الإنتخابات بين الدكاكين السياسية وتعطيل الدستور – كفاح محمود
منذ أول دورة لمجلس النواب العراقي عام 2005 وحتى اليوم، لم يتحول البرلمان إلى مؤسسة تشريعية ورقابية بالمعنى الديمقراطي، بل أصبح في كثير من الأحيان ساحة لتقاسم السلطة والصفقات التجارية، تُدار بميزانيات ضخمة وعلاقات عشائرية وولاءات خارجية، أكثر مما تُدار بروح الدستور وإرادة الناخبين، رغم مرور ما يقارب عقدين على إقرار الدستور، ما زالت أكثر من خمسين مادة دستورية معطلة بالكامل، وعشرات المواد الأخرى متوقفة، لأنها بحاجة إلى قوانين مكمّلة لم يصدر منها شيء حتى الآن، هذا التعطيل لم يكن عجزًا تقنيًا أو صدفة، بل كان خيارًا متعمّدًا من قبل القوى المهيمنة على البرلمان، التي وجدت في غياب هذه القوانين فرصة لاستمرارها في استخدام تشريعات النظام الشمولي السابق.
وتتضح خطورة الأمر في الملفات السيادية والمعقدة، مثل ملف النفط والغاز، والمناطق المتنازع عليها بين بغداد والإقليم، حيث تستفيد تلك القوى من غياب القوانين الخاصة بالدولة الاتحادية، التي نصّ عليها الدستور، لتُبقي يدها مفتوحة على القوانين المركزية القديمة، فتُدار البلاد بعقلية الدولة الشمولية لا الفيدرالية.
نظام سياسي
إلى جانب التعطيل الدستوري، لم يلتزم البرلمان أيضًا بإنشاء الغرفة الثانية للعمل التشريعي، أي المجلس الاتحادي، الذي يفترض أن يضمن تمثيل الأقاليم والمحافظات على قدم المساواة، ويوازن المركزية المفرطة، إن غياب المجلس الاتحادي عمّق من الخلل البنيوي في النظام السياسي، وترك البرلمان غرفة واحدة أسيرة للكتل الكبيرة وصفقاتها.
لقد أنتجت الدورات البرلمانية المتعاقبة تحالفات تقوم على المال السياسي المحلي والخارجي، وعلى الولاءات العشائرية والفئوية، حتى تحوّل البرلمان إلى ما يشبه «سوقًا للمزايدات» أكثر مما هو مؤسسة للتشريع والرقابة، وكلما اقتربت الانتخابات، تتجدد نفس التحالفات تحت شعارات جديدة لكنها تعيد تدوير نفس الوجوه والسياسات.
النتيجة أن المواطن العراقي يجد نفسه منذ 2005 أمام مشهد متكرر: انتخابات تُدار كصفقات تجارية، برلمان يعطّل القوانين التي تُرسّخ النظام الاتحادي، وطبقة سياسية تستثمر في غياب الإصلاح الدستوري لتبقى مهيمنة، وبديلاً عن خطاب الدولة والحقوق الدستورية، يسود خطاب الدكاكين السياسية، حيث تتحكم القوى النافذة بمصير البلاد كأنها ملكية خاصة، وتبقي الشعب متفرجًا على مسرحية تتكرر كل أربع سنوات بلا تغيير جوهري.
إن تقييم ما أنتجته البرلمانات العراقية منذ 2005 يكشف أن المشكلة ليست في النصوص الدستورية وحدها، بل في غياب الإرادة السياسية لتطبيقها، فالدستور الذي كان يُفترض أن يكون خريطة طريق لبناء دولة اتحادية ديمقراطية، تحول إلى ورقة معلّقة، فيما يواصل البرلمان إنتاج أزمات جديدة بدل حلّ الأزمات المتراكمة.