الإرهاب ومعادلة الأمن والكرامة

الإرهاب ومعادلة الأمن والكرامة

عبد الحسين شعبان

حين يشعر جمع حقوقي، أكاديمي ومهني، ومسؤولون حكوميون وأمنيون محترفون  أن لا سبيل للقضاء على الإرهاب الاّ بستراتيجية وطنية شاملة، فإن ذلك يعني مقاربة ما هو سياسي بما هو أمني وعسكري، وما هو اقتصادي وتنموي بما هو تربوي وقانوني. وذلك من خلال تدابير وقائية تشمل دعم ورعاية الأسرة والاهتمام بتنمية الوعي الوطني من خلال إعادة النظر بالمناهج التربوية والتعليمية وتكييفها بما ينسجم مع مبادئ التسامح وحقوق الإنسان، إضافة إلى معالجة ظواهر الفساد المالي والإداري، والسعي للقضاء على الفقر ووضع حد للبطالة، وإشراك المجتمع المدني، وفئات المجتمع كافة في بناء أرضية صالحة للمصالحة الوطنية من خلال نشر وتعميم قيم التسامح.ولعلّ تدابير الحماية تأتي بعد تدابير الوقاية، الأمر الذي يحتاج إلى جهود حثيثة حكومية ومجتمعية لتجفيف منابع الإرهاب واستهداف مصادر تمويله والعمل على منع تسلل الارهابيين والأسلحة إلى ومن البلد المعني، أي العمل على منع الارهاب العابر للحدود من التفريخ والتكاثر، وذلك عبر التنسيق مع دول الجوار من جهة، وعلى المستوى العالمي من جهة ثانية. وإذا كان العمل الأمني والاستخباري يحتاج جهداً مكثفاً ومعرفياً لمكافحة الإرهاب، فإن معالجة العوامل والأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، تحتاج إلى جهود أكبر بكثير، ولاسيما، للنجاح في تنفيذ الستراتيجية الوطنية لمكافحة الارهاب، من خلال تنسيق وتعاون حكومي وغير حكومي للقضاء على هذه الظاهرة الخطرة، التي هي ظاهرة عالمية وليست محليّة.

وحتى الآن أثبتت الكثير من التجارب الكونية أن الحلول الأمنية والعسكرية لوحدها ستكون غير مجزية إنْ لم يتم معالجة الأسباب الجوهرية لتفشي ظاهرة الإرهاب التي تجد لها أرضية صالحة للانتشار وتفقيس بيضها في ظل أجواء الفقر والجهل والأمية والبطالة والشعور بالاستلاب، مع شيء كبير من التضليل وغسل الأدمغة التي تقوم به آلة إعلامية وآيديولوجية ضخمة ولديها إمكانات هائلة، وفقاً لدعاوى دينية أو مذهبية أو غير ذلك، تلك التي تجعل الانسان البسيط ” إرهابياً”، يندفع لتفجير نفسه أو للقيام بعمل من شأنه ان يلحق الأذى بالآخرين ويؤدي إلى ترويع السكان المدنيين.قد تكون الحلول الأمنية والعسكرية مطلوبة أحياناً، لكنها ينبغي أن تكون خطوط الدفاع الأخيرة للقضاء على الإرهاب، بعد تطويقه فكرياً وسياسياً وفضحه إعلامياً وكشف دوافعه مسوغاته باعتباره جريمة ضد المجتمع والإنسانية، ومعالجة أسبابه الاجتماعية والاقتصادية، ووضع خطط تنموية طويلة الأمد لإعادة تربية المجتمع على قيم التسامح والحرية واحترام الرأي والرأي الآخر، وإقرار مبادئ التعددية والتنوّع والشراكة وتأكيد الوحدة الوطنية واللحمة المجتمعية.إن الحرب على الإرهاب هي ليست حرباً ضد دبابة أو مفخخة أو جهاز تفجير أو مواجهة انتحاري، بل هي حرب تتعلق بالأفكار والعقول بالدرجة الأساسية، وكان دستور اليونسكو على حق حين أكد أن السلام يصنع في العقول، مثلما تولد الحرب في العقول أيضاً، ولهذا فإن إقرار السلام والقضاء على الإرهاب، إنما هو بالأساس كسب العقول لصالح مبادئ التسامح والسلام والمواطنة والمساواة والحرية والعدل والشراكة.

وسيظلّ الإرهاب مقيماً في مجتمعاتنا إنْ لم يتم اقتلاع جذوره الفكرية وتهيئة مستلزمات تغيير المجتمع باتجاه العدل الاجتماعي، وهو الأساس الذي لا غنى عنه، ولاسيما بتوفير فرص متكافئة اقتصادياً وسياسياًُ واجتماعياً للمواطنين المتساويين المتطلعين إلى تحقيق مبادئ العدالة بكل مقتضياتها ومتطلباتها، سواءً على المستويات القانونية ام السياسية ام الاقتصادية ام الاجتماعية، وذلك من خلال بيئة ثقافية وتربوية وقانونية سليمة أساسها التعايش والحوار وقبول حق الاختلاف قومياً ودينياً واجتماعياً وسياسياً وفكرياً، باعتبار الإنسان مساوياً لأخيه الإنسان وله الحقوق والواجبات ذاتها، وهو الذي كرّمه الله من دون تمييز الاّ بالتقوى، وكان الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس هو الذي قال: الإنسان مقياس كل شيء.

لعلّ مناسبة الحديث هذا هو مؤتمر دولي مهم انعقد في بغداد التي ضربتها خلال الأشهر الثلاثة الماضية موجة عاتية من الإرهاب والعنف، أدت إلى وقوع آلاف الضحايا،  ناقش ظاهرة الإرهاب وشاركت فيه شخصيات دولية مهمة مثل البارونة إيما نيكلسون عضو مجلس اللوردات البريطاني والسيد جون باتشي مسؤول حقوق الإنسان في بعثة المساعدة الخاصة بالأمم المتحدة في العراق سابقاً والاستاذ في مركز التدريب الدبلوماسي في جامعة نيو ساوث ويلز في سيدني (استراليا) الان وجورجي بوستزن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة وشخصيات فكرية وحقوقية، وقامت بتنظيمه وزارة حقوق الإنسان في العراق، وكان المؤتمر برعاية رئيس الوزراء، وحضره اسهم فيه خبراء أمنيون ومسؤولون حكوميون ونوّاب  وأساتذة جامعة متخصصون في علم السياسة والقانون والاجتماع والتربية والقضايا الستراتيجية وبعض شخصيات المجتمع المدني.

ودار حوار جدي ومسؤول بشان تحليل واقع الإرهاب والإرهاب الدولي وسبل مكافحته وأثره على حقوق الإنسان، من خلال مخرجات ودراسات ومشاركات عراقية وعربية ودولية، لاقتراح حلول ومعالجات لدعم ستراتيجية مكافحة الإرهاب المعتمدة وتفعيل جوانبها الحيوية والتركيز على الجوانب السياسية والفكرية والقانونية، ولا سيّما على مبادئ المصالحة والتسامح والعدالة الانتقالية، وبقدر ما جرت مناقشات لمفردات الستراتيجية الوطنية، فإن التعاون الدولي الإقليمي والعالمي في مكافحة الارهاب قد أخذ مكانه في البحث والحوار، سواء القوانين الدولية لمكافحة الإرهاب ام الجوانب الوقائية والاجتماعية، إضافة إلى الجوانب الاستخبارية وصولاً لتحقيق الجوانب العلاجية والإنسانية، مع كل ما له علاقة بمنتجات الارهاب وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية على الإنسان.

والارهاب بقدر ما هو ظاهرة محلية استفحلت في العراق بعد الاحتلال العام 2003 حين فُتح الباب على مصراعيه لدخول المنظمات الارهابية، ولا سيّما تنظيم القاعدة والجماعات التكفيرية، فإن هذه الظاهرة تجتاح العالم منذ عقود من السنين، لدرجة أن العالم أجمع أصبح مسرحاً لها، وكانت حوادث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة بضرب برجي التجارة العالمية في نيويورك والبنتاغون في واشنطن والاستخبارات في بنسلفانيا، مؤشراً على انتقال الارهاب إلى مرحلة جديدة من المواجهة.

وشهدت أوربا تفجير أنفاق في إسبانيا وبريطانيا وأعمال ارهاب متعددة في فرنسا، وغيرها بحيث أضحى الارهاب ينتقل بحركية، وسرعة لا متناهية، ولاسيما في ظل منجزات الثورة العلمية- التقنية والتطور الكبير في الاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية “الديجيتل”. وهو اليوم يتحرك بانسيابية عجيبة من الباكستان إلى أفغانستان مروراً بإيران وتركيا ليشمل العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين بالطبع ولا سيّما الإرهاب “الإسرائيلي” واليمن ودول الخليج العربي والمغرب وتونس وليبيا ومصر، إضافة إلى موريتانيا والصومال ومالي وغيرها. ولا بدّ من الإشارة إلى إرهاب الدولة، فضلاً عن إرهاب الجماعات والأفراد، وسواء تعلق الأمر بالخطف أو الإختفاء القسري ام أخذ الرهائن ام القتل ام التفجير ام غير ذلك، فإن الإرهاب مهما تنوّعت فنونه وتعددت أساليبه يظلّ واحداً لا يمكن تبريره أو تسويغه، لأنه دائماً يستهدف السكان المدنيين الأبرياء العزّل وينتهك حرمة حقوق الإنسان.

ولا بدّ من التأكيد أن الإرهاب لا دين له ولا قومية أو لغة أو شعب أو منطقة جغرافية، وإن أية محاولات لإلصاقه بشعب أو مجموعة بشرية أو دين أو قومية، فإنما تُلحق ضرراً بستراتيجيات مكافحة الارهاب، بل توفّر غطاء أحياناً لدعم قوى التطرف والتعصّب والغلو من جميع الجهات، لأن الارهاب في جوهره يمثل خطراً على الإنسانية، بتهديده حياة الإنسان وترويع عيشه وأمنه واستقراره وحقه في الحياة والإبداع والتنمية والحقوق الديمقراطية.

لعلّ طرح الأمم المتحدة لستراتيجيتها العام 2006 (قرارها رقم 60/288) لمكافحة الإرهاب إنما يعبّر عن قلق المجتمع الدولي ومساعيه لوضع حد لهذه الظاهرة المشينة التي لا تنتمي إلى قيم الحضارة الإنسانية، وذلك من خلال تدابير مشتركة لمعالجة ظروف انتشار الارهاب، إضافة إلى التدابير الواجب اتخاذها، ثم التدابير الرامية إلى بناء قدرات الدول وأخيراً التدابير الهادفة إلى ضمان احترام حقوق الإنسان للجميع وسيادة القانون بوصفه الركيزة الأساسية لمكافحة الارهاب.

ولا ينبغي أن تكون ذرائع مكافحة الارهاب وسيلة لتقليص الحريات والحدّ من حرّية التعبير، فالأمن ينبغي أن يكون مع الكرامة، والأمن مع الحرية، ولا أمن حقيقي من دون الكرامة والحرية.

{ باحث ومفكر عربي