البيانان الشعري والمستطيل – نصوص – عبد الرزاق عبد الواحد

ذكرياتي 81

البيانان الشعري والمستطيل – نصوص – عبد الرزاق عبد الواحد

لأن الإشارة إلى ( البيان المستطيل ) وردت في رسالة الصكار في الحلقة قبل الأخيرة من الذكريات..ولأن للبيان المستطيل قصة هي من أمتع قصص حياتنا الأدبية في العقود الأخيرة .. وتوثيقاً لهذا البيان وما دار حوله ، وبسببه من أحداث .. سأكرس هذه الحلقة من ذكرياتي لاستعادة كل الظروف التي دفعت إليه ، وأحاطت بكتابته ، ونشأت عنه .. محاولاً ، وبموضوعية مخلصة ، أن أتجنب الإغراق في الدعابة التي كانت هي اساس البيان ومنطلقه. أتجنبها ، لما أصبح ( للبيان المستطيل ) من مسؤولية تاريخية .. كونه شهادة نقدية على شعر مرحلة من أخطر مراحل الشعر في العراق .

كنا في قطار المربد النازل إلى البصرة ليلة 26/4/1969.كان القطار يعجّ بالأدباء ، عراقيون وعربً وأجانب .. وفي عربات المطعم كان يتزاحم خليط عجيب من الشعراء والأدباء من كلا الجنسين .. كل مجموعة لها شاغلها .. هنا شاعر ينشد قصيدة وحوله جماعة تستمع .. وهنا نقاش حاد حول قضية شعرية .. وهناك حول قضية سياسية ..

كنت واحداً من المستمعين إلى الشعر ، وكانت – كما أتذكر –  قصيدة طويلة للشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد ، حين وقف على رؤوسنا الشاعر فاضل العزاوي وهو يحمل مجموعة من نسخ مجلة جديدة صدرت عن وزارة الثقافة والإعلام ، ا سمها ( شعر 69 ) ..ثم بدأ يسلم كلاً منا نسخته من المجلة ، متمنياً علينا قراءتها ، وإبداء الرأي بها ، ثم الإسهام فيها .

بعد لحظات كنت أتصفح المجلة فطالعني ، أول ما طالعني فيها ، موضوع بعنوان ( البيان الشعري ). استعجلت تصفّح المجلة لأرى من كاتب البيان ، فوجدته مذيّلاً بتواقيع أربعة شعراء ، أحدهم فاضل العزاوي .عدت إلى البيان لأطلع على ما فيه ، فوجدتني قد دخلت في متاهة معتمة ، أوضحُ ما فيها البيان السريالي لبريتون ! .

لا أدري لماذا ركبتني لحظتها روح المشاكسة ، فانعزلت عن الجماعة ، ثم ذهبت إلى كابينتي ، فأخرجت رزمة من الورق ، واستغرقت في الكتابة !

بعد أكثر من ساعة انتبهوا جماعتي إلي ! . كان أول من جاءني منهم الصكار .. قال : ” ماذا تفعل ؟ ” قلت :” أكتب أرجوزة .” قال :” في ماذا ؟ ” قلت :”في هذا ! ” .. ثم أريته ( البيان الشعري ) . فقعد الصكار معي .. وما لبث أن انضمّ إلينا شاعران آخران من عصبتنا هما يوسف الصائغ وسلمان الجبوري .

لا أهضم شركائي حقهم ، وإن كنت أدّعي أن أكثر من تسعة أعشار الأرجوزة كتبتها أنا ! .

خلال عملية الكتابة ، وبسبب عاصفة الضحك الكبيرة التي غرقنا فيها ونحن نكتب الأرجوزة ، تكأكأ علينا الشعراء والأدباء من كل حدب وصوب محاولين أن يعرفوا سرّ هذه السعادة الغامرة التي نحن فيها ! . خلال دقائق كانت الأرجوزة حديث قطار المربد كله ! ، بل لقد بلغ الأمر أن كثيراً من الأدباء والشعراء ، منهم من حفظ شيئاً منها ، ومنهم من كتب بعض أبياتها على قصاصات ورق وراحوا يجوبون القطار ، ويقرأونها على الجميع . الطريف أن أبيات الأرجوزة دفعت معظم المربديين إلى فتح المجلة ، وقراءة البيان ، ليروا مساقط هذا الرجز الذي سمعوه ! .

 بدأ الأمر نكتة هكذا ! .. واحتفظ الصكار بمسودات الأرجوزة معه *. وبعد أيام من رجوعنا، اتصل بي أبو ريّا ليخبرني أنه اتفق مع صديقنا الصحفي محمود كامل عارف،على نشر الأرجوزة في الصفحة التي يشرف عليها هو في جريدة (النور) .. ودعاني الصكار إلى بيته ليريني ماذا فعل بالأرجوزة ! .

دخلت صومعة الصكار في بيته ، وإذا به يضع بين يديّ مجموعة من الأوراق بالغة الأناقة ، وقد كتب فيها الأرجوزة بخط رائع . المفاجأة ليست هذه .. المفاجأة أن الصكار وضع لها عنواناً مثيراً حدّ اللعنة..ذاك أنه –  نكاية بالبيان الشعري –  سماها(البيان المستطيل في ما استجد من شعر هذا الجيل ) .. ثم ، وبكل رصانة أكاديمية ، قسّم الأرجوزة إلى أبواب .. وجعل لكل باب عنواناً لا يقل إثارة عن العنوان الذي وضعه للأرجوزة . خلاصة القول ، أن الصكار تناول أرجوزة كتبناها للتندّر وقضاء الوقت ، فجعل منها رأياً نقدياً بالغ الإثارة ، نشره – بالإتفاق مع محمود كامل عارف –  بطريقة تثير الإنتباه ! .

وقامت القيامة ..! . ما ظهر ( البيان المستطيل ) إلى النور ، حتى ثارت ثائرة ( البيان الشعري ) ! .. وإذا بالقراء يفاجأون –  بعد نشرالبيان –  بمقال متفجر للشاعر فاضل العزاوي ، يلعن التراث والتراثيين ، والسلف والسلفيين ، والناس أجمعين !. ويحمّلنا –  نحن أصحاب العقول العثمانية (كما ذكر) –  مسؤولية قيادة أمتنا لنكسة خمسة حزيران.. وأننا سنقودها إلى ما هو أدهى ، إن لم يبادر إلى تحطيم هذه الرؤوس المتخلفة ، متهماً إيانا بالجبن لأننا لم نعلن عن أ سمائنا **. ثم توعدنا بالويل والثبور وعظائم الأمور ، إن نحن أعلنا عنها ! .

لم يكن لديّ أي خيار آخر..كنت أول من كشف قناعه من الفرسان الأربعة ! . أذكر أنني بدأت ردّي على العزاوي هكذا : ” صاحب أكثر العقول العثمانية الأربعة تخلفاً .. وأجدرها بالتحطيم ، هو الفقير لله ، ولمعطيات (البيان الشعري) ، عبدالرزاق عبدالواحد ..فارس ( البيان المستطيل ) الأول ، والذي يقف أمامه ، ووراءه ، وعن جانبيه ! ” .

ثم توالت ردود فرسان (البيان المستطيل)الواحد بعد الآخر .. وتكاثر عدد المعلقين على البيانين ..وصرت تسمع أن طلاب الجامعة ، إذا نزل أحدهم صباحاً إلى بغداد يقول له أصحابه :”إذا وجدتَ في الصحف اليوم شيئاً عن البيان المستطيل ، فاشترها لنا .

لقد صار (البيان المستطيل ) أشهر من ( البيان الشعري ) .. بل لقد غطى عليه ! .

بعد أيام أغلقت مجلة ( شعر 69 ) .. وما يزال أصحابها ، حتى يومنا هذا ، يحمّلونني   جريمة ] إغلاقها!.

حين زرت الصكار في باريس ، وجدت لديه النسخة الأولى من الأرجوزة ، وبخط يدي –  كما أشار في رسالته إليّ –  كما وجدته يحتفظ بجميع ما دار حولها من النقاشات ! .

ولأنني شوّقت القاريء إلى ( البيان المستطيل).. فسأجعله مادة من ذكرياتي ، راجياً أن يرجع القاريء الكريم –  إن أمكن –  إلى مجلة (شعر 69 ) ، ليرى أن معظم نصوص البيان المستطيل منقولة نقلاً حرفياً من البيان الشعري ! .

هوامش

*كنت –  وما أزال – كلما ضاقت بي الدنيا ، أو ضقت بها ، بحثت عن سبب أفرغ فيه غيظي رجزاً ! . ولديّ الآن مجموعة من الأراجيز الساخرة يتجاوز عدد أبياتها ألف بيت من الشعر .. حتى أنني أرّخت كثيراً من فترات حياتي وأحـــــداثها بالرجز ! .

*يحتفظ الصكار دائماً بأوليات جميع هذه النـزوات التي غالباً ما يكون هو مشجعي عليها !.

*كان فاضل العزاوي في الحقيقة يعرف من هم أصحاب البيان المستطيل منذ ليلة كتابته .. إلا أنه تظاهر بالجهل ، إما تجاهلاً .. او لأنه أراد أن يشتمنا دون حرج ! .

 * * *

 البيان المستطيل

 في ما استجدّ من شعر هذا الجيل

ملاحظات مهمة :

1 –  كتب هذا البيان –  هذه الأرجوزة –  في القطار النازل إلى البصرة ليلة 14 / 15 –  4 –  1969 ، في مهرجان المربد الشعري الأول .

2 –  ونشر في جـــريدة ( النور ) العدد 171 في 12 / 5 / 1969 .

3 –  كثير من نصوص الأرجوزة مأخوذ من( البيان الشعري ) لمجلة ( شعر 69 ) .. إما حرفياً ، أو بتغيير طفيف تطويعاً للوزن والقافية .

4 –  لغة الأرجوزة ، بمفرداتها ، واشتقاقاتها ، هي لغة البيان الشعري .

 * * *

المقدّمة

مِن نقصِ موجوداتِ هذي الدّنيا من مُطلـَقٍ تسقطُ فيه الرؤيا

من ابتِئاسِ النَّزْعِ،نَزْعِ الصَّوتِ ومن مَساقـيطِ فِخاخِ الموتِ

ومن تَمَـحرُكاتِنـا القَعـيـدَه في مُطلَقِ الشَّرنـَقَةِ العَـنيده

 من ههنا تُـمَصْرَنُ الـقصيدة !

 البيان المدني

إنَّ اعوجاجَ الرَّفضِ في المرفوضِ والنَّقْضِ في المُنتَقِضِ المنقوضِ

من صُـلْبِ أزْمَةِ الوجودِ المـَرئي وعُـقدَةِ الإيغالِ في اللاشَـيءِ

والشاعرُ المُـعَمْـلَقُ اللافـانـي هو الذي مَـرْجَـحَهُ قُطْبـانِ

الموتُ والحيـاةُ .. والتَّمَـْركُزُ يَفرزُ فيما بينَـها ما يَفـرزُ

وهكـذا تُـقَـعَّـرُ القصـائـدُ ويولـَدُ اللابَـدْءُ والتَّـواجُدُ

وليسَ وَعيُ الشـاعرِ براكَماتي لكنَّـهُ تَمَـصْرُعٌ في الـذاتِ

فإنَّـهُ كمـا روى ” فالِـكْيـا ” يُمَغْـزِلُ الأبعـادَ عَبْرَ الرّؤيا

إذْ يَنْثَني على الفَراغِ المُمْتـَلي مُلـتَحِماً ، مُستَـنِداً كما يَلي :

 الإيغال في الخروج

تَزَحلُقُ الرؤيا على الوجـدانِ يُكَثِّـفُ الموتَ لـَدى الفنّـانِ

وحَيثُ تَغطسُ الرؤى في الأزْمَه يَندَلـِقُ الإحساسُ نحوَ القِمـَّة

لا داخلٌ يَضغطُهُ أو خـارجُ كغُرفَـةٍ لـيسَ لـَها َرتائِـجُ

والـوَعيُ ههُنـا ديالَكتيـكي مُمَوسَـقٌ مثلَ السُّعـالِ الدّيكي

 الخلاصة

وهكذا “تُمَسْهَـلُ ” الأفكـارُ حَدائـقاً ..وتُـفْـرَزُ الأشعـارُ

وتُشْطَفُ الرّؤيا بنَهـرِ الوَهمِ بَريئـةً من صَبـَواتِ العُـقْمِ

وَيُفْلـِتُ الشاعرُ من فِـلِـزِّهِ مُستَخلِصاً قوَّ تـَهُ من عَجْـزِهِ

مُجاوزاً تَفـاهَـةَ التَّكنـيـكِ إلى مَـدارٍ شِـبْهِ ميـكانيكي

 هوامش

مُهمَّـةُ الفَنّـانِ عندَ الكَشْـفِ عن الرّؤى في بَحْلَقاتِ الخَوفِ

أن يَستَطيلَ الحُلـُمُ المُنكَسِـرُ بِشَرْطِ أن يَشـْطرَهُ تـَمَجْـذُرُ

فاللُّغـةُ الشِّعـريَّـةُ الرَّنـينِ صامتـةٌ تُسـمَـعُ بالعيـونِ

مَليئـةٌ بالعُشـبِ والألغـازِ أ شاربٌ أنتَ جكَارَةْ غـازي ؟

 أقاعـدٌ يَومـاً بقَعْـرِ بيـرِ مُحَمْلِقـاً في جَوفِـهِ المُنيـرِ؟

  كذاكَ يُولـَدُ النَقاءُ العاري مُغتَسِلاً في أنظَـفِ المجـاري

حول النقد

والنَّقـدُ إذ يُمارِسُ انشِـطارَهْ يُعَـلِّبُ الأفكـارَ للحضـارَة

كراكِـبٍ طيَّـارةً حزينَـهْ بلا جَنـاحٍ ، وبِـلا مَكينـَـهْ

أو قاعدٍ في أسـفَلِ الكابوسِ كَلَفْظَـةٍ تَـنُـقُّ في القـاموسِ

 عودة ٌإلى مهمة الشاعر:

وهكذا شـاعرُ هـذا العَصْرِ يُبـدِعُ إذ يكتبُ ما لا يَـدري

يَنـامُ في َيقْـظَتِهِ ، ويَصحو في نـَومِهِ .. يَخُطُّ ، ثمَّ يَمحو

وكَي يَكونَ شاعـراً كبـيرا علَيْـهِ أنْ لا يُحسـِنَ التَّفكيـرا

عليهِ أن يقولَ شعراً غامضا تركضُ خلفَـهُ ويبقى راكضـا

فأنتَ إن أدرَكتَـهُ يا قـاري فَـذاكَ طائرٌ بـِلا منـقـارِ

 خاتمة

المَجـدُ للـشـاعرِ إذْ يَرودُ مَجاهِـلاً يَعـيثُ فيها الـدّودُ

المَجـدُ للقصيدةِ المُمَغْـنَطَهْ تُحَـرِّكُ المَشـاعرَ المُحَنَّـطَهْ

المَجـدُ للقاريءِ إذ لا يَفهَمُ المَجـدُ للسّـامعِ وهو مُرْغَـمُ

هذا بَيانُنا وقد وَفّى الغَرَضْ ومَن أساءَ فَهْمَهُ يطُبـَّهْ مَرَضْ !

  * * *

 ملاحظة : بين ما مرّ من الذكــــــريات وما سيأتي ، أربع حلقات مفقــــــــــــودة  نعــــــــــــود إليها في وقــــــــــــــــت لاحق.