التعايش المنتج .. من إدارة الصراع إلى بناء الدولة القوية – محمد علي الحيدري

التعايش المنتج .. من إدارة الصراع إلى بناء الدولة القوية – محمد علي الحيدري

التعايش ليس مجرد خيار اجتماعي أو فضيلة ثقافية، بل هو مشروع سياسي محوري يعكس قدرة الدولة والمجتمع على إدارة الاختلاف وتحويله إلى قوة إنتاجية. فالتسامح والقبول بالآخر، رغم ضرورتهما، يظلّان أدوات ناقصة، أقرب إلى صيانة السكون المؤقت، بينما التعايش المنتج هو انتقال من إدارة الصراعات إلى صياغة معنى مشترك للعيش في إطار الدولة والمجتمع.

في هذا السياق، يصبح التنوع ليس مجرد واقع يُحتمل، بل عنصرًا يساهم في صياغة الهوية الجامعة. ويترجم ذلك سياسيًا إلى تحول نوعي في العلاقة بين المواطن والدولة، وبين المكونات المختلفة للمجتمع: فحين يُعترف بالاختلاف ويُقدَّر كقيمة، يتحول الفرد من كائن يبحث عن حماية ذاته إلى شريك فاعل في إنتاج المصلحة العامة، وبالتالي يصبح التشارك في صناعة القرار والمعنى شرطًا لاستقرار الدولة وتماسكها.

السياسة هنا ليست مجرد إدارة نزاعات، بل هندسة مؤسساتية وثقافية تجعل من التعددية قوة استراتيجية. الدول التي نجحت في نهضتها، سواء في أوروبا بعد الحرب العالمية أو جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري، لم تفعل ذلك عبر فرض صوت واحد، بل عبر صوغ نظم سياسية واقتصادية تستوعب التنوع وتحوّله إلى مصدر تعزيز للشرعية الوطنية والاستقرار الاجتماعي.

فلسفيًا، يطرح التعايش المنتج سؤالًا جوهريًا على الفكر السياسي: هل يمكن بناء هوية جماعية لا تقوم على نفي الآخر، بل على احتضانه والاعتراف به؟ التجارب الدولية تشير إلى أن الإجابة ممكنة حين تُؤطر العدالة ليس كمساواة شكلية، بل كآلية لضمان تكافؤ الفرص والاعتراف المتبادل، بما يحوّل الاختلاف إلى رافعة للتنمية وليس عقبة أمامها.

بدون هذا التحول السياسي والثقافي، يبقى التعايش مجرد هدنة مؤقتة قابلة للانفجار عند كل أزمة. أما حين يتجذر كعقد اجتماعي جديد، فإنه يصبح شرطًا أساسيًا للنهضة المستدامة: نهضة تقوم على إنسان حرّ، وكرامة معترف بها، ومجتمع يرى في تنوعه طاقة معرفية وأخلاقية لا تهديدًا مستترًا.

التعايش المنتج، إذًا، ليس مجرد إطار للتعايش بين المختلفين، بل مشروع لإعادة تعريف الدولة والمجتمع: من كيان متجاور إلى كيان متفاعل، ومن تعددية متنافرة إلى وحدة سياسية واجتماعية غنية بتنوعها، قادرة على صياغة مستقبلها بأيدي جميع أبنائها.

مشاركة