الإنسان بين الخير والشّر (1)
لعلّ موضوع الخير والشّر من أكثر المواضيع الّتي تأمّل فيها الإنسان ، كما طرح على نفسه السّؤال عن مصدر الخير والشّر، وكانت الأجوبة تأتي متباينة عادة بحكم تأثرها بالحضارة والثقافة والوعي الفكريّ للمجتمعات المختلفة على مرّ العصور. ولقد تدرّج المفهوم الإنسانيّ للخير والشّرّ انطلاقاً من نموّه الفكريّ والاجتماعيّ والإنسانيّ. فلو تكلّمنا عن الإنسان ما قبل التّاريخ الّذي كان يحاول اكتشاف محيطه، سنرى أنّه كان في حذر وخوف دائمين من الظّواهر الطّبيعيّة الّتي كان يواجهها، كالعواصف والأمطار والشّمس والحيوانات… وذلك لأنّها كانت تشكّل خطراً على حياته. ما دفعه إلى الاقتراب من الطّبيعة بالعبادة. فعبد النّار والشّمس والحيوان ثمّ بعض الظّواهر الطّبيعيّة. حاول أن يبحث عن قوى تفوق قواه لتحميه، فلجأ إلى مبادئ الدّين البدائيّ واخترع آلهته بحسب حالة خوفه.
ومع تقدّمه في مسيرته الإنسانيّة، ونموّه الفكريّ والاجتماعيّ، ومع دخوله مرحلة معيّنة من التّطوّر كان لا بدّ من أن ينشئ قواعد ومبادئ أخلاقيّة ليحمي الضّعيف من القويّ عن طريق فرض العقوبات على المخالف وذلك بهدف المساواة بين النّاس.
هذه القواعد أتت وفق ما يتوافق والمصلحة الفرديّة كما العامّة ، كذلك نشأت انطلاقاً من حاجة المجتمعات للقوانين وستطوّر لاحقاً لما يناسب تطوّر الإنسان والمجتمع. ويعتبر الفعل المخالف للمصلحة الفرديّة والعامّة شرّاً من حيث أنّه أضرّ بالمجتمع أو سبّب بخلل ما فيه. ولمّا كان فعل المخالف يعتبر شرّاً، وجب السّؤال عن مصدر شرّه والدّافع لفعل الشّرّ.
إنّ الحضارات القديمة أوعزت الشّرّ لآلهة الشّر الّتي تتصارع مع آلهة الخير. وتكثر الأساطير الّتي تروي عن كيفيّة حدوث الشّرّ في العالم، كما تكثر الشّروحات في الفلسفات والدّيانات الشّرقيّة القديمة كذلك في الفلسفة اليونانيّة. وكان السّؤال دائماً إذا ما كان هناك من مقياس ثابت لتحديد الخير والشّرّ يناسب الإنسانيّة على مرّ العصور.
أمّا الدّيانات السّماويّة (الديانات المؤمنة بالوحي) الّتي جاءت بعدها، فإنها رفعت مفهوم الخير إلى مرتبة القداسة وجعلته من صفات وأعمال الله الخالق لجميع الأشياء. أمّا وجود الشّرّ في هذا العالم فهو يرجع إلى عمل روح الشّرير أو إبليس (الشّيطان). ولا بدّ من ذكر أنّ نشأة هذه الدّيانات خاصة اليهوديّة، اعتبرت بداية أنّ الله هو من خلق الخير والشّر وهو الّذي يمتحن عبده وذلك لاعتباره السّبب الأوّل لكلّ شيء. إلّا أنّه مع تطوّر الوعي الإيمانيّ نفى الإنسان فعل الشّرّ عن الله وأوعزه إلى الشّيطان.
وإن تعمّقنا في النّفس الإنسانيّة ودرسنا حالاتها النّفسيّة المتغيّرة لوجدنا أن الإنسان في صراع دائم مع ذاته بين فعل الخير وفعل الشّرّ. إنّ دراسة الحالات النّفسيّة تؤكّد أنّ لكلّ سلوك سببا، فالإنسان يخضع لعدّة عوامل بيئيّة واجتماعيّة تساهم في تكوين شخصيّته وتحديد سلوكه. وهذه العوامل تشمل الوراثة والتّربية والمحيط الاجتماعيّ والبيئيّ. وبما أنّ الإنسان مخلوق حرّ، فلا بدّ من أن تتدخّل إرادته في أفعاله. وإن كان يمارس فعل شرّ فذلك لأسباب معيّنة، إلّا أنّه يجب الأخذ بعين الاعتبار الكثير من الظّروف الّتي ساهمت في وصوله لهذه النّتيجة. كما وإن مارس فعل الخير، فذلك يعود أيضاً إلى الظّروف الّتي أحاطت به.
يولد الإنسان حرّاً ولا بدّ أنّه يولد خيّراً، ولا يولد شرّيراً، بدليل طفولته الّتي تخلو من أيّ فعل شرّ ولكنّها تتميّز بالأنانيّة. فالطّفل يعتبر نفسه محور العالم وبالتّالي يريد كل ما هو لخيره ولا يميّز بعد بين المصلحة الفرديّة والمصلحة العامة. كما لا يمكننا التّكلّم عن فعل شرّ عند الطّفل، كالكذب أو السّرقة أو الأذيّة، وذلك لأنّ الطّفل في مراحله الأولى يمرّ بعدّة حالات كالخجل والخوف، ثمّ إثبات الذّات إلخ… كما أنّ سلوك فعل الخير أو الشّرّ يتوقّف على مدى التّوجيه الّذي يتلقّاه من خلال التّربية والمحيط العائلي والاجتماعيّ. فإن نشأ في بيئة سليمة، تجنّب الكثير من السّقطات. أمّا إذا ولد في بيئة غير سليمة فلا بدّ أن ينعكس ذلك على سلوكه. إذن، الإنسان مفطور على الخير والظّروف الّتي ينشأ فيها والّتي تحيط به هي الّتي تدفعه لفعل الشّرّ. وكلّ إنسان يسقط في فخّ الشّرّ والسّبب يعود لأنّه مخلوق حرّ، وحرّيّته تقتضي الاختيار الحرّ. كما أنّه مخلوق غير كامل وبالتالي فهو بحاجة إلى الاختبار للوصول إلى التّمييز بين ما هو خير وما هو شرّ.
ولكن يبقى السّؤال، ما هو الشّرّ وما هو مصدره؟ إن كان الإنسان بطبعه خيّراً، وإن كان سلوكه مرتبطاً بظروف معيّنة، فهذا لا يلغي إرادته. فالإنسان في نموّ وتطوّر مستمرّين، وبالتّالي يكتسب خبرة حياتيّة تساهم في صقله . وإن تجنّب الوقوع في أخطائه مرّة بعد مرّة سيبتعد عن فعل الشّرّ. وإن تصادق مع ذاته ورفع حسناته وحاول التّخلّص قدر المستطاع من سيّئاته، سيصل إلى إنسانيّته الحقيقيّة.
لمعرفة مصدر الشّرّ، علينا أن نفهم ما هو الخير أوّلاً. والخير هو الابتعاد عن كلّ ما يسبّب الأذى للفرد والجماعة، بمعنى أن يسلك الإنسان سلوكاً لا يضرّ لا به ولا بالآخر. ولعلّ الخير الحقيقيّ هو أن يُقدّم الآخر عليه، وذلك لا يعني أن يلغي ذاته وإنّما أن يسعى لخير الآخر ليرتدّ خيره عليه. فالخير الذّاتيّ دون الآخر قد يسقط في فعل ما نسمّيه شرّاً. ونضرب مثالاً على ذلك: عندما يسلب إنسان ما مالاً أو مقتنى، فإنّه يفعل ما هو لخيره ولكنّه يؤذي الآخر. أمّا إذا اعتبر أنّ الآخر قيمة بحدّ ذاته ولا بدّ من احترامها واحترام كلّ ما هو مرتبط بها، بالتّالي لن يقدم على الفعل. أو إذا ما قتل بهدف الانتقام فهو يحقّق ما هو لخيره الذّاتيّ بغض النّظر عن خير الآخر. إذن، فعل الشّرّ مرتبط بالخير الذّاتيّ، ولا يوجد شرّ بحدّ ذاته، وأكاد أقول أنّه لا يوجد شرّ في هذا العالم. وإن عدنا إلى دراسة الحالات النّفسيّة لأشخاص مارسوا شرّاً عظيماً فلسوف نرى بوضوح أسباباً عديدة أدّت إلى هذا السّلوك. فمثلاً الشّخص الّذي يغتصب هو شخص مورس عليه هذا الفعل في مرحلة معيّنة من حياته، وبالتّالي ينفّذ الفعل في آخر. ولو بحثنا في شخصيّة طاغٍ لوجدنا أنّه نشأ في محيط قاسٍ ومؤلم وبالتّالي متى شعر بشيء من الحرّيّة سوف يمارس الفعل ذاته بآخر. ومثال آخر على بائعات الهوى فأغلبهنّ تعرّضن لحالات اغتصاب متكرّرة في طفولتهنّ أو مراهقتهنّ وبالتّالي خوفاً من أن يتعرّضن لذلك ثانية يهبن أنفسهنّ بلا شروط. وكلّ ذلك طبعاً لا يدركه الإنسان بشكل واعٍ كامل، ولكن لا ننسى أنّ الظروف القاسية الّتي يمرّ بها الإنسان تغذّي في داخله الخوف. والخوف هو العائق الأكبر لحرّيّة الإنسان الذّاتيّة، كما ينتج عنه سلوك شرّير بهدف حماية الذّات. ولا أورد ما سبق لتبرير الفعل السيئ بل لمحاولة فهم الأسباب وبالتّالي مساعدة الآخر على تخطّي ما يشوّه إنسانيّته.
امنيه السامرائي- بغداد
/9/2012 Issue 4303 – Date 13 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4303 التاريخ 13»9»2012
AZPPPL