الأعظمية.. تاريخ وعراقة وشواهد خالدة – وليد الحيالي

الأعظمية.. تاريخ وعراقة وشواهد خالدة – وليد الحيالي

على ضفاف نهر دجلة، حيث يزهو الماء بحكايات بغداد القديمة، ترتفع الأعظمية شامخةً بتاريخها، عابقةً بروح العلم والورع والجمال. لم تكن الأعظمية يوماً مجرد حي من أحياء بغداد، بل كانت وستبقى رمزاً من رموز هويتها وذاكرتها الحيّة.

سُمّيت الأعظمية بهذا الاسم نسبةً إلى الإمام أبي حنيفة النعمان، إمام المذهب الحنفي، الذي يلقب بـ «الإمام الأعظم»، وقد احتضنت المنطقة قبره الشريف منذ أكثر من ألف عام، فأضحت مركزاً للعلم والفقه والروحانية، ومقصداً للزائرين من كل أرجاء العراق والعالم الإسلامي.

تقع الأعظمية في جانب الرصافة من بغداد، مقابل منطقة الكاظمية التي تحتضن بدورها مرقد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، في توازن روحي ومعماري بديع يجسد تآلف أطياف المجتمع البغدادي على مرّ القرون.

عُرفت الأعظمية بمدارسها العلمية ومجالسها الأدبية وأسواقها العامرة، كما عُرفت ببيوتها البغدادية ذات الطراز التراثي، وشناشيلها المطلة على الأزقة الضيقة التي يعبق منها عبير الياسمين. وفي الأعظمية مساجد عريقة إلى جانب جامع الإمام الأعظم، مثل جامع الخلفاء الصغير، والعديد من الزوايا والمدارس الدينية التي ساهمت في نشر العلم والثقافة.

شواهد الأعظمية ومؤسساتها التربوية

وتضم الأعظمية اليوم عدداً من الشواهد المعمارية والدينية والثقافية التي تؤرخ لمكانتها عبر القرون، وأبرزها:

  • مرقد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان: وهو القلب النابض للمنطقة، بمسجده الكبير ومقام الإمام الذي يؤمه الزائرون من شتى أنحاء العالم الإسلامي.
  • ساعة الأعظمية: وهي برج الساعة التاريخي المقابل للمسجد، الذي بُني في عهد الملك فيصل الأول، وأصبح رمزاً مميزاً للحي.
  • جامع بشر الحافي: وهو جامع قديم يقع في محلة السفينة، يعود إلى أحد أعلام الزهد والتقوى في بغداد.
  • مكتبات الأعظمية: مثل مكتبة الإمام أبي حنيفة التي كانت من أوائل المكتبات الدينية والثقافية في بغداد.

وعلى الصعيد التربوي، اشتهرت الأعظمية بأنها مركز علمي منذ القدم، وخرجت أجيالاً من العلماء والمربين والفقهاء. ومن أبرز مؤسساتها التربوية:

  • كلية الإمام الأعظم الجامعة: التي تأسست حديثاً لتواصل رسالة الفقه والعلوم الإسلامية على خطى الإمام أبي حنيفة.
  • المدرسة المستنصرية الأعظمية (في عهد العثمانيين): إحدى مدارس العلم الشرعي والتربية الإسلامية.
  • مدارس الأعظمية الابتدائية والثانوية: مثل مدرسة الأعظمية الابتدائية للبنين، ومدرسة الإخاء الابتدائية للبنات، ومدرسة الزهاوي الثانوية، وكلها لعبت دوراً كبيراً في تعليم الأجيال.
  • روضات وحلقات العلم: التي كانت تُقام في مساجد المنطقة لتعليم القرآن الكريم والعلوم الشرعية واللغة العربية.

أسواق الأعظمية ومحالها التجارية

وللأعظمية أيضاً وجه اقتصادي نابض بالحياة يتمثل في أسواقها القديمة ومحالها التجارية الشهيرة التي خدمت سكان بغداد على مدى عقود. من أبرز هذه الأسواق:

  • شارع عشرين: وهو الشريان التجاري للمنطقة، حيث تصطف المحال والمكتبات والمطاعم والمقاهي، ويشهد حركة دؤوبة طوال اليوم.
  • سوق الأعظمية الكبير: الواقع قرب مرقد الإمام الأعظم، ويشتهر ببيع الملابس والمستلزمات المنزلية والتوابل والعطور الشرقية.
  • محال الصاغة والذهب: التي تميزت بها الأعظمية منذ عقود، حيث يتوجه إليها الباحثون عن أجود المشغولات الذهبية.
  • محلات الحلويات والمخابز التقليدية: مثل حلويات الأعظمية الشهيرة وكعك السمسم والخبز البغدادي.
  • محال الكتب والمكتبات الإسلامية: التي تزود طلاب العلم بما يحتاجونه من كتب ومصادر.

تتنوع هذه المحال والأسواق لتعكس روح الأعظمية الجامعة بين الأصالة والتجارة المعاصرة، وتبقى نقطة التقاء بين الماضي والحاضر.

شواهد أدبية وشعرية

وقد تغنّى الشعراء بجمالها وأصالتها، فقال الشاعر البغدادي معروف الرصافي:

حيّ الأعظمية وأهلوها الكرامُ … ففيهم المكارم والمجد والقيامُ

إذا بغداد زانت بالهلال … فهم بدرُ التمامِ لها الدوامُ

وقال شاعر آخر:

يا زائر الأعظمية قل للربوع سلامْ … أرض الإمام الأعظم تزهو بكل مقامْ

شهادات الرحالة

وكتب الرحالة الألماني كارستن نيبور في القرن الثامن عشر:

“في الأعظمية روح بغداد الفقهية والعلمية، وأزقتها تفوح برائحة التاريخ، وأهلها أهل كرم ونجدة.”

كما وصفها الرحالة الفرنسي دومينيك بوشيه قائلاً:“حي الأعظمية مدرسة مفتوحة، يلتقي فيها الفقيه بالنجار، والنجار بالتاجر، وكلهم يرددون الذكر الحكيم في حضرة الإمام الأعظم.”

ختام

إن الأعظمية ليست حيّاً عادياً، بل هي سيرة عراقية مكتوبة على جدران الدهر. إنها تجسيد للعراقة البغدادية التي تأبى الانكسار، وصورة لروح العراق التي تتحدى المحن وتنهض من رمادها دوماً.

سلامٌ على الأعظمية وأهلها الطيبين، وعلى بغداد التي تنبض في كل شبر منها بالتاريخ والعراقة والحب.

مشاركة