التعزير وسرقة المال العام

التعزير وسرقة المال العام
د. حسن حنفى
يحمى النقاش داخل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور وخارجها حول تطبيق الشريعة الإسلامية عامة، وكيفية صياغة المادة الثانية بين الخاص والعام، بين أحكام الشريعة ومبادئ التشريع، بين قانون العقوبات ومقاصد الشريعة، بين الوسائل والغايات. وتنقسم الأمة إلى فريقين إسلاميين ينادون بتطبيق الشريعة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وفى آيات أخرى الظَّالِمُونَ ، الْفَاسِقُونَ ، و العلمانيون إن صحت هذه التسمية الذين يراعون وضع الأقباط فى مصر، ويحرصون على مبدأ المواطنة، والالتزام بالقانون المدنى. فمصر دولة مدنية وليست دولة دينية، والقانون الوضعى قادر على تحقيق مقاصد الشريعة وأهدافها فى الحفاظ على الحياة والعقل والعرض والمال، واحترام الأديان جميعا، والدفاع عن حرية الاعتقاد.
وتطبيق الشريعة الإسلامية فى ذهن أنصارها هو تطبيق العقوبات الشرعية الجلد والرجم وقطع اليد والصلب أى العقوبات الجسدية، فالشريعة منع وزجر وقمع وتحريم وعقاب. تتعلق معظم أحكامها بالجنس الحجاب، والفصل بين الرجال والنساء فى الحياة العامة، وتعدد الزوجات، وقوانين الشهادة والميراث، ووضع المرأة فيها. والعقوبات فى مقابل التقاعس عن الإتيان بالواجبات. والواجبات فى مقابلها حقوق. فلا يمكن تطبيق العقوبات الشرعية كإخلال بالواجبات إلا بعد إعطاء الحقوق، حقوق المواطن فى بيت المال، فى الغذاء والكساء والعلاج والتعليم والعمل والإسكان والزواج قبل قطع يد السارق ورجم الزاني أو جلده.
لقد توقف الفقه القديم فى المذاهب الأربعة على العقوبات الشرعية بعد العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية. ولم يتعرض للمسائل الاجتماعية والسياسية العامة نظرا لاحتكار السلطة لها، باستثناء تبرير الإمامة أو الأحكام السلطانية أى ربط النسق القانونى كله بالسلطان. فأصبح فقه القدماء فى غالبه فقه السلطة. يشرّع لقتال البغاة والخوارج والمرتدين. ويستعد للجهاد ضد الأعداء فى الخارج استئنافا للفتح الإسلامى الأول. فى حين طورت المعارضة فى الفقه الشيعى، الإمامى والزيدى والجعفرى، والفقه الأباضى، فقه الخروج على الإمام، والثورة على النظام. أما الفلاسفة فقد طوروا نظرية فى الملك أو الدولة أسوة باليونان أو الفرس أو البيزنطيين. اكتفى فقه القدماء بتطوير نظم القضاء كوسيلة للضبط الاجتماعى ومنها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ودرجاته باليد أو اللسان أو القلب، والحسبة وهى الرقابة على الأسواق والأسعار والموازين، وليس التفتيش فى الضمائر والعقول والاتهام بالكفر والخروج عن الدين. وأهم شىء فى القضاء هو شخص القاضي، عدله وذكاؤه وفطنته كما هو الحال فى أدب القاضى والقضاء . أما استقلال القضاء فكان هامشيا. فإما الحكم بما يريد السلطان أو العزل والسجن. ولهذا ظهر مصطلح فقهاء السلطان .
النظام القضائي
والتعزير جزء من النظام القضائى. لا يكاد يبرزه أحد أو يعتمد عليه ممن ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية. ولا يحتج به من يعارضونها تثبيتا لمواقفهم. والتعزير هو الرجوع إلى الحاكم لتشديد العقوبة على جرائم الفساد العام ونهب أموال الدولة. فالحكم بقطع يد السارق حكم القاضي اذا توفرت الشروط وغابت الموانع مثل الجوع والمرض والعرى والتشرد والبطالة. وهو لا يكفى فى حالة نهب المال العام، وتهريب الأموال إلى الخارج، والعمولات والسرقات والرشى من رجال الأعمال تسهيلا لعقودهم حتى أصبحت الأموال المنهوبة فى نظام الحكم السابق فى مصر تعادل الدخل القومى. وتفوق مئات المرات حجم المعونات الخارجية، الأمريكية او البنك الدولى أو الدول النفطية. والتعزير لغةً هو الرد والمنع، واصطلاحاً تعظيم العقوبة وتشديدها فيما لا حد فيه ولا قصاص ولا كفارة مثل سرقة أبراج الكهرباء ومقالب القمامة المعدنية الزهر . وإذا كان القدماء قد وضعوا حدا أعلى للتعزير فإن المحدثين قد يرفعونه جزئيا أو كليا طبقا لعظم الجرم فى نهب المال العام بالمليارات، والغرض إيلام مرتكب الجرم إلى الحد الأقصى كما آلم هو ملايين المواطنين. ويعادل التعزير فى الفقه القديم القضاء الاستثنائى الذى يقدم إليه مرتكبى الجرائم الكبرى وليس القضاء الطبيعى. ويعادل أيضا محاكم الثورة التى لا تحتاج إلى أدلة لإدانة الإقطاعيين وكبار الرأسماليين ورجال القصر وباشوات الأحزاب كما حدث بعد ثورة يوليو 1952. وهو ما نقص ثورة يناير 2011، وأطال حكم رجال الفساد ونهب المال العام. فالقضاء الإدارى العادى يتوقف على الأدلة. وقد تكون الأدلة قد تم إخفاؤها أو تدميرها كليا أو جزئيا. والقاضى لا يستطيع أن يحكم إذا نقصته الأدلة طبقا لقاعدة البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر . كما يتوقف الحكم بالبراءة على الأدلة المضادة، ومهارة المحامين وبراعتهم فى الدفاع. وشكلية القضاة الذين يضحون بالمضمون لصالح الشكل حرصا على سلامة الإجراءات. وقد ظلت محاكمة سيمبسون الأسود بأمريكا قاتل عشيقته البيضاء سنوات وسنوات. وأخيرا صدر الحكم ببراءته. والكل يعلم أنه قاتلها. وقد تتدخل بعض العوامل الخارجية مثل محاكمة رئيس جمهورية سابق بتهمة الفساد. وقد كان الناس يهتفون له إلى حين وهم يرددون سبحان المعز المذل ، ولكن الرحمة الطبيعية أحيانا تتغلب مثل كبر السن طبقا للمثل الشعبى ارحموا عزيز قوم ذل .
يعنى التعزير أن الظلم للفرد قد يكون هو الطريق إلى العدالة للشعب. والهدف منه هو النموذج والردع لكل فاسد ناهب للمال العام. فالأحكام تطبق على كل الطبقات الاجتماعية وليس فقط على الفقراء دون الأغنياء، وعلى المحكومين دون الحكام، إذا سرق فيهم الشريف تركوه. وإذا سرق فيهم الضعيف طبقوا عليه الحد .
الهدف من التعزير هو الردع وإعطاء المثل على جزاء نهب المال العام من كبار رجال الدولة، المديرين، ونواب الوزراء، والوزراء، ونواب رئيس الجمهورية وحاشيته من رجال الأعمال حتى رئيس الجمهورية نفسه. الهدف هو استرداد مال الشعب من لصوصه وناهبيه ومهربيه. هو أخذ حق الشعب الذى سُلب منه، حق الجماعة الذى سلبه الأفراد. هو استرداد الأموال بدلا من الاقتراض وتكبيل الشعب بالديون وأمواله فى البنوك الأجنبية بأسماء ناهبيها أم بأسماء مستعارة. هو العدل العام حتى ولو أدى إلى الظلم الخاص . فالصالح العام له الأولوية على الصالح الخاص. والحق العام يتصدر الحق الخاص. فالعدل مع الجماعة قد يجُب ظلم الأفراد الذين طالما نهبوا المال العام على عدة عقود من الزمان. فقد أخل بالأمانة التى بين يديه وبالقسم الذى عقده مع الشعب بالمحافظة على المال العام وسلامة الوطن. ولا يستحق فساد الحاشية فقط الجلد بالسوط وقوفا حتى يزداد الإيلام بل التعليق شنقا لأنه أضر بالصالح العام مثل سارق كابلات الكهرباء فتعم الظلمة محافظات بأكملها. وجزاؤه الصلب والتعليق على برج الكهرباء المسروق عظة وعبرة لغيره من اللصوص. تطبيق الشريعة على هذا النحو ينتقل من الخاص إلى العام، ومن الفرد إلى الجماعة، ومن الاجتماعى إلى السياسى. هنا يتفق الإسلاميون والعلمانيون على تطبيق الشريعة. فمن من الإسلاميين يرفض تطبيق الشريعة على العام قبل الخاص إلا إذا كان متواطئا مع رجال الأعمال ونظام الحكم، ومن العلمانيين يرفض تطبيق الشريعة بهذا المعنى، الصالح العام قبل الصالح الخاص إلا كان ضحية الشقاق الأيديولوجى المبدئى، العداء للإسلاميين باعتبارهم خصوما فى السلطة. وكلاهما يضحي بالصالح العام من أجل السلطة. ليست القضية إذن تطبيق الشريعة الإسلامية بين القبول والرفض، ولكن القضية تطبيق الشريعة على من، وعلى أي شرعة اجتماعية، ولأي سبب، ليست القضية شعارات تعبر عن خصومة دفينة سعيا وراء السلطة، ولكن القضية الدفاع عن الصالح العام سواء كان ذلك تطبيقا للشريعة أم تنفيذا للقانون أو لجوءا إلى الفطرة والبداهة والحس السليم. الشعارات والمواقف المبدئية قد تنفر أكثر مما تجمع. وتفرق الناس أكثر مما توحد. وتعبر عن قوى سياسية، تسعى كل منها لصالحها الخاص وهو الوصول إلى السلطة. والسلطة فى يد من يدافع عن الصالح العام. وفى الوطن يلتقى جميع الفرقاء. إن الشعارات قد يساء استخدامها، ويساء فهمها وتأويلها. أما الصالح العام فهو ما يبحث عنه الجميع، الأغلبية الصامتة، البديل عن الشعارات بين الرفض والقبول.
AZP07

مشاركة