التعليم الجامعي بين الخدمة الإستهلاكية والإنتاجية
معتصم السنوي
من المعلوم أن التخطيط الدقيق والبعد عن الأرتجال هو أول وأوضح مظاهر الديمقراطية، وأقرار بحقيقة ترقى في وضوحها إلى مرتبة (البديهية) المسلم بصحتها من الجميع: ومع ذلك فأن تطبيق (مبدأ التخطيط) في مجال التعليم الجامعي ما زال يسير في أول مراحله، ولا يمكن القول أن النظم الجامعية -على الرغم مما يطرأ عليها من تغيرات مستمرة- قد أصبحت بالفعل خاضعة لتخطيط علمي بالمعنى الصحيح على أنه من المستحيل أن تعرض جميع التفاصيل المطلوبة في التخطيط الجامعي السليم في مقال واحد أو أكثر وهذا ما فعلناه في السنوات الماضية، آخرها مقالنا بعنوان: جامعة اليوم والمستقبل- وبتاريخ 6 تموز 2012 فضلاً عن أن الموضوع أوسع وأخطر من أن يستوعب ذهن واحد جميع أطرافه، لذا سيتم في هذا المقال الاقتصار على عرض (بعض) المبادئ العامة للتخطيط، وعلى أستخلاص النتائج التي يؤدي إليها تطبيق هذه المبادئ على نظم التعليم الجامعي. وفي أعتقاد خبراء التعليم (العرب والأجانب) أن فكرة التخطيط ذاتها تنطوي على ثلاثة مبادئ رئيسية:
1- المبدأ الأول هو تحكيم (العقل) وأستبعاد العواطف والرغبات المباشرة، ذلك لأن الاستسلام للمصالح المباشرة يؤدي إلى أتباع أسلوب أرتجالي يحرص فيه الفرد أو الدولة على أرضاء رغباته كلما ألحت عليه، على حين أن سماع صوت العقل هو الذي يتيح له أسكات صوت الرغبة المباشرة في سبيل نفع أبعد مدى وأكثر دواماً، على نطاق الاقتصاد القومي، تتجه إلى أشباع الحاجات الاستهلاكية اليومية للمواطنين، بحيث أن الأخذ بمبدأ التخطيط إنما يعني في هذه المرحلة، (التنازل) عن أرضاء الرغبات القصيرة الأمد في سبيل هدف بعيد تحكم في تحديده العقل لا العاطفة.
2- والمبدأ الثاني هو الربط -أفقياً- بين ظواهر تبدو متباينة لأول وهلة فأساس التخطيط هو النظرة الشاملة إلى الظواهر، والجمع بين العناصر المتفرقة في كل واحد. ومن هنا كانت الخطط الاقتصادية تجمع بين ظواهر يخيل إلى المرء أنها لا ترتبط فيما بينها على الإطلاق: كالظواهر التشريعية والمالية والصحة والثقافية، وأساس عملية الربط هذه هو الاعتقاد بوجود تأثير متبادل بين كل عناصر حياة المجتمع، وبأن أي عنصر لا يمكن أن يظل منعزلاً عن الباقين وإنما تجمع الكل وحدة شاملة.
3- والمبدأ الثالث هو الربط -رأسياً- بين فترات زمنية متباعدة. فكل تخطيط هو بطبيعته متطلع إلى المستقبل، وهو يتضمن بالضرورة عنصراً من التنبؤ بما ستكون عليه الأحوال فيما بعد، ويرسم سياسة لا تنطبق على الأحوال الراهنة، وإنما على الأحوال التي ستؤدي إليها التطورات المتوقعة المحسوبة على أساس علمي، وبعبارة موجزة فأن التخطيط هو تطلع الحاضر -لى المستقبل من أجل (التحكم) فيه على أفضل صورة ممكنة.
إذا كان أول مبادئ التخطيط هو تحكيم العقل واستبعاد العواطف فأن هذا كثيراً ما يغفل عند تفكيرنا في مشكلات التعليم الجامعي، وعندما يكون الأمر متعلقاً بالسياسة التعليمية للبلاد-وهو أمر له خطره العظيم- فمن الواجب أن ننحى العواطف جانباً وتلجأ إلى العقل وحده ليرشدنا في التخطيط. وهنا يمكننا أن نحل أي إشكالية تعترض التطور الجامعي المنشود. والمبدأ الثاني للتخطيط هو الربط الأفقي بين ظواهر تبدو متباعدة لأول وهلة، والنظر إلى عناصر الحياة الاجتماعية نظرة متكاملة، وحين نطبق هذا المبدأ على مشكلات (التنظيم الجامعي) يجد الباحث نفسه في مواجهة مسألة على جانب كبير من الأهمية: وأعني بها مسألة تحديد طبيعة الدور الذي يؤديه التعليم الجامعي في المجتمع، وهل هو (خدمة استهلاكية أم مرفق إنتاجي) يؤدي ارتقاؤه إلى أرتفاع الحصيلة الكلية لإنتاج المجتمع. وأما المبدأ الثالث في التخطيط، وهو التطلع إلى المستقبل، فربما كان أهم مبادئه جميعاً. ومن المؤكد أن تطبيقه بدقه على مشكلات التنظيم الجامعي يؤدي إلى نتائج بالغة الأهمية. والآن فما هي دلالة هذه الخاصية التي يتفرد بها التخطيط في ميدان التعليم الجامعي؟ أنها تعني عندما يخطط اليوم لسياسة تعليمية جديدة، فينبغي أن يضع في أذهان المخطط ما ستكون عليه الأحوال بعد عشر سنوات، صحيح أن التكهن بما سيتحول إليه بعد عشر سنوات أمر عظيم الصعوبة، ولكن هذه الحقيقة تنبه، على الأقل، إلى الخطأ الكبير الذي يقع فيه كل من يحاول أن يرسم سياسة للتعليم الجامعي تكون مبنية على دراسة أحوالنا الحاضرة فحسب..! تلك أذن هي العناصر الرئيسية للتخطيط كما تطبق على ميدان تنظيم التعليم الجامعي، وهذا التطبيق أصبح أمراً لا مفر منه في هذا الميدان الحيوي ولا سيما نحن في مرحلة البناء الداخلي لمجتمع قوي متماسك يسوده الرخاء. أما التعليم الجامعي يلعب دوراً على أعظم جانب من الأهمية: إذ أنه هو المسؤول عن تزويد البلاد بالاختصاصيين الذين يضطلعون بمهمة تنفيذ خطط النهوض الاقتصادي والاجتماعي، بل ووضع هذه الخطط أيضاً، ومن هنا فأن (الخطأ) في هذا الميدان يؤدي إلى نتائج خطيرة، على حين أن (النجاح) في هذا التخطيط يضمن لنا أفضل أنتفاع ممكن بكل ما نضعه لنهضة بلادنا من مشاريع..!