
البقاء لله وللكلمة
أمل الجبوري
كنّا نكتب في عصر الصحف ذات اللون الواحد والخطاب الواحد، ولكن كانت اللغة هي عروتنا ووسيلة نجاتنا. ونحن نحاول أن نكتبَ شيئاً مختلفاً عما حلّ ببلادنا بعد ١٩٩١
كانت لي زاوية اسبوعية في جريدة الجمهورية اسمها المسلة في تسعينيات القرن المنصرم، وكان اتفاقي مع رئيس التحرير هو أن يصون مقالاتي من مقص الرقيب، وبالفعل وفّى بوعده إلا في حالتين اثنتين وهي ليستا موضوع هذا المقال. لكن لم أكن أتصوّر، ان تلك المقالات التي كنت اكتبها على ضوء الفانوس النفطي، حيث انعدام الكهرباء والماء وكل وسائل الحياة أن يتذكرها اي قارئ بعد كل الذي حصل، وخاصة بعد قصف امريكا لبغداد عام ١٩٩١ بكل التوحش التي تحمله طائرات الحقد التي عطلت كل وسيلة للنجاة آنذاك.
لكن العراقيين تفنّنوا في اختراع سبل للنجاة وابتكروا لاستمرار الحياة وسائل لم نكن أبداً، حتى أن نتصوّرها. ومثال ذلك حينما اختفى البنزين من الاسواق بدأنا باستخدام قناني الغاز في المطبخ كوقود لتشغيل سياراتنا، والغَرفُ المباشر من مياه دجلة كان الزاد من حصة المياه التي اغتالتها امريكا
نعم، عشنا خراباً في كل زاوية من مدننا، وانهزمنا كبلد، كان يقف على مشارف ومنصات الانفتاح والتقدم الى بلد يعود شيئاً فشيئاً الى التقشف والموت البطيء
كان كلّ شيء ينهزم، وحتى الكلمات. التي تصوّرت ان بإمكانها أن تصرخ كانت تنوء بحمل صراخنا المكبوت وتعلن انهزامها امام شروخٍ قسّمتنا وباعدتنا وأنهكتنا
نعم، انهزم الجميع في تلك الحرب، ولم ينجُ أحد، وبالطبع لم يحفظ الارشيف لنا ما كتبناه لأنه فيما بعد نُهبَ وحُرق تحت حماية رعاة الكاوبوي والحرية في عراق ٢٠٠٣
وحينما داهمتنا، صدمة داعش التي لازال لغزها يشغلني، مثلما يشغل المنكوبين من اهل المدن التي تُركت لداعش فريسة هي ومَن فيها، وتحت وقع هذه الصدمات، والموصل الاسيرة كانت في عصمة الخلافة
التقيت بالمصادفة في كلية الآداب بجامعة بغداد، بشخص ضمن مجموعة خبراء وأكاديميين في قاعة الادريسي يناقشون دور الاعلام في المعركة تحديداً في العام ٢٠١٧
هذا الشخص اقترب مني سائلاً اياي: هل أنت فعلاً الشاعرة امل الجبوري؟
اجبته: نعم، كيف عرفتني والجميع يسبق اسمي بالناشطة والحقوقية ونادراً ما يضعون صفة الشاعرة؟
أجابني: طالما، انت نفسُ الشاعرة التي عرفتها عام ١٩٩١ من خلال مقالك: – غادرتنا الحرب هل غادرت قلبي؟
هنا نظرت للرجل نظرة اندهاش لهذه الذاكرة. فهو يعود بي الى أكثر من ربع قرن من زمن احترقت ونهبت فيه ذخيرة جريدة الجمهورية من ارشيفها و لم يعد بإمكان احد منّا نحن الكتاب من استعادة ما كتب، إذ كان غوغل مجرد نطفة في عقل من طوره واخترعه، آنذاك ولم يولد بعد، وحرب امريكا ضدنا لم تكن حرب اسقاط نظام واستبداله بآخر، كانت حرباً لمحو ذاكرتنا وتراثنا، وهذا أشد خطراً وكارثية على أي شعب. فالشعوب بلا ذاكرة هي شعوب ستندثر سريعاً لا محالة
لكن.، كيف لرجل بعد أكثر من ربع قرن يتذكر مقالا عابرا نشر في ظل فوضى الهزيمة والمطر الاسود الذي خيّم على سماء بغداد!؟
اجابني، مُعرفاً بنفسه: اسمي عصام عباس امين، كنتُ جنديا في خدمة الاحتياط في تلك الحرب كمهندس، كنت أداوم اثناء القصف وطوال الحرب في معسكر التاجي ، في واحدة من تلك الايام اشتد القصف الامريكي بالطائرات على معسكرنا، وفي واحدة من تلك المعارك تحطم كل شيء من حولنا وفوق رؤوسنا وبعد لحظات تحسست جسدي فاذا بي لازلت حيا يغطي وجهي سخام بقايا الحرائق التي خلفها القصف المجنون على مقرنا في المعسكر
من المصادفات العجيبة ان تقع عيني، بعد ايام وفي زحام هذه الفوضى من الموت المجاني على عدد من جريدة الجمهورية وتحديدا على مقال. تحت عنوان: غادرتنا الحرب هل غادرت قلبي للشاعرة امل الجبوري ، العنوان جذبني للعودة للقراءة التي أوقفتها هذه الحرب
وكنت قد خرجت بأعجوبة من موت محتم، اقرأ في كلماتك، واتحسس وجهي ويدي وعيني، تلك الكلمات شعرت فيها انها توقظ الحياة مرة اخرى في روحي وليس في جسدي فقط، كانت أول نص أقرأه بعد نجاتي سهواً من القصف، فكلماتك بقيت في ذاكرتي لأنها ارتبطت بالحياة وبقدرة الكلمات ان تعيد الحياة الينا في ظل خراب تام.
استمعتُ اليه وأنا سعيدة، ليس بسبب الاطراء على ما كتبت، لكن لم أكن أتصوّر في واقع الحياة العملية وفي ظل هذه النكسات التي مرّت بها أرواحنا ان تستقر الكلمات في ذاكرة الناس وترتبط بفاعلية الحياة وانتصارها على عبث الحروب
ولأنّ الرجل لم يكن انساناً عابراً توقفت لحظة، لأقول له هل تعرف قصة نشر هذا المقال وهي قصة تضاف الى قصتك التي حدّثتني عنها وانت تمسك بالصحيفة
فطلب مني ورجاني ان أخبره. قلت له، في مرة مقبلة، سأخبرك
وها أنا أعدك يا عصام وأنت تصارع الموت الآن علّ كلماتي هذه المرة ايضاً ان تكون سببا في نجاتك. مرة اخرى من دائك اللعين الآن، كما فعلت تلك الكلمات عام ١٩٩١
بعد اعلان القيادة العراقية آنذاك الانسحاب الرسمي من الكويت، بعد خراب البصرة كما نقول، وبدء القصف السجّادي كما اطلق عليه الامريكان يحصدون المنسحبين من جيش العراق كما القطعان في طريق الموت، المطلاع البصرة ، ليحترق الالاف ويذوب الاخرون في سياراتهم ومَن نجا بأعجوبة دخلَ البصرة وليصوب احد الضبّاط المنكسرين ما بقي من رصاصات رشاشه الى جبين صدام المنتصب في جدارية البصرة ، رصاصات ذلك الضابط المكسور حاله حال الملايين ، كسرت حاجز الرعب لدى العراقيين لتبدأ صفحة اخرى من تلك الحرب ، وهي احتجاج شعبي كانت شرارته رصاصات ذلك الضابط المنسي في سرديات انتفاضة عام ١٩٩١، هذه الانتفاضة التي أسقطتها فيما بعد شعارات ولي الفقيه في ايران التي دخلت الحدود لتسرق وتنهب وتحرق كل مرافق العامة من مستشفيات ومكتبات ودور عبادة ووووو ( لعل شهادات الناس لازالت محفورة في ذاكرتهم عن تلك الايام ) هذا التدخل الايراني هو السبب الاساس الذي وأد انتفاضة الشعب ضد الحروب والطغيان قبل ان تستعيد الدولة سيطرتها مرة اخرى على المدن المنتفضة.
في تلك الاثناء، عاد مَن عاد مشيا على الاقدام من الجنود العراقيين، ومَن لم يستطع، فإمّا انتهى على يد الامريكان او احتجز من قبل قوات الحرس الثوري الايراني (لازال هناك المئات من الضباط والمراتب في السجون او القبور الايرانية)، ففيما كنت مشغولة بعزاء ابن خالتي الذي قتلته قنابل امريكا في جزيرة فيلكة ، وصل شقيقه بقدميه الحافيتين الى بغداد مشياً من الكويت ، وبمساعدة الخيرين من العراقيين ، ليُصدم بمقتل اخيه.
في مشاهد القصف، وانقطاع الماء والكهرباء، وسقوط المدن واحدة تلو الاخرى، ونحن في بغداد، نتحدث همساً، نرتعب من القادم من الايام، ذهبت الى جريدة الجمهورية حاملة معي أوراقي الذابلة وكلمات كتبتها تحت ضوء الفانوس ، حتى انني لازلت أتذكر، كيف انّ أحد الزملاء قد نبهني الى ضرورة تنظيف انفي من سخام اسود. وهو بالطبع سخام الفانوس لكنه ايضا كان سخام تلك الحرب المروّعة وكل الذي مررنا به
قرأت شيئاً مّما كتبت لزملائي وهذه كانت من عاداتنا. آنذاك، ثم انطفأت حينما دخل علينا رئيس التحرير وقتها. وكان الكاتب والاعلامي سعد البزّاز، سألنا كيف الحال، اجابه الجميع انهم بخير، لكني نظرت في وجهه وصوتي كان يحمل انكسار الكون كله قلت له. خير. اي خير؟!!!
ردّ عليّ: انت مهزومة وانا لا أتكلم مع المهزومين، ثم انصرف، بعد لحظات. نادتني مساعدته وهي السيدة (ام مصطفى انعام البصري)، قالت انّ الاستاذ يريد التحدث معك
دخلت الى مكتب مسؤولي ورئيس تحرير الصحيفة التي اعمل فيها، سألته استاذ. انت وصفتني بالمهزومة فلماذا تريد التحدث مع المهزومين؟!!!
قال؛ اخرجي اوراقك واقرأي عليّ ما كتبتيه من جديدك
قلت ليس لدي ما اكتبه
فكيف عرفت؟
قال: اقرأي ليس لدي الوقت
اخرجت أوراقي التي لازالت احتفظ بها، وكأنها كتبت، يوم أمس وليس قبل أكثر من ربع قرن
غادرتنا الحرب هل غادرت قلبي؟
بدأت بالعنوان اعلاه وحينما انتهيت. علّق البزّاز عليّ: ( المعذرة لذكر نفس الجملة بصيغتها بلهجتها المحلية التي استخدمها البزّاز لكن الرواية الدقيقة للحدث تستدعي الدقة في النقل )، اندهش قائلا لي : كأنني استمع الى خليل حاوي او ادونيس انت يا امل سيكون لك شأن كبير في الكتابة ليس هنا في العراق ولكن ابعد من ذلك
وعلّق: هي ضارطة ضارطة ، وهو يكتب هامشا لإدارة التحرير في الصحيفة : تنشر المادة ( اي مقالي ) في الصفحة الاخيرة وتعتبر من المواد الرئيسية في الجريدة وتشرف الشاعرة بنفسها على نشر المقال
لكن انهى لقاءه معي بالجملة التالية: هذه المرة، سأحذف جملتك الاخيرة في المقال
ليشطب السطر الاخير في المقال: وأبعد من هذا البحر
مُعلقا: لا نريد ورطة جديدة بسبب هذا البحر
هذا السياق التاريخي الذي نشرت في اجوائه مقال غادرتنا الحرب … هل غادرت قلبي ؟ ، الكلمات التي انتصرت على المحو والنسيان.
طلب منّي عصام وبإلحاح أن انشر هذه القصة، وان يحصل على اي كتاب لي. اخرجت من حقيبتي النسخة اليتيمة من ديواني هاجر قبل الاحتلال هاجر بعد الاحتلال، والتي كنت قد جلبتها معي لمكتبة كلية الآداب التي تخرجت فيها في نهاية الثمانيات من القرن المنصرم ، قدمت له الكتاب هدية وانا اقول له ، استاذ عصام ، الكتاب سيكون في امان واحترام في ذمة انسان مثلك. وبالتأكيد لن يذهب ادراج الغبار في مكتبات لم تعد تغري شهوة القرّاء في عصر السوشيال ميديا
اكون ممتنة لو تقبلته منّي هدية عرفانا وشكرا، لأنك أعدت لي ثقتي بقوة الكلمات، حينما تخرج من قلب مثقوب بالفقدانات والخسارات والرعب، كلمات كتبتها حينما كانت تُعجن حروفها بدموع امتزجت. بسخام فانوس نفطي ليخطان على ورق الصحيفة الاسمر لوحة بقيت خالدة في ذاكرتك العراقية، واستعدتها معك بعد كل حطام الزلازل التي مرت بالعالم وبنا نحن، العراقيين الصابرين، في وجه الالغاء والمحو
عصام عباس امين خبير ستراتيجي كتب العديد من الدراسات والبحوث عن ظاهرة الجماعات الاسلامية المتطرفة، وادناه المقال الذي كتبه فيما بعد عن ديوان هاجر قبل الاحتلال. هاجر بعد الاحتلال والذي رفض المسؤولون في الصحف العراقية نشره، ولذلك قصة اخرى سأرويها في مقال قادم
https://kitabat.com/2019/01/18/هاجر-قبل-الاحتلال-هاجر-بعد-الاحتلال/