الامام علي عليه السلام .. طيب المولد وعراقة النسب – حسين الزيادي

الامام علي عليه السلام .. طيب المولد وعراقة النسب – حسين الزيادي

الحديث عن علي بن ابي طالب (ع) ذو شجون لا تسعه المجلدات، ولا تحتويه الكتب والمصنفات ولا تحصيه الأرقام والبيانات، والبحث في فضائل الإمام عليه السلام ومكانته، عملية شاقة ومتشعبة على كل من ولج هذا الميدان، اذ كان العلم سبيله والحقيقة غايته، وكيف تعد فضائل من اسرّ اولياؤه مناقبه خوفا، وكتمها أعداؤه حقداً، ومع ذلك شاع منها ما ملأ الخافقين، فقد سبق الأولين، وأعجز الآخرين ، فهو الامام الذي اخترق بعبقريته جغرافية الزمان والمكان، وملأ الدنيا عدلاً وزهداً وبطولة، ورحم الله ابن عباس إذ قال: (لو أنّ الشجرَ اقلامٌ، والبحرَ مدادٌ، والإنس والجن كتّاب، ما أحصوا فضائل أمير المؤمنين عليه السلام)، وكيف تعد فضائل من قال فيه الرسول الكريم (صل الله عليه واله وسلم) يوم نزل لقتال عمرو بن عبد ود العامري: برز الإيمان كله إلى الشرك كله، وقال فيه بعد ما قتله: ضربة علي لعمرو يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين، ويكفيه شهادة الرسول الاكرم مخاطباً ابنته الزهراء: إني زوجتك خير أهلي وخير أمتي، أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً، وقد تواترت الاخبار باعطاه الراية يوم خيبر ومقولة الرسول الكريم له ‏: ‏لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله….

في ذكرى استشهاد إمام الكلام والفصاحة وركن الشجاعة والحكمة ورمز الإنصاف والعدالة، يبقى الحديث قاصر، واللسان عاجز، لان العطاء اللامتناهي والعظمة العلوية ماهي الا امتداد طبيعي لعظمة الرسول الاعظم صلى الله عليه واله وسلم، لذا تبقى الاحاطة بجوانب حياة الامام وسلوكه وعلمه وجهاده واجتهاده امر صعب مستشكل،  فلايمكن للكاتب مهما بلغ من دقة الالفاظ وبلاغة المعاني وعنفوان التعبير ان يوفي الامام معشار حقه، فالخصائص الخلقية، والسجايا النفسية التي امتاز بها الإمام علي (ع) على سائر الأمة جعلت الكتابة في سيرته امر عسير متعذر، لكن ربما تكون في الإشارة ما يغني عن العبارة.

أقل الرعية

  وماذا نقول في امام طلَّقَ الدنيا ثلاثاً، وضرب أروع الأمثلة في الايثار والزهد والقناعة في طعامه ولباسه وفراشه وهو القائل: أأقنع من نفسي أن يُقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، حتى أنّه عليه السلام استشهد وكان اقل الرعية نصيباً ولم يورث شيئاً يستحق الذكر، فقد كان عليه السلام أزهد الزهاد وهو القائل (إن دنياكم هذه أهون عندي من عرق خنزير في يد مجذوم)، وقوله: (ان دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى)، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً، ما شبع من طعام قط، قال (عليه السلام): لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها، وهذا ما اكده ضرار بن ضمرة واصفاً الامام عليه السلام: .. وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، يبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا، غرّي غيري، أبي تعرّضتِ؟ أم إليَّ تشوّقتِ هيهات هيهات، قد بنتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه آه من قلّة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق.

جمع الاضداد

    هذه الشخصية العظيمة جمعت فيها الاضداد وهي صفات لا يقوى على حملها انسان بل أن الأفذاذ انفسهم عجزوا عن جمع الأضداد في شخصياتهم، لذلك نراه يبرع ويحترف في مجال واحد دون سواه أو في مجالات مشابهة، ولكن من الصعب جدا أن تجد انساناً بارعا في مجال ومحترفاً في المجال المعارض له، غير أن الامام (ع) لا تنطبق عليه هذه القواعد ليس لخلل في القاعدة، بل لان شخصية الامام خارقة في صفاتها، والا بماذا يمكن تفسير ان الامام الذي جندل الأبطال في المعارك كان يشرف بنفسه على رعاية الأيتام، فهو أبو الأيتام ومنبع الرقّة والرحمة وكنز الإنسانية الذي لا ينضب، وهو البكاء في المحراب ليلاً والضحاك اذا جد الضراب، ، وفي نفس الوقت هو السيف البتّار والقلب المغوار الذي لا يخاف في الله لومة لائم وهو القائل والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت، كان عليه السلام من أشد الناس  اجتهاداً في العبادة ، وآدباً في المعاملة لنفسه، مع كل ذاك فهو ألطف الناس أخلاقا وأسفرهم وجهاً، وأكثرهم بشراً، وأوفاهم هشاشةً، وعلى الرغم مما احتواه من عراقة النسب وقرابة الرسول وسابقة الايمان الا انه كان من أشد الناس تواضعاً وألينهم عريكةً وأسمحهم خلقاً، وأبعدهم عن الكبر، وأعرفهم بالحق، وحاله هذا واحدٌ سواءً قبل توليه الخلافة أو بعدها وذلك لأنه لم يزل أميراً فلم يستفد بالخلافة شرفاً، ولا اكتسب بها زينةً، بل هو الذي زانها.

عبادته

   روى المؤرّخون صوراً مذهلة عن عبادة الإمام (ع)، فقد كان يقيم الصلاة في وسط المعركة وسهام الأعداء تأخذه يميناً وشمالاً، غير مكترث بها لأن مشاعره وعواطفه قد تعلّقت بالملكوت الاعلى، وقد عظم المعبود عزّ وجلّ في نفس الإمام (عليه السلام) فصارت عبادته تعبيراً عن الحب له والشوق إليه، واستشعار أهليته للعبادة، وقد رويّ عنه ممن بات معه قال: بت ليلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان يصلي الليل كله، ويخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلى السماء، ويتلو القرآن، فمر بي بعد هدوء من الليل فقال: أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين، قال: طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً، وقرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم.

بلاغته

كَان أمير المؤمنين (عليه السلام) اصل الفصاحة ومُورِدُها، ومُنشأ البلاغة ومُوطنها، ومنه (عليه السلام) ظهر مَكنونها، وعنه أخذت تشريعاتها وقوانينها، وعلى أمثلته حذا كل خطيب مفوه، وبكلامه استنجد كل واعظ بليغ، وهو إمام الفصحاء وأستاذ البلغاء بلا منازع لأن كلامه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين، وفي ذلك قال عامر الشعبي : تكلم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالاً فقأن عيون البلاغة ، وأيتمن جواهر الحكمة ، وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهنَّ ، ثلاث منها في المناجاة ، وثلاث منها في الحكمة ، وثلاث منها في الأدب ، فأما اللاتي في المناجاة فقال ( عليه السلام ) : ( إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً أنت كما أحب فاجعلني كما تحب ) وأما اللاتي في الحكمة فقال ( عليه السلام ) : ( قيمة كل امرءٍ ما يُحسنه ، وما هلك امرءٌ عرف قدره ، والمرء مخبو تحت لسانه ) وأما اللاتي في الأدب فقال ( عليه السلام ) : ( امنن على من شئت تكن أميره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، واحتج إلى من شئت تكن أسيره).

شجاعته

لاتقاس شجاعة علي بالمعنى المتداول للشجاعة فهي شجاعة فوق شجاعة الشجعان ، فكان كما قال لاابالي اسقطت على الموت او سقط الموت عليّ، فشجاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) كالشمس في رابعة النهار، فهو قالع باب خيبر والنائم في فراش النبي ومجندل الابطال وهازم الاحزاب، وفي شجاعته شهد له أعداؤه قبل اصدقاؤه، فقد دعى معاوية إلى المبارزة في معركة صفين، قال له عمرو بن العاص: لقد أنصفك الرجل، فقال معاوية: ما غششتني منذ صحبتني إلاّ اليوم، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق، أراك طمعت في امارة الشام بعدي.. بل إن أعداءه كانو يفتخرون بأن علي هو قاتلهم.. فهذه أخت عمرو بن عبد ودّ قالت ترثيه:

لو كان قاتل عمرو غيـر قاتله  بكيته ما أقام الروح في جسدي لكن قـاتله من لا يعاب به   وكان يدعى قديماً بيضة البلد

منهج الامام

للأمام علي بن ابي طالب (ع) رؤية مميزة لحقوق الانسان تتسم بالشمولية والعمق والتطبيق العملي، بحيث نستطيع القول أنه سبق شرعة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الانسان في كل البنود الذي تضمنها هذا الاعلان، وهذه الرؤية تقوم على مبدأ التعايش السلمي للإنسان مع اخيه الانسان، ومازالت كلمات الامام تخترق حجب التاريخ في وصيته لمالك الاشتر : واعلم ان الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق، فمبدأ الكرامة الانسانية من أهم المبادئ والأسس الفلسفية التي تقوم عليها حقوق الانسان وتتفرع على أساسها بقية الحقوق، بل هي مفتاح الحقوق الانسانية الاخرى ومنها : حق الحياة وحق المساواة وحق الحرية ومن هذه الحقوق تتفرع حقوق شخصية واجتماعية وسياسية متعددة ، وفي حق الحياة يقول الامام علي (ع) لمالك الأشتر: (وإياك والدماء وسفكها بغير حلها فإنه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة ولا أحرى لزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير الحق)، اما حق المساواة فالامام كتم ترجمان للقران ، فقد توالت ايات القران الكريم تدعو الى الاخوة والمساواة: (إنّما المؤمنون اخوة) ، أو ( إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم) ، فلا يوجد فرق لا بالعرق ولا باللون ولا بالجنس ولا بأي خصوصية، إنّما الميزة الوحيدة التي يفضّل بها الناس على بعض هي التقوى، فكان الامام من أشدّ الناس تطبيقاً لمبدا المساواة، أشد الحكام في عدم التفاضل وتمييز الناس بعضهم عن البعض الآخر ، اذا دققنا في فترة حكمه يوجد ثلاثة مجالات تشدد في مبدأ المساواة: ومنها المساواة في العطاء والمساواة أمام القانون والقضاء، اما حق الحرية ففي ثقافة أمير المؤمنين لا يقمع الناس إذا عبروا عن رأيهم لذلك يقول أمير المؤمنين ( آلة الرئاسة سعة الصدر ) وفي ذلك يوصي الإمام “ع” مالك الأشتر أن يستمع لكلام الآخرين، يعطيهم الحرية ويأمره أن يخصص مجلساً خاصاً يفتحه لكل الناس وهو والي على مصر، ومصر مترامية الأطراف ومكتظة في ذلك الحين وليست بقعة جغرافية بسيطة، وكان الامام يرفض احتجاب الحاكم عن رعيته وابتعاده عنهم فيقول عليه السلام للأشتر: ولا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل. وإنما الوالي بشر .

هذا غيض من فيض، كتبناه بحروف خجولة، في شخصية بلغت المراتب، علماً وفصاحةً، أصالة، وحلماً، رحمة، وعفوا، وحسماً في الملمات والمحن، فسلام على التقوى والايمان وباب العلم والحكمة والبيان وبلاغة الكلام وسيد الوغى، سلام عليك ابا الحسن وانت تحمل القرآن، فکراً وروحاً وعملاً ، فکنت قرآناً يمشي علی الارض…سلام عليك وانت تصارع بقايا الألم وهدير صوتك يخترق حجب الزمن قائلاً رفقا بي ملائکة ربي.. فزت ورب الکعبة.. لمثلها فليعمل العاملون… سلام عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت ويوم رُبيت في حجر الرسالة .

مشاركة