قصة قصيرة
البار
إيمان العبيدي
في يومٍ عابسٍ كعبوس السماء و زمهريرها و تلك الهموم التي كانت كالغيم الأسود مثقلة بها الروح، و تيهان نفس ما أستقرت و لا إستكانت يوماً، كان موعده مع الأقدار كموعد مريض لا يرتجى شفاؤه، كل ما يخطو ويرتجي الأمل يُهاجمه الخوف من أيامه التي تركض تلتهم شارعهُ الأسود، و تتراكض الأرصفة كأنها في سباق مع الزمن الراكض نحو نهايته التراجيدية. هكذا كان في بداية صباه، كم تمنى ان تكون له نهايات خالدة يَحسده عليها الناس، و أبى القدر أن يكون رحيماً كريماً معه يعطيه ما يرجو وما يتمنى و يطلب، لكن هيهات. ما أقسى اليأس الذي يلفُ الروح ندماً و حسرةً في الليالي الباردة التي يبات زمهريرها في العظام.
آه من تلك الأيام الرمادية التي كان يَخالها وردية مثيرة. مشى في كل مرة نحو مصيره ومنذ تلك اللحظة التي عرفَ فيها أن قلبه مهجور يئس أشدَ اليأس و هو يقترب من الأربعين، ما أقسى شعور الوحدة الذي ياكل الروح يوماً بعد يوم، و عاماً بعد عام، و حيداً بلا أمل، بلا وطن.
تَذكر في أيام الحصار كيفَ كان، و كيفَ عاش عالة على إمرأة كانت كريمة معه، كي يَتجاوز محنة الجوع و الفقر، و فجأة أغتالها الموت، الغريب المؤلم انه لم يَحزن لوفاتها، ربما كان بموتها يثأر لرجولةٍ مُهانة، لأنها شَهدت انكساره.
عندما فقدها فقدَ كرم سيدة باعت حتى حُليها الذهبية كي تعطيه، ينثرها حلوى و هدايا على أولاده، تعجبَ كيفَ إن عينيه تَحجرت في لحظة و هو يَسمع عبد الباسط يرتل بصوتهِ الرقيق أيات من الذكر الحكيم. واستغرب إحساسه وبرود مشاعره، من ليالٍ وحكايا غرام و متعة . اتجه الى مسجدٍ قريب يُحاول أن يستجدي أي كلمة مواسية له أو نصيحة، وربما اجابات لخانات الأسئلة عنده. دخل يخطو متعثرا عله يشعر بالطمأنينة والأمان، تلفت يبحث عن نورٍ يُضيئ ظلامه. ليُعزي نُفسهُ القلقة، و يبحثُ عن الخلاص،و معَ كُل خطوة كان شيطان نفسه يمنعه، يَلعنه، يوسوس ان لا تُسِر الى مكان ما عرفته، كيفَ تَسير لمكان ما عرفتَ له طريقاً يوما.
صغي الى شيطانه مَذهولاً يُنصتُ الى أهوائه الأمارةَ بالسوء، يُبرر له غفلته بمبررات و اعذار، و هو يَعلم أن سُبل الله مفتوحة و أبوابهُ مُشرعة. لمن ُيريد الدخول. و بين الحيرة والقلق بين النفس و شَيطانُها، يأسَ من الحوار تراجع وهرولَ مُسرعاً الى الطريق الذي إعتادهُ لأقرب بار ، شتان ما بين المكانين، المسجد و البار، الأول يُهديء النفس و يمنح الطمأنينة، السلام و الأمان، و السكونَ للقلب وراحة الضمير ، و الأخر يُلغي العقل و يعمي البصيرة و القلب، يَمنحُ الجزع و يورثُ الفقر.آهٍ يا إبن آدم عندما تُصغي لشيطانك دخلَ وشارَكَ جليسا لا يعرفه، سكران يَذرف الدمع و الحسرات بسخاءٍ و إنكسار، يَتألم و يَتأوه و يبكي بصوتٍ خافت.و من باب الفضول وتزجية الوقت ولينسى مصيبته و لمعرفة سر معاناته،و منبع ألمه، سأله : لِمَ هذا البكاء الحار ؟
تَحشرج صوتُ جليسه و اغرورقت عيناه بالدموع، و قال : من تكون انت لأخبرك سر تَعاستي ؟ حاولَ أن يلتمس لهُ عذراً : أردتُ أن أهون عليكَ مُصيبتك عندما تَسمع مصائبَ غيرك ! إتجه السكران بجسده و أقترب ليسمعه و يستوعب ألمه و ليُشعره بالثقة قال له : يا أخي دوامُ الحال من المحال و سبيل كُل عيش رغيد مصيرهُ النهاية، قد نَحزن و نتألم لفقدان الأحبة، لكننا ننسى بمرور الأيام.
حاولَ ان يكسب ثقته و يكلمه بهدوء وسطَ ضجيج السكارى و عَربدَتهم.آهٍ من هذا المكان الذي تَجتمع فيه التناقضات و تُمارس فيه الرذائل، يَرتاده الغني و الفقير، السعيد و التعيس، الظالم و المظلوم،يجمعهم شئ واحد الهروب من الواقع و البحث عن سبيل لأطفاء صراخ الضمير بداخلهم، يُنشدون النسيان. تعالى الضجيج و ضاع صوتُ أم كلثوم و أختلط مع الفوضى وصوت رجل يُغني بصوتٍ مبحوح اغنية من مقام اللامي.تَلفتَ جليسُه بعد أن عَدَلَ ملابسه، و قال : كيفَ تَهدأ روحي ! أشعلَ سيكارة ونفث دُخانُها و أضاف، قائلاً : هي التي أورثتني الفقر، كنت ميسور الحال، أعيشُ برغد، لكنها تلك الخائنة التي سَلبت حتى خاتم زواجي، ما أجمله، كان خاتماً ذهبياً مرصعاً بالألماس.و بحركةٍ لا إرادية نظَرَ صاحبنا الى خاتمه المرصع بالألماس و أنزلَ يديه تحتَ الطاولة محاولاً أن يُخبئه.سحبَ السكران صورة من جيبه و قال: أتحبُ أن تراها تلك الخائنة لعنها الله ، لقد ماتت اليوم، الى جهنم و بئس المصير.
بسرعةٍ متناهيةٍ مزقها السكران، تطايرت شضاياها، وضع الخاتم المذهب على الطاولة و خرج مسرعاً، و هو لا يعرف، هل شعرَ بالشفقة عليها، ام على السكران، أم على نفسه ! وقهقهة السكران وشذو ام كلثوم والصوت الاجش تُلاحقه ……..