البلاء.. – عبدالمنعم الاعسم
لا جديد في القول بان الظروف التي انقذفنا لها غاية في الصعوبة والتعقيد، مسبوقة بالبلاء، وبعضه، اذا ما شئنا الدقة، من ايدينا.
بطل رواية ماركيز «مائة عام من العزلة» العقيد اورليانو هتف في لحظة اعتراف قائلا لابناء جلدته: انظروا الى البلاء الذي جلبناه لانفسنا.
ولو لم تكن الحياة صعبة لما خرجنا من بطون أمهاتنا نبكي. شيء واحد يجعل الحياة سهلة ورقراقة وغير ذي نحس، هو ان نهجرها الى صومعة لا يدخلها اوكسجين اشجار التفاح، سنكتشف اننا بلهاء كفاية.
احيانا لا نعرف ماذا ينبغي ان نعمل، فكل الخيارات شاقة ومكلفة، مثل تلك المرأة التي كانت تصعد السلم فقال لها زوجها: انت طالق إنْ صعدتِ وانت طالق إنْ نزلتِ، فرمت بنفسها من شاهق السلم الى الارض، واحيانا اخرى نلوذ بغيرنا اتقاء مصاعب الحياة ولا ندري ان للوذ احكام وضرورات. في نهج البلاغة، كان الامام على بن ابي طالب قد ركب لحاجة، فاتبعه رجلٌ يمشي خلفه، فقال له كرم الله وجهه: إرجعْ، فان مشي مثلك مع مثلي فتنة للمتبوع، ومذلة للتابع.
على مستوى الوطن، علينا ان نقرّ باننا نمرفي ظروف صعبة، وشاقة، فثمة حاجة لبناء المصانع والشواهد وخطوط الماء والكهرباء والعمران والمدارس وشبكات النقل والبريد وبناء وحماية السدود وكري الانهار، وثمة حاجة لبناء البشر والنفوس مما شابها من تصدع ومعايب ومكاره، وحاجة عاجلة الى تجفيف مصادر الفتن والاباطيل، وانه كلما قللنا من شأن هذه الصعوبات والمشاق فاننا لا نغير من الامر شيئا، وقد نسيئ، في ذلك، الى انفسنا وبلادنا معا، لأننا سنلقي على الثغرات والفجوات والاخطاء والاخطار غلالة مخادعة من ستائر الحرير تخدر الناس وتمنعهم من المشاركة في التعبئة لقهر التحديات، لكن الامر المدوي يتمثل في ان أولي الامر منّا، وبدلا من حل العُقد، صاروا عُقداً أمام الحل. وإذ ينبغي ان نعترف ونقر باننا نمر في مرحلة صعبة فاننا لا ينبغي ان نلقي بكلفة هذه المصاعب الى ما وراء الحدود، او ان نبسطها على قارعة الطريق ليتكرم بها علينا كل من هب ودب. ان ثمة كرامات علينا ان نحميها من الابتذال. كان ابا ذر الغفاري قد مر في موقف ينبغي ان نتذكره دائما، فقد ارسل حاكم القوم له ثمانين الف دينار مع احد عبيده، وقال الحاكم للعبد: إنْ قبَلها منك ابا ذر فانتَ حرٌ، فذهب الرجل الى ابي ذر وعرضها عليه قائلا: يا أبا ذر، إقبلها، فان فيها عتقي. فاجابه ابو ذر: إن كان فيها عتقك، فإنّ فيها رقّي.
الى ذلك علينا ان نحذر، فليس كل من يدعي انه يعيش مصاعب الحياة هو على حق، فثمة البعض يمثل امامنا دور المعوز والمحتاج والمظلوم على غير حق: في رواية من التاريخ، جاءت امرأة تخاصم رجلا لدى احد القضاة، وهي تبكي، وكان عند القاضي احد الادباء، فقال للقاضي « لقد فطرت قلبي، ما اظنها إلا مظلومة» فقال له القاضي: يا هذا، إن اخوة يوسف جاءوا اباهم عشاء يبكون.
اما محمود درويش فقد تساءل في نقطة تماس مع الخطر:هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا… لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟ وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
والحال ان نكون صادقين مع انفسنا أسوأُ من أن نكذب على غيرنا، لكن لا ينبغي ان نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا، تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع..
وهنا يكمن البلاء.