيق بين المفهوم التقليدي لله، الواحد الكلي القدرة وكلي الخير، ووجود الشر في العالم، وتبرئة الله من تهمة أن يكون سبب الشر والمشاركة في تعذيب البشر، ودفع حجج المستدلين من وجود الشر على عدم وجود العناية الإلهية.
وتسمى مشكلة الثيودسا أيضا بمشكلة الشر The problem of Evil ، و يدخل موضوعها في نطاق فلسفة الدين.
والمعنى العام للشر، كما ورد في موسوعة لالاند الفلسفية كل ما هو موضوع استقباح أو ذم و لوم، كل ما يكون وكأن للإرادة الحق في معارضته شرعيا وتعديله إذا أمكن . والشر نوعان الأول هو الشر الأخلاقي كالكذب والسرقة والقتل، والشر الطبيعي كالأمراض والزلازل والأعاصير.
وقد أقترحت أنماط متعددة من الثيودسا في الفلسفة الغربية، غير أننا سنكتفي بعرض أهمها وهي أربعة
1 ــ ثيودسا القديس أوغسطين
إن الإجابة التقليدية المسيحية لمشكلة الشر صيغت لأول مرة على يد القديس أوغسطين Augustine.St 354 ــ 430 م والخطوط الأساسية لهذه الإجابة قد اتبعت من قبل عدد كبير من المفكرين المسيحيين اللاحقين. ويمكن القول إن محاولته لحل التناقض بين وجود الشر ووجود الله هي أول محاولة موسعة وجدية ومنظمة في مجال الفكر الديني.
إن كل ما هو موجود , بنظر أوغسطين,هو خير,لأن كل ما خلق الله هو حسن,كما جاء في الكتاب المقدس. فإذا كانت جميع الأشياء التي خلقها الله خيرة, فإن ما نعده شرا ليس جوهرا,لأن لو كان جوهرا لكان خيرا, فإن ما نعده شرا ليس جوهرا, لأنه لو كن جوهرا لكان خيرا,فهو في حقيقته عدم الخير, ومن ثمة هو لا وجود. وهذا يعني أن الوجود و الخير متساوقان. وبناء على ذلك , لا يمكن أن نقول إن الله هو سبب شيء غير موجود أو سبب غياب الخير , إن أوغسطين بهذا الأسلوب , يحاول أن يبرأ الله من تهمة أن يكون موجد الشـر في العالم ,فالخيرية , إذن , صفة جوهرية لله , فهي ليست شيئا أن يصادف أن يملكها الله , بل هي شيء يملكها الله بالضرورة.
ويؤكد أوغسطين أن الشر الأخلاقي ينتج أساسا من إرادة الإنسان الحرة , غير أن هذه الإرادة لم تخلق شريرة ولا حتى غير مكترثة بالخير أو الشر , ولكـنها خلقت خيرة. و تفسد هذه الإرادة عندما تتخلى عن الخير الأعظم، الذي هو الله، وتلتفت إلى خيرا أدنى، فهنا لا يوجد شر خارج الخير. فهو ليس جوهرا وقائما بذاته، بل هو عرض في الموجود الحر. وكما أن المرض هو غياب الصحة عن البدن، فكذلك الخطيئة غياب الصحة عن الإرادة.
وإذا كان سبب الشرور الأخلاقية هو إنحراف الإرادة الإنسانية، فإن الشرور الطبيعية، كالأوبئة و المجاعات و البراكين، هي عقاب على إنحراف هذه الإرادة، وهو يعكس العدالة الإلهية. وهذا هو معنى قول أوغسطين إن كل شر إما خطيئة أو عقاب على هذه الخطيئة .
2 ــ ثيودسا لبنتز
ترتبط مشكلة الشر عند ليبنتز، الذي وضع مصطلح الثيودسا كما ذكرنا في بداية هذا المقال، بنظريته في أن هذا العالم هو أحسن العوالم الممكنة، إذ لما كانت أفكار الله تحتوي على عدد لا حصر له من العوالم الممكنة التي يستحيل أن يوجد منها إلا عالم واحد، فيلزم أنه كان هناك سبب كاف لاختيار الله، جعله يفضل هذا العالم بعينه دون غيره، وهذا السبب هو أن هذا العالم هو أحسن العوالم الممكنة.
ولكن إذا كان هذا العالم هو أحسن عالم ممكن، فكيف نفسر، إذن، وجود الشر وهو سائد فيه ؟
يجيب ليبنتز على ذلك بأن كل الشرور الفعلية في العالم هي عناصر جوهرية فيه، ولذلك فإن حذف أحد هذه العناصر سيؤدي إلى فساد تصميم العالم كله. صحيح أن بوسع المرء أن يتصور عوالم ممكنة لا خطيئة فيها ولا ألم، ولكن هذه العوالم لابد أن، تكون أدنى قيمة من عالمنا منزلة. إذ لو لم توجد إلا الفضيلة وحسب، كان مقدار الخير الحاصل أقل، فعندما قيض لميداس Midas ملك فريجينيا في الأساطير اليونانية أن لا يملك إلا الذهب، بات أفقر مما كان. فوجود الشر، إذن، مطلوب لخير أعظم ولعالم أجمل، فإذا كان وسيلة لهذين الهدفين، خرج عن كونه شرا،وأصبح خيرا، لذلك فإن الله يسمح به.
وعلى هذا الأساس يبرر وجود الشر الأخلاقي، وهو الخطيئة و يقصد به النقص الموجود في الفعل الإنساني، الذي يفتقد إلى الكمال الأخلاقي الذي يجب أن يكون حاضرا فيه. يؤكد ليبنتز أن الله لا يرغب بوقوع مثل هذا الشر، ولكنه يرغب أن يحوز المخلوق بخيرية حرية الإرادة، عالما بأنه يرتكب الشر أحيانا، ومع ذلك فإنه يسمح به، وإن كان لا يرغب فيه، وذلك لإنتاج خير أعظم في العالم. فلولا خيانة يهوذا لما صلب المسيح وخلص البشر.
وعلى الأساس نفسه يبرر ليبنتز الشر الطبيعي، وهو يمثل اعتراضا مهما من الاعتراضات على ذلك التناغم الجميل الذي يقدم الطبيعة على أنها نظام يتميز بنوع من الاستقرار. يجيب ليبنتز على هذا الاعتراض بأن الشرور الطبيعية كالفيضانات تدفعنا أن نطور بعض النتائج المفيدة، بصورة تجعلنا، بشكل من الأشكال، تربح من تلك الخسارة.ويرى أيضا أن الشرورالطبيعية لها أثر ملحوظ في نواحي متعتنا, لأن أجمل الألحان لا يمكن أن تخلو من بعض الأنغام المتنافرة.
ــ ثيودسا الصيرورة
إن الممثل الرئيسي لهذه الثيودسا في الوقت الحاضر حركة تعرف بلاهوت الصيرورة Process Theology ، تأثرت بفكرة الصيرورة عند الفيلسوف الإنكليزي ألفرد نورث هوايتهد A.N.Whitehead 1861 1947 ، وهي تدافع ، عن خيرية الله بتجنب الاعتقاد بأن الله كلي المقدرة. إذ تؤمن بأن الله محدود في قوته، غير أنه يتفاعل مع صيرورة الكون، الذي لم يخلقه، ولكنه مع ذلك قادر على أن يؤثر فيه.
وتؤكد ميتافيزيقا لاهوت الصيرورة أن الشر جزء متأصل في الصيرورة الخلاقة للكون. والله، مع أنه غير قادر على منع الكثير من الشرور، فأنه يواصل جهده بشكل كاف على الاكثار من الخير و زيادة انسجام و ثراء الكون إلى الحد الأقصى.
إن هذه الثيودسا تتجنب المشكلة التقليديــة التي تنشأ من الاعتقاد في القدرة المطلقة لله. إذ لم يعد الله في هذه الثيودسا يتميز بالقدرة الكلية وخالق الكون و مسئول عن صفاته، ولكنه جزء مع انه جزء رئيسي بشكل فريد من الكون . وأصبح غير قادر أن يغير بنيته الجوهرية، ولا أن يتدخل في تفصيلاته المتغيرة بشكل مباشر. وهكذا فإن الله ليس بحاجة أن يسوغ وجود الشر في الكون، ما دام لايقع ضمن سلطته.
وهذه الثيودسا تناشد الناس أن ينشطوا للقتال بجانب الله في الكفاح، الذي لا ينتهي أبدا، ضد شرور العالم العقيدة.
ــ ثيودسا جون هيك
إن ثيودسا اللاهوتي وفيلــــــــــسوف الدين الإنــــــــكليزي جون هيك John Hick 1922 ــ 2012 لا تهتم بالأسباب التي تجعل الله أن يسمح بوقوع الشر، ولكن تجادل فقط بأن وجود الله منسجم مع وجود الشر.
لقد كان أمام الله، كما تذهب هذه الثيودسا، خياران إما أن يخلق عالما يحتوي على كائنات تتمتع بحرية الإرادة تفعل الخير كما تفعل الشر، أو أن يخلق عالما يحتوي على كائنات تبرمج على فعل الخير دائما. إلا أن هذا العالم الثاني، مع أنه خال من الشر، ستفتقد الكائنات البشرية فيه حرية الإرادة ، وهي القيمة السامية بالنسبة لله وبالنسبة لنا. ولهذا كان العالم الذي يتضمن كائنات ذات إرادة حرة هو أفضل من أي عالم آخر ليس فيه كائنات من هذا النوع.
وعلى هذا الأساس اختار الله أن يخلق هذا العالم الذي يتضمن مخلوقات تتميز بالإرادة الحرة. ووفقا لذلك فإن الشر الأخلاقي، وهو الشر الذي تكون الكائنات البشرية مسئولة عنه، يرجع إلى سوء استخدام الإرادة الحرة. ومثل هذا الشر يمكن التخلص منه فقط بواسطة الله، وذلك بتحويلنا إلى دمى لا تملك الاختيار الحر الذي يقودها إلى الضلال.
أما وجود الشر الطبيعي، وهو الشر الذي لا تكون الكائنات البشرية مسئولة عنه، فإنه يجب أن يفهم بلغة المفهـــوم المسيحي لهــدف هذا العالم وهو بناء الروح Soul ــ building ، أي تطوير الشخصية الأخلاقية.
إن غاية الله من خلق العالم، ليس هو أن ينشئ جنة، حيث ينعم سكانها بأقصى درجة من السعادة و أدنى درجة من الألم، ولكن بالأحرى أن ينشئ مكانا للتحديات والأخطار التي تجبر الكائنات البشرية أن تصارع النزاعات الأخلاقية الصعبة والاختيارات الأخلاقية الضرورية للنمو الأخلاقي.
إن الشرط الضروري منطقيا لمثل هذا العالم، هو وجود الشر الطبيعي. فعلى سبيل المثال، تجعل هذا الشر من الممكن للكائنات الإنسانية تطوير سجايا أخلاقية كالتعاطف والإيثار والشجاعة.
AZP09

مشاركة