التداعيات الإجتماعية لتمدّد تنظيم داعش
عماد علو
مما لا ريب فيه أن للتداعيات والآثار الاجتماعية من منظور مولداتها ومدياتها وأشكالها وبخاصة المتبدلة منها في العراق نتيجة لتمدد واتساع ظاهرة العنف المسلح وفي مقدمتها تمدد تنظيم داعش الارهابي مؤخرا” في عدد من المحافظات العراقية وسلوكه الارهابي المتسم بالإفراط في استخدام العنف والقتل بأشكال واساليب غاية في الهمجية وارتكابه فظائع لم يسبق لها مثيل ، اثرت بشكل او بآخر على النسيج الاجتماعي العراقي وأدت إلى سلسلة لم تنتهي بعد من التحولات الاجتماعية ،تركت أثرها البالغ على الأسرة العراقية ، حيث أن الظواهر الجديدة التي صاحبت تلك التحولات والتي تمثلت بتفاقم الانقسام والانحياز الطائفي في إطار سياسي غير مسبوق أدت إلى تمزق غير مسبوق في النسيج الاجتماعي بصورة عامة والنسيج والترابط الأسري العراقي بصورة خاصة .
مؤشرات الواقع الاجتماعي العراقي
مما لاشك فيه ان الذي يجري في العراق اليوم اثر هذا التمدد الارهابي وما سيخلفه من آثار نفسية واجتماعية هو تحول اجتماعي داخلي غير طبيعي الى جانب تأثره بأجندة خارجية فرضتها قوى ارهابية جاءت من وراء الحدود تحاول تغيير مسارات التحول الاجتماعي في العراق لصالحها . و لغرض فهم الواقع الاجتماعي الذي استجد بعد 10/6/2014 في العراق ، فإن صورة التحول قد لا تبدو واضحة، لمن يبتلعه تيار التحول وبالتالي قصوره عن فهم الخلفيات التي تغذي وتوجّه مجريات هذا التحول، ولذلك فإن المجتمع قد يشهد تغيرات نوعية جوهرية ولكن لا تفضي في الظاهر الى تمثًلات في الفكر أي قد لا تمس مباشرة الاساسات الذهنية ، بمعنى آخر قد يحدث التحول القادم من الخارج تغييراً عظيماً في سلوك المجتمع أو قطاع كبير منه ، ولكن ليس بالضرورة أن يترك تأثيراً مباشراً وعاجلاً في الفكر، على أنه بالتأكيد يستبطن طيفاً من الاسئلة تتراكم بمرور الوقت كلما اتسعت وتزايدت التغييرات السلوكية وصولاً الى تغييرات كبيرة في الاساسات الذهنية، تتمظهر في عملية اختلالات في المنظومة الثقافية ونظام القيم وطرق المعيشة وأنماط التفكير وشبكة العلاقات الاجتماعية . الا أن السؤال المهم هو عن اسباب تمكن تنظيم داعش الارهابي من القيام بهذا الاختراق الامني واحرازه هذا التمدد والتوسع في عدد من المحافظات العراقية وسط حالة من الذهول والصدمة الاجتماعية ؟ ؟ والاجابة على هذا التساؤل المهم تكمن في تأشير ملامح التداعيات التي اصابت المجتمع العراقي بعد أكثر من عشر سنوات من الاحتلال الامريكي للعراق منذ 2003 وما مر به المجتمع العراقي من اتساع وتفاقم لمظاهر الارهاب والعنف المسلح والجريمة المنظمة من خلال رصد ما يأتي :
– الرجوع الى الاوضاع الاجتماعية القبلية في اطار من السكون في الوعي العام ، يكاد يختزل نظرة الانسان للكون عند حدود المعرفة الموروثة.
– الرتابة الكسولة في التفكير واللهاث وراء تأمين الحد الادنى للعيش كتعبير من جهة عن الصراع من اجل البقاء.
– تردي وتراجع و قصور الانسان العراقي عن وعي ذاته فضلاً عن جهله التام بقدرته على التغيير في واقعه الفردي والاجتماعي فلا مكان للإبداع والمغامرة والتطلعات البعيدة، وروح المسؤولية الفردية والاجتماعية، وسرعة المبادرة، كشروط ضرورية في عملية التغيير..
– عجزاً مجتمعيا مزمناَ وعميقاً ينعكس في جزء هام منه في الغياب التام عن وعي حركة التاريخ أي العيش في مكان خارج دورة التاريخ بل وخارج دورة الزمن، فلسنا معنيين بما جرى ويجري خارج السور طالما أن ذلك لا يقلق سباتنا أو يهدد لقمتنا ، فالأزمة ليست مختصرة فقط في التهجير ولا بالقتل والاختطاف اليومي ، وإنما بما يحدث من تطوير في الحركة المجتمعية العامة باتجهات قد لا تكون صحية ، نتيجة تباطؤ واضح وبّين في وتائر النمو المعرفي للمجتمع ، وتقدمه الحضاري .
– الفراغ الفكري الواسع الذي نجم عن تدمير وانهيار مؤسسات الدولة العراقية (وليس النظام السابق) جعل الفرص مؤاتيه لملئه بأي شيء وبأي طريقة، فاسحا المجال لتحولات جوهرية كبيرة في الواقع الاجتماعي، ووضع حجر الاساس لمجتمع مضاد يعاد تشكيله في جو من الصراع الفوضوي العبثي بكل ما فيه من عناصر جديدة، وتفاعلات متنوعة، أي بما يحدث من تبدلات فوقية، في نظام التفكير، وتحتية في نظام القيم والعادات وطرق المعيشة والانتاج. بكلام آخر، أحدثت المرحلة التي تلت نيسان/ابريل 2003 طفرات مفاجئة مولّدة طيفا من الاختلالات والانقطاعات، فمن الفقر المدقع لشرائح مجتمعية معينة الى الغنى الفاحش والعكس صحيحي بالنسبة لشرائح اخرى ، ومن العزلة التامة الى الانفتاح المطلق. لقد حدثت تبدلات كبرى في الاوضاع الاجتماعية، وهي تبدلات تسببت في قطع الاواصر بين الاجيال مسفراً عن (صراع الاجيال)، متمظهراً في غياب اللغة المشتركة في التفاهم والتعامل والتفكير، وايضاً غياب التطلعات المشتركة، والهموم المشتركة، والاهداف المشتركة، وفي نهاية المطاف ثمة تغييرات تحفر عميقاً في واقع المجتمع وتعيد تشكيله وصياغته وفقاً لبيئة وشروط ومحفزات جد مختلفة. كل ذلك أدى بشكل أو بآخر الى تمزق النسيج الاجتماعي العراقي واتاحة العديد من الثغرات في جسد المجتمع لتسلل الافكار والسلوكيات العنيفة والارهابية المتطرفة التي أدت لاحقا” لتمكن تنظيمات القاعدة وداعش لاحقا” للحصول على موطئ قدم في الداخل الاجتماعي العراقي ..
مسار التداعيات الاجتماعية
ان الانهيار والتداعي نتيجة تمكن داعش من التمدد والتوسع في العراق أثر بوتائر متسارعة على البنى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وكانت هناك حاجة الى كوابح للحد من سرعة تأثيرات هذا التمدد الارهابي وأضراره المحتملة على المجتمع العراقي. ان طبيعة التحول الاجتماعي العراقي الناجم عن هذا التمدد والتوسع الارهابي التكفيري المستهدف لكل مكونات النسيج الاجتماعي العراقي اليوم بدلت التراتبية التقليدية السائدة في المجتمع ، وسوف تتجه بسرعة كبيرة لإحداث تغييراً كبيراً في العادات والتقاليد. وعليه لم يعد خافيا ان المجتمع يخضع لعملية تجديد قسرية، تتطلب العبور بالمجتمع من الممر الطبيعي، أي إحداث تبديل في قاعدته الفكرية واعادة تشكيلها، وفقاً لشروط المرحلة الجديدة ومتطلباتها، وأن اختفاء أو تأخر التبدلات الفكرية لا يعني بتاتاً عدم وجودها، فهي تفعل فعلها في مكان آخر، أي في الاعماق وتمارس عملية تفكيك هادئة وطويلة المدى للقـــواعد الفكرية . ان ضعف أو غياب تأثير مصادر التوجيه المحلية، أدت الى اتاحة الفرصة لمصادر التوجيه الثقافي الخارجية من تهميش دور التوجيه المحلي، مما رهن تطلعات المجتمع لأجندات تتماشى مع مصالحها، وسوف لن يبقى المجتمع العراقي في منأى عن تأثير تلك الاجندات والافكار المتطرفة.
وقت قريب
ان السلوك المجتمعي العراقي بدأ يأخذ منذ وقت قريب هيئة تحول فكري خطير، فالتغير الكبير في البيئة الاجتماعية لا يعدو كونه سوى مؤشراً بارزاً على احتمال تبلوره في تيارات فكرية احتجاجية ، ستوجه صدماتها للقواعد الفكرية وحقل اليقينات، وهذا التحول المشدود بالخارج يستمد قوته ومبرره من احباطات الواقع، الذي يضيق ويتسع حسب قوة وشائج الصلة بأجزائه القريبة والبعيدة، كما يستمد قوته ومبرره أيضاً من نجاحات الخصوم للمجتمع العراقي وهم في في حالة المجتمع العراقي بات من الصعب فرزهم بشكل موضوعي عن القوى الفاعلة والمؤثرة في حركة المجتمع العراقي نفسه ، وهذه هي القنبلة الموقوتة التي قد يؤدي انفجارها الى مالا يحمد عقباه . قد تفضى الى تبلور اتجاه نقدي عنيف في عموم المجتمع العراقي يمارس عملية جلد قاسية للذات عبر مراجعة انتقامية للتراث(الديني بالذات) وتحميله مسؤولية كاملة لكل الانهيارات التي شهدها النسيج الاجتماعي ، وهذا الاتجاه بدأ يتنامى بعد الممارسات والانتهاكات والفظائع التي ترتكب يوميا” في الاراضي العراقية المغتصبة من قبل داعش
وسائل مواجهة تداعيات تمدد تنظيم داعش في العراق
أن تشريح الواقع واكتشافه يتطلب قدراً كبيراً من الجرأة والصرامة أحياناً، ولكن بشرط معرفة كيفية التعاطي معه وتهيئة الشروط الضرورية للتحكم ولتنظيم مسارات مواجهة تداعيات تمدد تنظيم داعش في العراق الغير طبيعية. ومن الجدير بالذكر ان ثمة رهان كبير لدى نخبة من الستراتيجيين والمفكرين المتابعين للحالة العراقية بتراجع الذهاب الى نظام اجتماعي قائم على الانحياز للقوى والتيارات والاحزاب التي ترفع شعارات دينية طائفية لاسيما بعد فشل تلك القوى في قيادة عملية التحول الاجتماعي بالشكل الذي يخرج المجتمع العراقي من محنته ومعاناته وازماته بسبب من مغالاتها في التعويل على الخيارات القهرية في اجراء عمليات التحويل الاجتماعي ، فذلك خلاف الطبيعية البشرية . كما إن البحث عن حلول سحرية يصبح مجرد اعانة اضافية لمجابهة أخطار تداعيات تمدد تنظيم داعش في العراق الغير طبيعية الذي نجم بعد نيسان 2003 الا ان وسائل مواجهة تداعيات تمدد تنظيم داعش في العراق يمكن ايجازها على النحو التالي:
1. مراجعة شاملة وجريئة للوعي الثقافي والتاريخي العراقي ، سعياً الى فهم واقعنا وبحثاً عن أسباب نهوضـــــنا والعمل على تحرير هذا الوعي من كل معوقات النهضة وهذه المراجعة اذا ما تمت كفيلة بأن تحد من التأثيرات السلبية للموجات الفكرية السلبية الغريبة عن المجتمع العراقي ، شريطة أن تضع المراجعة الاصبع على مشكلاتنا الحقيقية، وأن تتسلح بجرأة كبيرة في نقد ماضينا وحاضرنا، وفي نفس الوقت قادرة على توفير حلول مناسبة لتسوية تناقضاتنا العاجلة والآجلة.
2. تصفية النزاعات الداخلية: ثمة نزاعات داخلية تحركها عوامل اجتماعية وسياسية وايديولوجية، أفضت الى تصدعات في بنية المجتمع، وباتت تنذر بانهدامات خطيرة، تلك النزاعات القائمة على اساس الفروقات القبلية، أو الانتماءات الحزبية المتنوعة، أو الاختلافات المذهبية.
3. إرساء تقاليد للحوار: فقد بات الحوار خياراً جماعياً وضرورة موضوعية تتطلبها بإلحاح الحالة المجتمعية في العراق اليوم . تتطلب تعميمها لتصبح لغة الحوار حاكمة بين كافة فئات المجتمع، وبين المجتمع والدولة، إذ لا سبيل سوى الحوار من أجل احباط مبررات العنف والتطرف والجريمة والتخلف.
4. بناء الثقة: إن بناء الثقة يستند على استشعار أخطار غياب الثقة، والاستعداد المبدئي على ازالة اسبابها، ولعل من هم أهمها ، الانحباس ضمن دوائر انتماء ضيقة أيديولوجية وقبلية ومذهبية ، واعتبار دائرة الانتماء الاكبر والوحيدة هي دائرة الوطن. لقد دفع المجتمع العراقي منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي ثمناً باهضاً بسبب انعدام الثقة، دفعناها من أمننا الفردي والاجتماعي والوطني، ودفعناها من امكانياتنا الاقتصادية، وقدراتنا البشرية، ودفعناها من استقرارنا السياسي، ودفعناها من تطورنا العمراني، وبات الكل يبحث عن مصادر ثقة أخرى وفي الغالب خارجية، وهي مصادر ليست حريصة على مصالحنا، بل مصلحتها في استمرار تمزقنا وتشظينا.
5. بث ثقافة نهضوية شاملة، تساعد على اكتشاف طاقات أبناءنا وتوجيهها في خدمة مشروع البناء الحضاري لبلداننا، وتزرع روح المسئولية في كل أبناء المجتمع لجهة تكريس الجهود الفردية والجماعية للانخراط في مشاريع التنمية ، وسن قوانين جزائية صارمة من اجل القضاء على الفساد الاداري المتسرب الى مؤسساتنا التربوية والاقتصادية، ومنح المخلصين وأصحاب الكفاءات العالية فرص المشاركة في البناء والاعمار، وتوفير الحوافز الضرورية من اجل تشجيع أصحاب رؤوس الاموال على استثــــــمار أموالهم في مشاريع اقتصادية تنموية تســــاهم في حل مشكلات راهنة كالتوظيف، كما تساهم في بنــاء مستقبلنا الاقتصادي.