عند أبواب الفردوس للروائي ناطق خلوصي
الأنثى لا تعاني الإغتراب
حمد علي حسين
المقدمة
يذكر الروائي الروسي الكبير ” تورجينيف ” عن دور الأديب في تصوير الحقيقة ” أن منتهى السعادة بالنسبة للأديب ان يصور الحقيقة بالضبط و في قوة ، حقيقة الحياة ، حتى لو كانت هذه الحقيقة لا تتطابق مع ميوله الشخصية .”(الرواية الروسية في القرن التاسع عشر .د.مكارم الغمري. عالم المعرفة.العدد 40 \ نيسان 1981 ، ص 117)
تعد رواية ” أبواب الفردوس ” التي صدرت حديثا ( أواخر 2013 ) للروائي العراقي الكبير ناطق خلوصي ، محاولة جريئة كل الجرأة لفضح سلوكيات أنماط بشرية معينة و تعريتها ، تلك السلوكيات التي تقترب كثيرا، بإنزلاقاتها، من التعهر و التهتك و الأنحلال الأخلاقي ، مما يحملنا على الأعتقاد بأن الروائي يحاول ، أيضا ، تعريتها بعد أن أتسعت دائراتها في المجتمع أفقيا ، فسلط الضوء على الجوانب المختلفة من حياتها، كما أنه لم يغفل ، ايضا ،ان يسلط ، عبر موازنة فنية و أخلاقية ، الضوء على النموذج النقيض المتواجد في الوقت نفسه ،في عالم الرواية و المتمثل بشخصية المعلم والسياسي ( منير الحسيبي) نذير الحسيبي و بمحموعة الأشخاص الذين من حوله . لقد أفلح الروائي في تقديم فراديس تلك الشخصيات ، عبر جملة مواقف تعكس مفاهيمها للفردوس .
العنوان
الفردوس في اللغة : البستان و الجنة ( الروضة ) و خضرة الأعشاب. ( المنجد ) و هناك نوعان من الفردوس : الفردوس الإلهي الذي بشرت به الأديان السماوية و الفردوس الأرضي الذي يحاول الأنسان إقامته على الأرض.
في هذه الرواية، أننا إزاء مجموعة من الفراديس المتنوعة ، فلكل شخصية نوع يتماهى و طبيعتها و أهتمامتها و يشكل عالمها الخاص بها و تتفتح أبوابه أمامها لتلج منها و لتعيش في رحاباته ، أي أنه فرودس بمواصفات خاصة قد لا تتماهى و مفهوم الآخرين للفردوس .
يؤكد الروائي أن لكل امرئ فردوسه ، هناك الذي يجد فردوسه في الفكر و تكون أبوابه الثقافة و الكتاب و القراءة و السياسة أو الذي تكون الثروة ( المال ) فردوسه و أبوابه التجارة و مشاريعها أو الذي يكون التدين فردوسه و أبوابه التمسح بأهداب الدين و بمظهرية طقوسه ، وهذا غيرالمتدين الحقيقي ،و هناك الذي يكون الجنس فردوسه و تكون أبوابه الخاصة العلاقات الأجتماعية الشرعية و غير الشرعية, من الجدير بالملاحظة ، أن الجنس يشكل الموضوعة الرئيسة في هذه الرواية، أنه النشاط المهيمن على سلوكيات غالبية الشخصيات و بأشكال مختلفة، . أننا ، كقراء ، نجد في هذه الرواية مفهوما مغايرا لمعنى الفردوس الذي يكون في أذهاننا، فيثير فينا الدهشة و الأستغراب ، فأولا ، ليست أبوابه مشرعة أمام كل الناس ، أنها تتفتح أمام الشخصية نفسها و حسب مفهومها الذي يعبر عن الحرمان الذي يسكنها و تعاني منه ، المتمثل بعدم القدرة على إشباع الرغبات ، مما يؤدي إلى فجوة عميقة وكبيرة في النفس .أن للحرمان انواعا مختلفة ألوانها ،الحرمان العاطفي و الحرمان الجنسي الذي هو أقساها و أشدها إيلاما على الفرد و أشدها خطورة على المنظومة القيمية للمجتمع ، لأنه يشكل القوة الدافعة لتصرفات الشخصيات الذكورية و الأنثوية .و يصفه الروائي على لسان ( منير ) بأنه ( الشهوة التافهة التي هي أساس بلاء البشرية ، محض رغبة محمومة لا تتجاوز الدقائق ، قادرة على أن تهلك نفوسا و تهدم بيوتا و تشرد أطفالا و تسيل دماء ، حين تتمرد على العقل .) ( ص 301 )
الشخصيات
أن الروائي كدأبه في أعماله الروائية الأخرى، ينتقي شخصياته من الحياة الحقيقية ، الحياة العامة ، التي تحفل بصور شتى تجعل القارئ على تماس مياشر بها، أنه محيط بنفسية شخصياته ونوازعها ، إحاطة كاملة و مستفيظة ، فيسعى إلى إزاحة الستور عنها ، تلك التي تحجب حقيقتها عن الآخرين ، كما أنه يسعى إلى التاكيد على أنها غارقة في وحل الرذيلة ، غير أنه في الوقت ذاته ،لا يعزو تماما كل تصرفاتها إلى الأخلاق العامة التي أستجدت إبان فترة الحرب ، فنجده يحاول انتقاد هذه الشخصيات ، ليس فكرا و رمزا بل كأفراد يحاولون التنصل من أخلاقيات المجتمع الذي نشأوا و ترعرعوا فيه، أنها شخصيات ذات أطماع و رغبات تحملها على أن تحيا حياة مرذولة ، حياة تتناقض مع الحياة العامة التي ينبغي أن تقوم على نواميس الفضيلة و السواء العام . بعد تعرية هذه الأنماط و إدانة تصرفاتها لئلا يتحول خرابها المحدد الآن إلى خراب جماعي ، يسعى الروائي لأن يجعلها في النهاية تعود إلى حياتها الأولى بعد هجر فراديسها في محاولة ترميم واضحة .
أفلح الروائي ، بما يتمتع به من قدرة عالية و تجربة غنية في كتابة الرواية، أن يصوغ شخصياته صياغة دقيقة مما يجعلها بحق شخصيات واقعية و قريبة جدا من القارئ، انها نماذج بشرية غير غرائبية ، أنها رصينة البناء فنيا و ذات حضور مؤثر على المستوى الفني و الأنساني بتلقائيتها على الرغم من أنها قد تبدو، غالبا، متصدعية داخليا و منزلقة إلى مدارك الهاوية .
تعاني الشخصيات الأنثوية من فقر ثقافي على الرغم من التحصيل العلمي عند بعضهن ، المدرسة و الموظفة ، أنهن لا يبدين نشاطا فكريا ، أنهن غارقات تماما في نرجسية ذاتية مسكونة بالكبت الجنسي فيلجأن ليمارسنه بالخفاء ( خارج إطار الزواج) ، لذا نجد أنهن شخصيات مستغرقات في ذوات متهدمة ، يقفن على ارض رخوة بما يوحي بأمكانية قيامهن بعلاقات جنسية حرة اذا ما توفرت لهن الفرص. أنها شخصيات انتقالية ، ينتقلن من حالة الأنغماس في الملذات في فراديسهن الخاصة الكاذبة الى حالة التكفير و الأستغفار خارج تلك الفراديس . انهن لسن بشخصيات نكرة شوهاء بل أنهن ذوات حضوة أجتماعية و لكن سقطت عنهن قشورهن الخارجية كما تسقط الأوراق الجافة عن الأشجار و كما تعطل عندهن المكتسب الثقافي و الأجتماعي بسبب المحرمات و الكوابت والحرمان الذي يسكنهن و الذي يشكل القمع الذاتي و لا نجد عندهن أثرا لهاجس جدي فكريا أو معيشيا ،كما أننا لا نجد صراعهن ، كأناث ، مع القهر الأجتماعي إلا في مواقف قليلة و ضعيفة ،مثل محاولة نسرين لرفض تزويجها من أبن خالها شهاب و ثم موافقتها في النهاية . في نهاية الرواية تعود هذه الشخصيات إلى عالمها الجديد عودة التائب المستغفر لأنهن ولدن من الرحم الأجتماعي على الرغم من المعاناة الشديدة القسوة.
يشكل أفراد عائلة ( نذير الحسيبي ) الهيكل الأساس لشخصيات الرواية ، تتسم علاقات هذه العائلة مع بعضها بعلاقات غير مستقرة و يتميز أفرادها بمواصفات خاصة فهي فريسة هوس جنسي يتجاوز حدود الشرعنة .
نذير الحسيبي تاجر واسع الثراء ، مولع جدا بجمع المال و الثروة و مهوس بالرغبة في الأثراء حتى لو أن هذا الأثراء يأتي عن طريق غير مشروع .( ص 42 ) و يصفه ولده غزوان بأنه رجل بروح فارغة من العاطفة . ( ص37 ) . ، متزوج من زوجته الأولى ، فطم ، و هي أم ولده الوحيد ، غزوان ، و وحيدته ، نسرين و له ابنتان من زوجته الثانية ( ريم الشهلاوي ) و مديرة أعماله التجارية و ساعده الأيمن في الكويت ،و هي فلسطينية ولدت في مخيمات اللاجئين في لبنان ، أُعدم والدها لتعاونه مع العدو . كانت قد تزوجت من رجل يكبرها بأربعين عاما ثم توفي عنها وعندما عملت في شركات حمود الهواس ، صديق نذير ، تعرفت إلى نذير ثم أقترنت به . ومن ثنايا السرد ، نكتشف ان نذير لا يتورع عن إقامة علاقة جنسية مع خادمته الأسيوية عند غياب زوجته ،ريم . كما أنه كان كثير الأهمال لزوجته الأولى ،فطم ، و كثير التغيب عنها مما يجعلها تعيش حرمانا عاطفــيا و جنسيا .
أما (فطم ) زوجة نذير الأولى ، فهي أمرأة تجاوزت الأربعين و قد تعطلت عندها القدرة على الأنجاب بعد تعسر ولادة لأبنتها “نسرين” مما جعل زوجها يهملها و يكثر من التغيب عنها لسفره الدائم و الطويل . فبدأت تعاني من ركام الحزن و الشعور بالحرمان و الرغبة بالأرتواء ، كما أنها بدأت تدرك أن لجسدها الحق في التمرد عليه .(ص 103 ) وأنه قد أهملها و داس على مشاعرها و عاطفتها كزوجة ، فمنذ سنوات يتجاهل كونها بشرا من لحم و دم . (ص 195 ) فتقيم علاقة جنسية مع هشام ، أبن أخ زوجها و هو شاب بعمر ولدها ( غزوان ) كانت تحبه حبا شهوانيا وأن كانت بعمر أمه ، منذ كان صبيا في الخامسة و السادسة (صص197،195 ) لقد وجدت في هشام المؤهل الذي يسكت فحيح الرغبة التي تستبد بها . (ص 172 ) و من سياق الحديث مع أخيها الحاج” رمضان” نتبين أنه كانت بينهما علاقة آثمة ،وهي لما تزال صغيرة و هو يكبرها بعشر سنوات وعندما تذكره بها يبرر ذلك الذنب قائلا ( ما الذي ذكرك بها الآن ؟ كنا صغارا ناقصي عقل آنذاك ، لا يحاسب الله عن مثل تلك الآثام ، كنا مراهقين .) ( ص 224 ) كما أنها كانت تحتضن ابنتها نسرين حين تنام معها في فراش واحد و كانت تضغط على جسدها و كأنها تهصرها هصرا .( ص 51 ) مما جعل نسرين ترفض النوم معها . أنها تجد في تغيب زوجها ما يبرر تصرفاتها إنتقاما منه (ص 79 ) متنكرة لأي حق له عليها، لقد أظهرت استعدادا لممارسة علاقة من هذا النوع مع هشام الذي سبق لها و ان تمسك بيده و تسحبه إلى المطبخ أو الحمام أو أحدى الغرف بعيدا عن الأنظار و توقفه بين فخذيها وتضغط بهماعلى جسده و تقبل فمه طويلا . (ص 197 ) لقد وجدت في زواج زوجها من أمرأة ثانية و في تغيبه الطويل عنها ، ما يبرر تماما هذه العلاقة فتعدها انتقامها منه على طريقتها الخاصة .( ص 258)
أما “ريم الشهلاوي ” الزوجة الثانية لنذير والتي تعرّف إليها في شركة صديقه ” حمود الهواس ” ثم أقترن بها و أصحبت مديرة أعماله التجارية في الكويت و ساعده الأيمن و لها منه الآن أبنتان صغيرتان. كانت فلسطينية سبق و أن أُعدم ابوها لتعاونه مع العدو الأسرائيلي ،و يـُعد نذير زوجها الثاني بعد زوجها الأول الذي يكبرها بأربعين عاما و توفى عنها .كان لريم هذه فردوسها الخاص الذي كان بابه الأول المال و الثروة الذي أنفتح لها بعد زواجها من نذير ثم انفتح بابه الثاني ( الجنس ) امام وسامة غزوان ، أبن زوجها الذي تهدده بتهمة التحرش بها إذا ما رفض إقامة العلاقة الجنسية معها. كما اننا نجد ثمة إشارة إلى حملها بشهرين بعد تلك الممارسة، مما يحملنا على الأعتقاد أنها حاملة نتيحة تلك العلاقة مع غزوان .
أما غزوان ، الولد الوحيد لنذير الحسيبي من زوجته الأولى ، فطم ، فشاب وسيم جدا و في مقتبل العمر و طالب في المرحلة الأعدادية ، أنه لا يتورع عن إقامة علاقة جنسية مع أية أمرأة باستثناء أمه وأخته المراهقة ” نسرين ” البالغة الثالثة عشرة عاما و التي تظهر ميلا شديدا نحوه . لقد أستغل غزوان وسامته و شبابه لأقامة تلك العلاقة مع مدرسة الكيمياء ” نهال ” التي شغفت به و هي مطلقة بعد زواج لم يدم اكثر من سنة لعدم قدرتها على الأنجاب . لقد دعته بصورة غير مباشرة لزيارة جسدها. ( ص 80) و كذلك علاقته الجنسية مع أم رهيف ، الموظفة في كلية الهندسة و هي أرملة شهيد حرب و أم لطفلين .أدخلته غرفة نومها وهي ترتدي قميصا داخليا يشف عن تحته سروال ابيض ، ليضع في جيدها العقد هديته لها ،و خاطبته قائلة : ( أنه هو شخصه أروع هدية بالنسبة لها. ، فشعر بها تقترب بجسدها من جسده فوجد بابا جديدا من أبواب الفردوس ينفتح أمامه .(ص 177 ) ثم علاقته الجنسية مع زوجة أبيه ” ريم الشهلاوي ” أثناء إقامته معها في الكويت ( ص 306 ) لقد برر إستسلامه لرغبة ريم خشية أن تنفذ تهديدها غير المباشربأن تخبر أباه بأنه قد تحرش بها ، فخاف أن تحطم مستقبله ، و آثر مهادنتها بعد ما أدرك أنه بين (الأشتهاء و الخوف و الحقد و الرغية والأنتقام ) . حاول إقناع نفسه بالقاء مسؤولية فعلته و احساسه بالندم في داخله على أبيه . (ص 306 ) يصبح ذلك الأحساس ، يما بعد ، وشما في روحه لا يمحى طوال حياته .(ص 333) كما أنه لم يتورع عن مداعبة أبنة عمه و خطيبته فيما بعد ، مداعبة جسدية مثيرة ، ثم إقامته نوعا من العلاقة الجسدية معها بعد أن تعريا في بيت البستان ( ادارت رأسها نحوه و رأته يومئ برأسه إيماة أستوعبتها على عجل ، فأومأت له برأسها بالموافقة فشعر تلك اللحظة أن بابا مغايرا من أبواب الفردوس ينفتح أمامه . (ص 182 ) بيد اننا نجد أن لغزوان ثمة وازع أخلاقي يتردد صداه في دخيلته مما يشكل نوعا من مصد أخلاقي فقط عندما يتعلق الأمر بأخته ، المراهقة ” نسرين ، فنراه يبذل كل ما بوسعه ليجنبها ” الأنزلاق في هوة لا يمكن أنتزاع أسم العائلة و العشيرة بسهولة و دون أن تترك لطخة عار يصعب محوها . (ص 43 ) كما أنه ليس على أستعداد لآن يدعها تتورط فيتورط هو و ابناء عمومته في نزاعات غير محسوبة النتائج مع الآخرين في مجتمع المدينة الصغير . (ص 25 )
أما نسرين ، ابنة نذير الوحيدة من زوجته الأولى ، فهي في الثالثة عشرة من عمرها ، مهرة براري بذاتها الأنثوية الجامحة الغارقة في نرجسية ذاتية شديدة و المسكونة بهوس كبت جنسي مبكر و هي على اعتاب مراهقة مبكرة تجعلها تتمرد على جسدها الطفولي ، طالبة فاشلة متهورة نوعا ما ، في مطلع تفتح زهرة شبابها ، ربيعها الثالث عشر ، طرية العود تدفعها وسامتها و فورة جسدها و جنوحها نحو التمرد و يجعلها موضع ملاحقة الأبصار و الشهوات معا (ص 25) و كانت كثيرة التحرش ،الذي يبدو برئيا ، بأخيها غزوان الذي يشاركها النوم في غرفة واحدة ، و كثيرا ما كانت تنقل لغزوان حديث الطالبات عن تلصصهن على آبائهن و أمهاتهن ليلا في أسرة النوم و حديثهن عما يرينه بالتفصيل .(ص 27 ) لقد كان تأثير طالبات المدرسة كبيرا عليها بأندفاعا تهن و طيشهن و تبادلهن الصور الخلاعية و حديثهن عن العلاقة الجنسية بين آبائهن و أمهاتهن في غرف النوم . (ص 126 ) نجد ان اندفاعها نحو أخيها حالة تعويضية لغياب صورة الأب (ص118) علاوة على أنه صورة لفارس الأحلام لوسامته و ملاحته. كانت أكثر تصرفانها تعبيرا عن طيش مراهقة و صبيانية ، بيد ان زواجها المبكر من شهاب أبن خالها الشاب البسيط و الساذج كان صدمة كبيرة لها و خيبة و رفضت أية مراسيم للعرس ، لا ليلة حنة و لا زفة كم انها امتنعت عنه لليلة ولليلة أخرى ، ثم استسلمت للأمر في الليلة الثالثة على مضض و قد وجدته لا يعرف الطريق إلى خفايا جسدها فتكفلت هي أرشاده إلى ذلك . (ص 259 ). تعد شخصية ” سندس ” أبنة الحاج ” رمضان ” المعادل الموضوعي لشخصية ” رؤى ” خطيبة غزوان و أبنة عمه و كذلك لشخصية ” نسرين ” أنها صورة باهتة للمرأة الأمية التي لا تقرأ و لا تكتب بسبب رفض أبيها ( المتدين ) تعليم المرأة .
من رجال عائلة ” نذير الحسيبي “الآخرين ، صهره الحاج ” رمضان ” ، أخ زوجته الأولى ” فطم ” الذي يشكل التدين فردوسه و أبوابه التظاهر بالورع و التقوى و التمسح بأهداب الدين ، أنه منافق متواطأ مع كل رذيلة إلى الحد الذي لا يتورع فيه أن يكتب تقريرا للأمن عن أبن أختيه ، غزوان ، يتهمه فيه بالتخلف عن الخدمة العسكرية والحرب مشتعلة في البلد .(ص 213 و ص 217 ) و المعروف عنه أنه لم يذهب إلى الحج فعلا لأنه ترك قافلة الحجيج الذاهبة إلى مكة و نزل في دمشق و أمضى الوقت مستكعا في أزقتها و شوارعها. ( ص 223 ) وفي صباه ، كانت له علاقة غير سوية مع أخته “فطم ” التي كانت تصغره بعشر سنوات ، و عندما تذكره بتلك الذنوب التي أرتبكها بحقها في طفولتها يرد قائلا ( كنا صغارا ناقصي عقل ، لايحاسب الله عن مثل تلك الآثام. كنا مراهقين .) ( ص 224 ) كثيرا ما نراه مبديا كرهه لشخص ” منير” أخ ” نذير” و يعده كافرا بسبب أنتمائه السياسي وكان يخاصمه العداء لأختيار “غزوان ” لأبنته ” رؤى” زوجة له مفضلا إياها على أبنته ” سندس”.أما ولده ” حمدالله” فقد سبق و إن سـُجن لأغتصابه صبيا يتيم الأبوين (ص 67 ) كما أنه حاول التحرش لأكثر من مرة بنسرين ، أبنة عمته و زوجة أخيه ، شهاب .(ص281 )
أما الشخصية الذكورية التي ينتصر لها الروائي و لقيمها ، فهي شخصية المعلم “منير الحسيبي ” الذي يجعل منه الطرف الآخر للموازنة الأخلاقية و الفكرية و الفنية في الرواية لشخصية الحاج ” رمضان ” و حتى لشخصية أخيه ” نذير “. أنه المعلم و السياسي و المثقف الواعي الذي يبدي أهتماما كبيرا في الأمور التي تخص الناس و الوطن ، له عقلية منفتحة فيتفهم الحياة بشكل رائع . و يشكل الفكر فردوسه الخاص و أبوابه القراءة و التأمل (53 ) لذا لا يشكل الجنس فردوسه لأنه الرغبة التي ، بالنسبة له ،هي أساس بلاء البشرية القادر على هلاك النفوس و تدمير البيوت و تشريد الأطفال و إسالة الدماء .(301 ) وتمثل هذه الشخصية البطل الأيجابي في الرواية لتماسكها الداخلي ، فكريا و مبدئيا و أخلاقيا وبإمتلاكها تفاؤلا كبيرا متمثلا بمواقفها الأيديولوجية و الوطنية و تفاعلها بوعي مع الأحداث و المواقف و الشخصيات بما يمنحها حضورا مؤثرا و جيدا في الرواية .كنت أتمنى لو أن الروائي قد أفسح المجال لهذه الشخصية لتشغل مساحة أوسع كثيرا ليكون فردوسها المعادل الموضوعي لكل الفراديس التي انكشف زيفها و تغلقت أبوابها عند نهاية الرواية . أن شخصية منير تمثل الصراط المستقيم والفكري السليم لما تحمله من وعي و فكر و ثقافة وأنتماء سياسي .
تشكل شخصية ” شهاب ” أبن الحاج ” رمضان ” و زوج ” نسرين ” فيما بعد ، الطرف الآخر للموازنة الأخلاقية في الرواية التي طرفها الأول أخوه ” حمدالله ” المعروف بالرذيلة التي أدخل السجن بسببها مما جعلته أن يظل حبيس البيت بعد خروجه من السجن ، فشهاب ، هذا شباب بسيط إلى حد السذاجة و يصفه عمه “نذير ” أنه ( أثول ) .( ص317 ).
ليست غالبية شخصياته الرواية وافدة من القاع االأجتماعي ، من المحرومين و المهمشين الذين يعيشون بجوار المعاناة المختلفة ألوانها ،و التي عليها أن تجد ّ في تحسين أوضاعها أقتصاديا و اجتماعيا .لقد نجح الروائي في عرضه هذه الأنماط البشرية بعد انتقائها من شرائح اجتماعية ذات وضع اقتصادي و اجتماعي جيدين ، ثم الكشف عن دواخلها عبر عمليات مراقبة دقيقة.
على الرغم من تعدد الشخصيات النسوية في الرواية، يكاد يكون صوت المرأة خافتا في عديد من المواقف التي تتجاوز قدرها ، فليس بمقدورها أن تصوغها حياتها بيدها ، أنها خاضعة تماما للمواصفات الأجتماعية التي يصوغها السواء العام و تنبع قيمها من ذاتها المضطهدة لذا ليس بوسعها كسر التقاليد و الخروج على المحرمات و أطر المؤسسة الأجتماعية التي أقامها السواء العام وفق انسياقاته و نواميسه و التي تشكل تراكما من الموروث لفترات زمنية مختلفة و طويلة و من هذا المنظور هي تحت تأثير القدر الأجتماعي الذي ليس بوسعها رفضه ، فتلجأ إلى أقامة علاقات سرية مهينة و هذا بدوره أيضا يؤدي إلى صراع الشخصية الخفي مع المعطيات الأجتماعية نتيجة للحرمان الجنسي أولا و العاطفي ثانبا و تأثيره على سلوكها ، غير أن محاولات التمرد تبؤ بالفشل و تؤدي في نهاية الرواية إلى عودتها إلى منطق السواء العام و نواميسه و إشتراطاته التي تمثلت لنا ، بمحاولة الروائي لترميم الخراب الذي طال منظومتها القيمية و بالركون إلى ذلك المنطق الذي يشكل الفردوس الحقيقي لها .
من الجدير بالملاحظة أن هذه الشخصيات لا تعاني من إشكالية كبيرة لعدم وجود تناقضات داخلية في تركييبها النفسي و الأخلاقي ، ليس هناك أهتزازات روحية تجعلها تعيش صراعا أو توترا في إحساسها إلا في نهاية الرواية ،حين تشعر بنوع من النفور الشديد إتجاه علاقاتها الجنسية .لقد أظهرت الرواية أن البيئة ليست وحدها مصدر الأنحراف في السلوك بل هناك العامل الذاتي الكامن في ثنايا دخيلة النفس ، أزدواجية الخير و الشر .
المرأة :
تختلف صورة المرأة عند خلوصي بأختلاف دورها في أعماله الروائية، ففي ” أبوا ب الفردوس”، موضوع البحث،أننا إزاء صور مختلفة تماما عن صورها في روايات ” منزل السرور ” ” الخروج من الجحيم ” و ” شرفات الذاكرة ” حيث كانت نموذجا رائعا للمرأة المكافحة كأم رؤوم و زوجة وفية و حبيبة عزيزة، لقد كانت ذاتا بقيم أخلاقية و إنسانية عاليتين و إن ْشكلت نواميس المجتمع و إنسياقته أوزانا ثقيلة علقت في اقدامها و شدتها إلى الأرض، و جعلتها تعاني أستلابا لذاتها الذي جعلها تقف عاجزة تماما ، و يـُعد رفضها لكل ذلك ، ضربا من العبث با لمنضومة القيمية للمجتمع و خروجا على تقاليده.
تشكل صورة المرأة في ” أبواب الفردوس ” تنويعة آخرى عن موضوعة المرأة، أننا إزاء غواية جنسية أقوى كثيرا من القيم الشرقية للجنس الموروثة ، حيث تستمد المرأة ، كذات أنثوية ، كينونتها من تواجدها ضمن دائرة العائلة كأم و زوجة و اخت.
في “أبواب الفردوس ” لا تعاني الشخصية الأنثوية من الأغتراب الذاتي ، كذات مسلـوبة الإرادة ، فهي مشاركة في الحياة العامة خارج البيت، بدخولها ميادين العمل و الوظيفة و التجارة و هذا لا يلغي أنثوتها ، أنها منسجمة إلى حد كبير ، مع نفسها على الرغم من معاناتها بسبب المحرمات و الكوابت حين أرتضت أن تعيش حياة بسيطة و عادية و بما يحقق لها حضورا ضمن دائرة القبول الأجتماعي، السواء العام ، متنازلة عن تطلعاتها مكتفية بما يحققه الرجل الذي في حياتها،أبا او زوجا أو انا .
على الرغم من الأنكسار الأنثوي في هذه الرواية الذي يتمثل بالحرمان الجنسي ، نجد ثمة إنحياز لدى الروائي للذات الأنثوية أنطلاقا من الرؤية الفرويدية : بان الدافع الجنسي هو الباعث الأساس لكل تصرفاتها ،بيد أن هذا الأنكسار لا يعني ضمور حضورها الأنثوي، فهي مشاركة في الحياة العامة، موظفة و مدرسة و طالبة و مديرة مكتب تجاري كما هي ربة بيت .
أن الذي يميز المرأة هنا ، أنها ضحية قهر نفسي و جسدي أكثر من كونها ضحية قهر إجتماعي و أقتصادي، أي أن حجم هذه المعاناة بقدر حجم الجسد الأنثوي المسكون بجذوة الحرمان الجنسي القوية التي تدفع به إلى التعهر السري.أن ذلك الحرمان عنوان كبير لكل الأستلابات في حياتها كأنثى و هذا ما يجعلها بطبيعة مزدوجة لتداخل ما هو خاص : معاناتها كذات انثوية بسبب القهر الأجتماعي و عجزهها في تحقيق حياتها الخاصة نتيجة المحرمات و الكوابت التي تلازمها طوال حياتها والتي تجعل عالمها مستكينا ” غيرمقاوم ” وان يكون سقف سطح طموحاتها منخفضيا ، بأن تحيا حياة بسيطة تمتاز ( بتواضع في الأمنيات و أقتصاد في الرغبات) و مع ما هو عام : قيم الأسرة القسرية و أنسياقات السواء العام و تقاليده و نواميسه . أن شخصيات ” أبواب الفردوس ” لا تعيش أوضاعا اجتماعية و اقتصادية و ثقافية متردية حيث القهر المادي في القاع الأجتماعي ، أننا لا نجد واحدة تنؤ تحت وطأة ثقل عائلي ، أجتماعيا و أقتصديا ، حيث الفاقة الشديدة و الجوع الذي يغرس أنيابه في أعماقها فيدفع بها لتعتاش على جسدها ، كما ليس هناك منْ رفضت علاقتها الجنسية مع غزوان بل أنهن تخطين بوعي الموروث الذي تكدس فيهن و أصبح أمرا لا يمكن تجنبه باليسر الذي يؤدي إلى إنزلاقات كبيرة.
الأسلوب
وظف الروائي في هذا المنجز الأبداعي ، الحوار أسلوبا متميزا عن الأساليب الفنية الأخرى بحيويته و قدرته التعبيرية حيث يشغل حيزا كبيرا في الرواية ، فضلا عن أنه الوسيلة الأكثر جدوى في عملية الكشف عن دواخل شخصياته و خاصة الشخصيات الرئيسة .التي منحتها لغة الحوار أبعادا واقعية بما يجعلها نماذجا بشرية منتقاة بقصدية ذات محمول دلالي كثيف الترميز . كما أن الروائي لم يغفل ، أيضا ، عن أهمية السرد الذي يبتعد عن الأطناب و الحشو و الرتابة التي تجعله ثقيلا و مملا تماما . أنه أسلوب يعتمد المفرد ة ذات الفيض الشاعري الذي يمنح الرواية ذائقة جمالية بالإضافة إلى قدرة الروائي على الوصف الدقيق للأشياء بأستخدام المفردة المعبرة.أن أستخدام الحوار يظفي على الرواية لمسات من جمالية روحية المسرح وطبيعتة كما أنه يظفي على الشخصيات حيوية و حضورا مؤثرا دائما . , فيتسم الحوار القصير الجمل و الأيقاع السريع ، بالطابع الدرامي بما يتجلى به من قوة التأثير العاطفي ، أنه عنصر مهما في الأسلوب الفني للرواية بما فيه من حيوية .
على الرغم من أن الحوار كان بعباراته السلسة و القصيرة ، ذا وظيفة أكبر كثيرا من وظيفة السرد ، بقي السرد متميزا بانسيابته و قدرته على الوصف الدقيق للأحداث والشخصيات معا ، فقد تميزت مفرداته أيضا بالفيض الشاعري الذي ألفناه في كافة أعمال الروائي السابقة ، القصصية و الروائية ، حيث تتميز لغته بطراوتها و جزالتها.
يوظف الروائي أسلوب السرد ، السرد الدقيق التفاصيل و طبيعته المشهدية. للكشف عن الأهتمام الكبير بالجنس الذي يشغل حيزا كبيرا في التحكم في العلاقات غيرالخاضعة للضوابط الدينية و الأجتماعية و خاصة التي تحكم العلاقات مع النساء و هي علاقات سرية و مغلقة لأنها ،على أختلاف أنواعها ، تقوم على العلاقة الجنسية غير المشرعنة و هذا ما أقرت به الشخصيات نفسها ، فأم غزوان ، فطم ” أعدت علاقتها الجنسية مع هشام ذنبا أرتكبته بحقه و بحق نفسها وكذلك العلاقة بينها و بين أخيها عندما كان صبيا . و بسبب سرية تلك العلاقات ، لم تتعرض عائلة نذير الحسيبي ،إلى توسيمات أخلاقية مهينة و لم يرتب أحد بها فبقيت محافظة على مكانتها الأجتماعية و العشائرية .
كما أن الروائي كدأبه ، لا يبتعد كثيرا عن الميل عن اللغة المشهدية من خلال الوصف الظاهرة المكانية ، وصف معالم مدينة بغداد الحضرية (ص 202 ) على سبيل المثال لا الحصر. من الجدير بالملاحظة ,أنه على الرغم من أمتدادات الظاهرة المكانية ، لم يحدد الروائي موقع المدينة إلا قربها من بغداد , و تبدو أنها مدينة صغيرة ذات علاقات اجتماعية صعبة و معقدة ، كما أنها ليست بالبيئة الزراعية التقليدية ذات العلاقات المعروفة. ثم تفاصيل وصفه الشخصيات : وصفه لنسرين وطيشها و اختلاء غزوان برؤى في البيت في البستان ( صص133و 134 ) و كذلك وصفه لأم رهيف في بيتها (صص176و177 )
لا يلجأ الروائي إلى المنولوج الداخلي إلا بشكل محدد كما عند غزوان بعد أستسلامه لتهدبد ” ريم الشهلاوي ” و تبرير تصرفات نسرين الطائشة ،
من الملاحظ أن الرواية تمر بثلاث مراحل زمنية رئيسة تنفصل عن بعضها بفاصل زمني قصير جدا: فترة قبل تولي غزوان مسؤولية العائلة ، أمه وأخته ، لتغيب أبيه و فترة بعد توليه تلك المسؤولية مفوضا من أبيه بعدعودته ثم سفره إلى الكويت و أخيرا فترة عودته منها و محاولته تصحيـــــــــــح علاقاته مع الجميع .
ان البناء الروائي مشدود ، إلى حد ما ، بخيط الموضوع الرئيس للرواية مما يعطي السرد إنسيابية رائعة كما انه يشكل أيضا وحدة فنية فتجيء النهاية موصولة بالبداية من خلال حبكة مشدودة هي الأخرى بقانون السببية المنطقية التي تتطلب الأقناع الفني الذي لا يتحقق إلا من خلال الأجابة على السؤال عن سبب وقوع الحدث في إطار الرواية نفسها. ومن خلال هذه الحبكة يمسك الروائي بخامة واقعيتها و يقدمها إلى القارئ عملا فنيا رائعا .
على الرغم من أن السرد يتميز كثيرا بكثافة الأسلوب الشعري الفني وبالأيحاء ، غير أنه يتجنب الوقوع في منزلق الأنشائية كبنية فنية ولذا نجد الحدث يتطور دراميا و مؤثرا في المتلقي ،كما ان هذا الأسلوب يساعد بنزعته الدرامية التعبيرية ، على كسر وحدتي الزمان والمكان عندما يضع القارئ إزاء عالمين أو أكثر أو مسلكين حياتين متناقضين ، العهر و الآلتزام الأخلاقي.تبلور صيغتا ضمير المتكلم و ضمير الغائب الشخصية من الداخل و الخارج معا .و يوظف الروائي هذا الأسلوب للنفاذ إلى أعماق الشخصيات و سبر اغوارها من خلال تيار شعوري داخلي يتدفق بأنسيابية لا يحدها شيء إلا الضابط الفني .تؤكد الرواية قدرة الروائي في السيطرة على أداته اللغوية التي نجدها في ثنايا الجمل القصيرة التي تجري في إيقاع سريع في المشاهد المتتابعة في سياق السرد أو في الحوارات، أن هذة القدرة توفر عنصر الأقناع الفني .
الخاتمة
يلجأ الروائي في نهاية الرواية إلى محاولة ترميم كل شيء وكل الشخصيات التي أصابها العطل و ذلك من خلال الخروج من الفراديس التي لجأت إليها ،ثم محاولة إغلاق ابوابها المتعددة .فهذه أم غزوان ترد هشام و تغلق الباب و كأنها قد صحت فجأة و نراها تخاطبه (سأعود لأكون أمك مثلما كنت ُ من قبل و ليغفر لي الله ما أرتكبته بحق نفسي و حقك أيضا من ذنب .) ( ص 330 ) وكذلك الحال مع غزوان الذي نراه ساعيا إلى ترميم علاقته مع أم رهيف فيقدم لها هديته الأخيرة و هي علبة بداخلها مصحف بحجم كف بغلاف مطعم بالأصداف ، وتقبل هي المصحف و ترفعه إلى جبينها ، ثم يقدم لها سلسلة ذهبية تنتهي بمصحف ذهبي صغير. و تدرك مغزى هديته المزدوجة. (ص 332) . كما أنه قرر الأتصال بالست “نهال ، مدرسة الكيمياء وتقديم هدية أيضا مدعيا أنه يريد أن يرد لها فضلها عليه و رؤى .( ص 331 ) كما تـُعد عودة نذير الحسيبي إلى بلده و رفضه مصاحبة زوجته : ريم ” إلى أمريكا ، شكل من أشكال الترميم التي يحاول الروائي التعامل بها مع شخصياته و كانت زوجته قد سحبت كل أمواله و التي كانت بأسمها و هاجرت مع أبنتيها و عاد هو مهزوما و قد فقد كل شيء و بدا له باب فردوسه الكبير قد أنغلق تماما (ص 345 )
أن محاولة ترميم الشخصيات تعبير عن نزعة الروائي التصالحية التي تتمثل بعودة الشخصيات إلى حياتها قبل دخولها فراديسها الخاصة ، أنه يوحي للقارئ بزيف كل فردوس الذي كان نوعا من الجحيم ، لقد عادت تلك الشخصيات إلى الفردوس الحقيقي بعد أن خاضت تجاربا شتى ، ما بين السعي وراء الجنس غير المشرعن و المال و الثروة ليبقى الفردوس الذي يعتمد العقل والفكر و الثقافة دون أن يفقد ألقه .من الجدير بالملاحظة و الأهتمام هو أن يترك الروائي شخصيات من دون ان يرممها ،مثل شخصية الحاج “رمضان” المتظاهر بالدين و كذلك ولده ” حمدالله” كما انه ابعد شخصية ريم الشهلاوي عن زوجها ” نذير ” ليواجه مصيره وحده بعد أن سرقت كل أمواله .لقد أعاد الروائي شخصياته الجانحة إلى عالم الخير و المشاعر الطاهرة التي تنبع من الضمير الحي و النفس القادرة على الأنتماء إلى السواء العام مستفيدا من عدم تفكك تلك الأسر ، عائلة نذير الحسيبي ، و عدم سقوط ركائزها التقليدية بعد سعيها المحموم إلى ممارسة الجنس و جمع المال و الثروة ، لقد أعاد لها الأرتباط الأخلاقي بعد عملية أنفصام واضحة .
ان الرواية ذات مضمون اجتماعي و إنْ كان موضوعها الرئيس هو الحرمان الجنسي الذي يقود الأحداث ،أنه الموضوع الأكثر شدا للقارئ إلى الأحداث و أجوائها و لأنه الدافع الكبير وراء ممارسة الجنس خارج أطر المؤسسة الأجتماعية ، من الجدير بالذكر. لم تنزلق أية شخصية إلى البغاء و ربما ليس له حضور في أذهانها و أنها لم تعش حياة رذلة . أن هذه الشخصيات تعبر بتصرفاتها عن طبيعة علاقات مجتمع الغاية.
أن عقاب الشخصيات ليس بالعقاب الشديد الذي سببه توبيخ الضمير عندما تثوب إلى رشدها بعد غلطتها ، لقد كان شعور أم غزوان ، بالندم لعلاقتها الجنسية بهشام ،ليس بعقاب نفسي لأنه لم يتعمق و يتفاقم بداخلها، كشعور من نوع جديد . و كذالك الحال مع بقية الشخصيات : ريم و أم رهيف و نهال و غزوان . بعبارة أخرى أنها شخصيات لا تعاني من شعور بالذنب و الخطأ و تعذيب الضمير حيث أنها مارست تلك العلاقات الجنسية و هي في كامل وعيها ليس بدافع ميل إنحرافي سببه الحرمان فقط بل الأستعداد الفطري الذي يسكن دواخلها منذ زمن ، كما أننا لا نجد في تصرفاتها و تحركها ثمة تردد أو تحرج أو تخوف من هكذا علاقة ، بل نجد إرادة و وعيا و تدبيرا و تخطيطا مسبقا و قد يكون حاضرا تماما و هذا ما يؤكد أن البيئة ليست وحدها مصدر الأنحراف في السلوك بل العامل الذاتي أيضا . كعلاقة أم غزوان مع أخيها ” رمضان ” في مرحلة الطفولة . والتصرفات الطائشة ل”نسرين ” التي كانت على استعداد للأنزلاق حسب وصف أخيها “غزوان ” و تخوفه من تلك التصرفات .
في النهاية لم يلجأ الروائي إلى مبدأ العدالة الشعرية ، مكافأة الطيبين و معاقبة الأشرار ، بل نراه ينطلق من نزعة تصالحية فيفتح أمامهم أبوابا مشرعة لفردوس جديد في مقاربة من مبدأ عودة الأبن الضال . يتمثل هذا كله بمغزى هدية غزوان إلى أم رهيف : العلبة الصغيرة التي تحتوي على مصحف و كذالك العقد الذي ينتهي بمصحف أيضا . أن هذه الهدية ذات محمول دلالي كبير الترميز، بأن الأيمان الروحي هو البديل الحقيقي للفردوس الذي ولجت إلى رحابته مع غزوان من خلال الجنس.
أننا نعد هذه الرواية محاولة جرئية لتعرية علاقات اجتماعية مجحفة للأنسان و متجاوزة على أنسانيته ، كما هي صرخة إدانة عالية الصوت لكل ما هو زائف و ظالم للأنسان و متجاوز على حقوقه الطبيعة ،كما انها صفحة مشرقة من صفحات المشروع الأدبي و الفني و الأخلاقي للروائي القدير و المبدع ناطق خلوصي الذي نجد الكتابة عنده واجبا أنسانيا و وطنيا .