البيان المشترك بين بغداد وواشنطن: جيد، حالم جدّاً ومُنضَّب إيرانياً – مسار عبد المحسن راضي – توم حرب

البيان المشترك بين بغداد وواشنطن: جيد، حالم جدّاً ومُنضَّب إيرانياً – مسار عبد المحسن راضي – توم حرب

كان البيان المشترك بين بغداد و واشنطن، واعداً. احتفى بتفعيل الجوانب المهجورة، في اتفاق الشراكة الاستراتيجية، بين العاصمتين لسنة 2008 مثل الاقتصادية، الثقافية و غيرها.

إيجابيَّة البيان، كانت تُشبِهُ بعد كُلِّ شيء، جسماً طائِراً، يتحدى الجاذبية الإيرانيَّة. مثلاً، محاولة تنظيم علاقة البنك المركزي و المصارف العراقية، مع الدولار الأمريكي، لإبطال دور العراق كقبعة ساحر، لعملتنا الوطنية، متحوِّلَةً إلى أرنبٍ، سُرعان ما يُغادر الحدود العراقية، صوب طهران؛ التي اختارت 15 فبراير، اليوم الذي صدر فيه البيان المشترك، لتحتفل بواسطة منصة “نيما”، بقُدراتِها على اللعب، في سوق العملات الأجنبيَّة، داخل العراق!

هناك أيضاً إيجابيات، في البيان المشترك، بدت قادِرة على الوصول، إلى مدارٍ واقعي، يعتمِدُ على جاذبيَّة مصالح العراق. منها: حضور ملف الطاقة، البرامج التنموية، المائية، الأزمة المناخية، و توفير الطاقة الكهربائية، من خلال ربطه مع شبكة كهرباء المملكة العربية السعودية، المملكة الأردنية الهاشميَّة، وبقيَّة دول الخليج العربي.

و”لكن” بنكهة تاريخية و مذاق واقعي

البيان المشترك، كان مثل الرقص على الجليد، بالنسبة للحزب الديموقراطي، و لعبة هوكي فيها الشِباكُ الأمريكية، عُرضة لوابلٍ من الأقراص الإيرانيَّة، بواسطة العصا العراقية.. هكذا رأى الجمهوريون المشهد، من شُرفة البيان.

أوَّلُ الأقراص الراقِصة: هل باستطاعة المسؤولين العراقيين إصلاح مؤسسات الدولة المشهورة بفسادِها لمصلحة الشعب العراقي؟ و ما هي الأدوات التي يمتلكونها و الخطوات الأولى الضرورية للقيام بذلك؟ و إن كانوا يمتلكون القُدرة على أداء سلوكٍ حر مع دول الجوار و هو يرزح تحت النفوذ الإيراني الذي يلعب دوراً أساسياً في الداخل العراقي ؟

المُفارقة إننا مهما شطبنا، من السنين العشرين الماضية؛ سنجِد إنَّ الطموحات الأمريكية، في هذه البلاد، تصِلُ إلى الدرجة 360 لتعود صفراً على أرض الواقع. التفكير السياسي الأمريكي، عموماً، ينظرُ إلى إقحامِ التاريخ، في العلاقات الدوليَّة كنوعٍ من “الزخرفة”. ريان كروكر، الدبلوماسي الأمريكي المُخضرم، و الذي خدم في العراق كسفير، ذكر ذلك، و هو يتحدث عن الشرق الأوسط، تحديداً. كما أعترف كروكر، بأن نسيان التاريخ، يُعبِّرُ أحياناً، عن “نقصٍ في المُخيَّلَة”، اللازمة لاستيعاب التعقيدات.

هناك تحديات داخلية كبيرة في العراق، أمام الإصلاح، و ضد السباحة الحرة، للمسؤولين، في بحرِ مصالِح بلادهم. أخطرُها: النفوذ الإيراني، غسيل الأموال، وتبييضُها لصالحه.

 طهران اثبتت، أنَّها ناجِحة في العراق، و أكثر من أي بلدٍ آخر، في الاحتيال على العقوبات الأمريكية. هذا البلد، نجح أيضاً، في أن يُصبِحَ فاشلاً اقتصادياً، و عليلاً سياسياً.

وجود ما يُسمى بـ “الحشد الشعبي”، ضمن المؤسسات العراقية، لا يخدِمُ مصلحة العراقيين كذلك؛ لا في المنظور القريب، ولا في بعيده. طبعاً و لكي لا يتَّهِمُنا أحدُ الديموقراطيين، بالتيَّه في الصحراء الإيرانيَّة، أُذكِّرُهُم بما قاله، ستيفن هيمسلي لونكريك، المؤرِّخ و الضابط البريطاني: “إنَّ من تستحق أن تسمى دولة و يكون لعلمها راية تراها أشعة الشمس لا يمكن أن تسمح بما تفعله العشائر في العراق”.

كيف إذاً، نتوقع للدولة العراقية؛ التي تُعاني من حدبة جديدة: الميليشيات الإيرانية/ “الفصائل المُسلَّحة” أو “الولائية”، بالإضافة إلى الحدبة القديمة، أن تحصُل على مستقبلٍ أفضل؟ و المجتمع الدولي، يُعطي هذهِ الدولة، مُسكِّنات “واقع الحال”. طبعاً، واقع الحال الإيراني لا العراقي!المشاريع  التي أُعلِن عنها في البيان المشترك؛ ستنطحُ صخوراً من التحديَّات. الدور الإيجابي  الذي تُريد، دول المنطقة العربية، أن تلعبه في العراق، من خلال تزويده، بالطاقة الكهربائية، و ربّما الاستثمار مُستقبلاً، لن يكون مُتاحاً (ألطف تعبير) على الأرجح، إذ إنَّ مشاريع الطاقة؛ التي تقوم بها الشَّرِكات، تحتاجُ مُدداً زمنية طويلة، للتأسيس و حصد العائدات. لا أقول أنَّها تحتاجُ قرناً؛ بل لنفترِض ربع قرن فقط.. فهل ستكون الحكومات العراقيَّة القادِمة، قادِرة على تخفيف حِدَّة المزاج الإيراني الجيوسياسي، ضد الدول العربية، و دول المنطقة الأُخرى؟

إدارة بايدن: طبق “ستاتيكو” مع جُبنة أوروبية

إدارة الرئيس، تحاول أن تبقى على “الستاتيكو” الموجود، في التعامل مع المشاكل العالميَّة. سواء كانت الحرب في أوكرانيا، أم في التعاطي مع الصين. البيان المشترك بين بغداد و واشنطن، كان مكتوباً بدورهِ، بلغة “ستاتيكو”، تَنَكَرت على شكلِ أُمنيات.

 تنفيذ إدارة الرئيس بايدن، لالتزاماتِها في البيان – إن حسمت أمرها – سيكون صعباً. هذه الإدارة تُعطي الكلام الجيَّد، لكنها لا تفعل شيئاً على الأرض. الضبابية أكثرُ العناصِر حضوراً، في إدائها العالمي. السياسات العامّة الرئيسية، لمواجهة إيران، ليست موجودة في أدراجِ هذهِ الإدارة. الأمرُ كان مختلِفاً في عهد الرئيس ترامب. سياساتُه كانت واضِحة. وضع عقوبات قاسية على إيران، استهدف الجنرال سليماني، و الذي خفَّف مصرعُه من حِدَّة طهران، في العراق و المنطقة.الفرقُ بين احمر ترامب و أزرق بايدن، في الشرق الأوسط، بدأ منذُ عهد الرئيس أوباما؛ الذي تأثَّر كثيراً، بالسرديَّة الإيرانيَّة. أُذُنيْ أوباما، كانت تُصغي برهافةٍ، لروايات اللوبي الإيراني في واشنطن، التابع لنظام الملالي في إيران، و الذي كان وما زال يتحرَّكُ بقوَّة، مع لوبي الإخوان المسلمين. أفكارُ الاثنين، أصبحا متحكمين بشكلٍ كبير، في السرديَّة التي تبناها الديموقراطيون، عن الشرق الأوسط، و لعِبوا دوراً كبيراً في التأثيرِ على إدارتِه.

إدارة أوباما، أصبحت ضد التعامل مع الدول العربية، و بشكلٍ منهجي، بحجة توفير الموارد اللازمة، لسياسة “الاتجاه نحو الشرق”. لا أعرف لماذا بدت هذهِ الإدارة، بأنها تُحدِّثُ نُسخة سيَّئة، من عقيدة نيكسون، سنة 1969م، عن الشرق الأوسط.

براين آر. غيبسون، العالم السياسي الأمريكي، قال عنها: ” نيكسون دعا حكومة الولايات المتحدة إلى مساعدة حلفائها الإقليميين، في أخذ مسؤولية الدِفاع عن أنفسهم. هذا الأمر اثبت إنَّهُ نعمة كبيرة لـ شاه إيران؛ الذي بدا مُتحمِّساً لملء هذا الدور”.

المُفارقة هنا، إنَّ الرئيس أوباما، تناسى الحلفاء الإقليميين التاريخيين، في الشرق الأوسط، لصناعة حليف جديد، تيمُّناً بحليفٍ قديم. الجديد، يحاوِلُ أن يتخذ، من السياسات الأمريكية في المنطقة، رهائناً، كما فعل سنة 1979م!

اللوبي التجاري والصناعي في الولايات المتحدة؛ الذي يُمثِّلُ الشَّرِكات الكبيرة، و الشُّركاء في الاتحاد الأوروبي، لعِب دوراً كبيراً، في إدارة أوباما، و عاد في إدارة الرئيس بايدن، ليُخرِّب ملعب السياسات الأمريكيَّة؛ الذي يحضُره  كُل العالم، ما عدا الجمهور الأمريكي.

 الفساد بالطبع، ضارِبٌ أطنابه، بين هؤلاء الشُّركاء، من اليمين إلى اليسار. كانوا مُتحمسين جدّاً بسبب مصالحِهم، لدخول الاتفاق النووي مع طهران. مدير المخابرات المركزية، وليم بيرنز، ذكر مثلاً، في كتابٍ قام بتأليفه، إنَّ “وزير الخارجيَّة الفرنسي، عندما علِم أن الصفقة النووية، أصبحت جاهِزة للتوقيع، خرج غاضِباً. عرضت عليه إيران سريعاً، و من خلال وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، صفقة بالمليارات”. اتصوَّر إنَّ الوزير هدأ بعدها، ثم ابتسم، مُبارِكاً الصفقة. بل ربّما قد عرض عليهم، تناول جُبنة فرنسيَّة، كما يحلو لي أن أتخيَّل.

توريط العراق في مصير إيران النووي

تحرِصُ طهران على إقحام العراق، في لُعبة مصيرها الإقليمي و الدولي، خاصّةً العودة إلى الاتفاق النووي. ليست هناك من صُدفة، كما حصل لهذا البلد تاريخياً، مع تركيا.

 لونكريك البريطاني؛ الذي استعنتُ به قبل قليل، التقط ذلك في الجملة التالية: ” لقد ساهم العراق لحدٍ ما في المصائر الدولية التي كانت تركية منغمسة فيها”. فقط لنبدل كلمة “تركية” بطهران،  و مفردة “ساهم” بـ أُقحِم؛ سنجِد إننا أمام سياسة إيرانيَّة، لا تاريخ لها، لأنها ما زالت حاضِرة.

الأمريكيون “براغماتيون”، هكذا وصفنا تييري مونبريال، المُفكِّر السياسي الفرنسي. نستطيع أن نعترف بالخطأ، و نعود.. ليس إلى الوراء، و إنّما نحو توازنات أكثر صحيَّة.

لا اتصوَّر أن إيران مستعدة، لنُسخة براغماتية من الأصل الأمريكي. هي تُريد أخذ “كارت بلانش” من الجميع، بزيادة نسبة “التخصيب الطائفي” في العراق، لبنان، سوريا، و اليمن، مُقابل أمن، متوفِّر إعلاميَّاً!

الاتفاق النووي، كان من أخطر ما قامت به، الدول الغربية و الولايات المتحدة، لأن إيران جمهورية دينية، لها أهدافها في المنطقة؛ التي تُطبِّقُها باتباع استراتيجية “ولاية الفقيه”، لتوسيع رُقعة نفوذِها.

طهران لا تفعل ذلك، من أجل القضايا الإنمائية في بلدان الجوار، وإنما للسيطرة على معظم هذه الدول، و شاهدنا عندما وضعت يدها، سواء في: لبنان، سوريا، العراق، و اليمن، كيف أصبحت هذه البلدان، من أسوأ ما يكون، سياسياً و اقتصادياً.

 إيران ليست مستعدة للتعامل مع المجتمع الدولي، و لن تكون شريكة فعَّالة معه، في البناء، تطور الاقتصاد، التجارة، و التعامل الثقافي. علينا أن نعترف، بأنَّ من الأفضل، لأمريكا و الشرق الأوسط، عدم الدخول في علاقة مُدمِّرَة، مع نظام ثيوقراطي (الحكم الديني).

العودة إلى الاتفاق النووي، يعني تدميراً وبالتقسيط الإيراني للشرق الأوسط، لا تقويضاً لقُدرة امتلاكها للأسلحة النووية. لماذا لا نقوم عِوَضاً عن ذلك، بدعمِ المعارضة الإيرانية، ضد نظام الملالي.

المصلحة العامة لـ: الدول العربية، الولايات المتحدة، و بقية القوى العُظمى، هي دعم مثل هكذا أفكار مؤثِّرة  – أقصد المُعارضة الإيرانية تحديداً – لإعادة بناء هيكلية جديدة لإيران، و التي هي تاريخياً، بلد عظيم، و لديها القُدرة، على إعادة صياغة سياساتِها، بصورةٍ أفضل لنفسها، للشرق الأوسط، و للعالم. تغيير نظام الملالي؛ سيُغيَّر المُعادلات في دول: لبنان، سوريا، اليمن، و الأهم في العراق بشكلٍ خاص، لأنه هو الأقرب جغرافيّاً لها.

تفعيل هذه الرغبة في السياسات الأمريكية، بالاشتراك مع العالم، حتّى و إن كان ذلك، في “بيانات حالمة”، أفضل من غصن الزيتون النووي (المجاني)، الذي يريد العالم انباته مرَّة أُخرى، في عمامة الملالي، على حِساب الشرق الأوسط.

البيان المشترك، عبَّر عن اهتمامٍ أمريكي بالعراق، من النوع الإيجابي، لكن جني الثمار عراقيّاً، يحتاجُ إلى جديَّة وطنيَّة لا إيرانيَّة. عليهم أن يفكِّروا مثلاً خارج الصندوق في أمورٍ عديدة.

الوجود الأمريكي في العراق، و في أسوأ حالاته؛ سيكون مثل وجوده في شبه الجزيرة الكورية، ضامِناً للتوازنات في شرق آسيا، و الذي هو مفيد حتّى لكوريا الشمالية، كما ذهب إلى ذلك، مايك بومبيو، في مُذكراته، وما مفادُه: “إنَّ بيونغ يانغ، ربّما أكثر دولة، في شرق آسيا، تخشى الانسحاب الأمريكي من المنطقة، لأنها تعرف إن ساعة ابتلاعها من بكين ستبدأ بالتكتكة!

آن الأوان أن يتوقف العراقيون عن رفضِ كُل شيء من أمريكا. على الأقل أن يتعلَّموا من الإيرانيين، وبكلمات ستيفن كينزر، في كتابه (العودة إلى الصفر) كيف: “يقودون مسيرةً يحملون فيها الشموع و يذرفون الدموع”، لا على ضحايا 11 سبتمبر – رحِمَهم الرب – مثلما فعلوا، ولكن على مستقبلِهم الضائع، و هذا أضعفُ الإيمان.. أحِبّوا أنفسكُم كي يُحِبَّكُم الرب.

{ كاتب وباحث عراقي – مدير التحالف الأمريكي الشرق أوسطي للديموقراطية وعضو الحزب الجمهوري

مشاركة