التشكيلي المغربي عزيز العزاب
ألوان الصحراء الناطقة
فيصل عبد الحسن
المعرض الأخير للفنان المغربي عزيز العزاب في قاعة النادرة بمدينة الرباط قبل أيام قليلة أثار الكثير من أهتمام المهتمين بالفن الفطري المغربي، لكون لوحاته جاءت عبر تجربة غنية للفنان أستمدها من فنون المعمار، والرسم الهندسي المعماري، وهي المهنة التي مارسها الفنان العزاب عبر عمله كتقني في مجال العمارة، وفنون تجميل واجهات البنايات، وتخطيطات المساحات الأرضية، الذي أمتد مزاولته له لأكثر من أربعين عاما.
والفنان عزيز العزاب الذي ولد بمدينة الرباط عام 1954 وجاء إلى الفن التشكيلي من خلال عمله الهندسي، وفهمه للجمال عبر ما رآه من إبداع المدرسة التشكيلية المغربية التقليدية، التي وضعت في أعتباراتها أن الفن المغربي الأصيل، هو الفن الذي يستوحي أعمال الفنانين التقليدين وأعمال الحرفيين، وأولئك الذين يلونون الزربيات، ومناديل الرؤوس للنساء، ويطرزون أنواع الطرز الزاهية للأوشحة، والأغطية، والملابس التراثية، ويضعون أجمل الأشكال الزاهية على سروج الخيول، والحقائب، وتزيين مقدمات الخيام للذين يعيشون في بادية و سهول المغرب ووديانها وصحرائها.
مراحله الثلاث
والمعرض الآخير في قاعة النادرة يحمل الرقم تسعة للفنان العزاب بعد ثمانية معارض فردية، كان أولها في قاعة النادرة عام 1980 وتوالت بعد ذلك معارضه الفردية في مدينة الرباط، وباقي المدن المغربية، وخارج المغرب في دول أوربية من بينها إسبانيا.
وتنقسم مراحل تدرجاته اللونية في هذا المعرض إلى ثلاث مراحل، ويمكن تسميتها، كالأتي، مرحلة الرسم بالصلصال، ومرحلة الرسم بالبياض على الكادرالأسود، والمرحلة الأخيرة هي الرسم باللون الأصفر، فتتبدى اللوحة كما لوكانت قطعة كبيرة من الذهب السائل، وبين هذه المراحل اللونية، والذوقية لوحات رابطة تربط بين المراحل الثلاث، وتهييء بين مرحلة وأخرى كوصلة، تهييء لما بعدها، فتجد فيها لون الصلصال، والبياض والسواد ولون الذهب الخالص، مما خلق تناغما بصريا ولونيا في أنحاء المعرض، وحفز على متابعة مشاعر الفنان أثناء كل مرحلة من مراحل رسمه للوحات معرضه، والتعاطف معه في فرحه بالحياة أو حزنه الممض أو أستسلامه لما هو كائن من حوله.
أن مراحل الفنان الثلاث جاءت من خلال رحلة زمنية مر بها الفنان عبر عمله الهندسي، فهو لم يرسم لوحاته مرة واحدة وخلال فترة زمنية قصيرة ليعرضها في المعرض الأخير بل جمع لوحاته من خلال مراحل زمنية طويلة متقطعة مارس فيها الرسم والتفكير بما يريد أن يظهره بصريا في كل لوحة، ويبدو أنه في كل لوحة أختارها بعد ذلك لتعرض في هذا المعرض بأنها تمثل أوج نضجه الفني، وفهمه لوظيفة الفن البصرية والذوقية، وتعكس مشاعره، وأفكاره عن الحياة وفرحها وحزنها، ومعاناة الإنسان صاحب الرسالة فيها بين الإحباط والأمل بالنجاح.
لفظ الجلالة
تمكن الفنان ببساطة الأشكال المرسومة أن يعيد تشكيل تراتبيات لونية في غاية الجمال والتناسق، تحكي عن وحدة الخلق، وأرتباط الميلاد بالموت من خلال رسم أشكال هلامية لبشر يسعون هنا وهناك بلا تفاصيل للوجوه أو أي بيان آخر يوحي بهويتهم أو عرقهم، وكذلك بدت المنائر في لوحاته متداعية أو غير مكتملة البناء، وتتناوب وحدات اللون الصلصالي لتنشىء هنا وهناك لفظ الجلالة الله على كامل أجزاء اللوحة بينما تسبح الرسومات الهشة داخل أقيانوس لفظ الجلالة، وكأنما يعود كل شيء في مصيره منذ الولادة، وقبلها وحتى الموت والتلاشي عن الوجود المادي، وما بعده إلى الله تعالى، فهو الرابط بين كل شيء، وهو سبب كل شيء وخالق كل شيء، وإليه دائما تقرير المصير.
ومن الواضح مما رسمه الفنان في مرحلة الرسم بلون الصلصال، تذكيره لنا بنقوش وزخرفة النجارين على الخشب، وتوظيف ما ينقشونه على الخشب من أشكال هندسية، ومنمنمات لخلق الجمال، والسحر على الكتل الخشبية الصماء التي جُلبت لهم من الغابة، وأضافوا إليها من أرواحهم لعكس الفرح في الرائين وأضافة قيمة فنية لمشغولاتهم الخشبية.
كلام الصحراء
واللوحات التي زادت على الأربعين لوحة في معرضه الآخير عكست ولع هذا الفنان المعماري بكل شيء له علاقة برسم المساحات الأرضية الفارغة، وواجهات البنايات والمساقط الجانبية والعلوية، أضافة إلى أبراز براعته في أختيار ألوان لوحاته لتعكس رؤية بصرية فخمة خاصة به تؤثر في الرائي، وتنقله إلى حالة من الأسترخاء بين النوم واليقظة حيث يتراءى جمال الأشياء والأشكال والخطوط الهندسية التي رسمها الفنان.
وقد أتسمت معظم لوحات معرضه الأخير بكونها جاءت بقياسات مهمة تتراوح بين 1.5م في 1.2م و1.2 م في 9. م وهذه القياسات تعتبر كبيرة، وتحتاج من الفنان مهارة، وصبر لملىء الفراغات من دون الخروج على وحدة اللون والموضوع، وقد تسيد لون الصلصال على موضوعاته التجريدية، والتي عكست فرحه بالحياة، وعكس مشاعره العميقة بالمحبة أتجاه رسم الأقواس، وأظهار ما في هذه الأشكال من روح شرقية، وحنين إلى الجذور البدوية، وحياة الفطرة في الصحراء، فالأقواس عادة تحمل في أشكالها ولون الصلصال الذي يجللها مشاعر روحية عميقة تذكرنا بشكل قباب الجوامع، وتذكرنا أيضا بالصلاة، والتكبير للخالق تعالى، والموت والولادة، وإلى اسئلة الفلسفية الأزلية، من ومتى وكيف ولماذا وأين ؟ وتعيدنا ببساطة موضوعاتها إلى الصحراء التي تتكلم كل فجر بنداءات الحياة والأمل باليوم الجديد، أن الفنان عزيز العزاب يرسم الصحراء الناطقة، من خلال رسم صمتها الأبدي ولون رمالها، وأتساع وجودها الموحي بكلام كثيرلا تبوح به إلا لمن يرسمها.
AZP09