الأزمة المستعصية ..  بين الديمقراطية الحقيقية التوافقية – وصال العزاوي

الأزمة المستعصية ..  بين الديمقراطية الحقيقية التوافقية – وصال العزاوي

تجسد الازمة العراقية حالة فريدة للازمة المستقرة ، فمنذ عام 2003 والمسرح السياسي العراقي يشهد دوامة من الازمات السياسية المتتالية ، والازمة السياسية الحالية لاتختلف عن سابقاتها من الازمات السياسية فقد جاءت لتبقى طالما بقي النظام السياسي العراقي في صيغته الحالية ، لقد اصبح العراق مصنعا للازمات السياسية ولايمكن الحديث عن العراق دون الحديث عن ازمة سياسية ماضية او حاضرة او لاحقة وفي كل ازمة تبحث الاسباب وتقدم الحلول وتفتح المنافذ السياسية للخروج من الازمة ثم تظهر ازمة جديدة وبشكل جديد وعناصر جديدة وهكذا الحال في العراق ترحيل الازمات دون ايجاد الحلول والمعالجات .

ويمكن ايجاز حقيقة الديمقراطية التوافقية في العراق بالنقاط التالية :

1- التغيير في العراق جاء كما يقول الساسة العراقيون بمفاهيم جديدة لتكريس الديمقراطية وبناء دولة المواطنة والمؤسسات الدستورية، التي يكون فيها الشعب مصدر السلطات وتكون صناديق الاقتراع هي صاحبة القول الفصل في اختيار قادة البلاد،

إلا أننا وجدنا أن النظام السياسي الجديد في العراق بعد التغيير قد تم بناؤه على أساس حكومة الشراكة، والذي يعني مشاركة الجميع في الحكم وفي صناعة القرار بعيدا عن نتائج الانتخابات وبعيدا عن رأي الناخب العراقي وفق ما يسمى بالديمقراطية التوافقية، وهي ديمقراطية جديدة ابتدعتها القوى السياسية لضمان مصالحها ووجودها في السلطة؛ حيث تفرض هذه الآلية إشراك الجميع في الحكومة ومؤسسات الدولة حسب حجم المكون والحزب والطائفة وضرورة توافق الجميع على أي قرار سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يتعلق بمستقبل البلاد قبل إقراره، الأمر الذي جعلنا نشهد ولادة حكومات مترهلة وبطيئة يحاول كل طرف فيها الدفاع عن حقوق الطائفة والمذهب والقومية التي ينتمي إليها بعيدا عن الهوية الوطنية

ومن خلال تقييم حقيقي للواقع السياسي وآلية الديمقراطية التوافقية نقول بأنها لم تتمكن من إنضاج الفكر الديمقراطي لدى النخب السياسية ولم تساهم في ترسيخ المفاهيم الديمقراطية الحقيقية بما يساعدنا في بناء الدولة المدنية الحديثة، بل على العكس من ذلك نجد أن بعض القوى السياسية أصبحت تتمسك بمفاهيم المحاصصة الطائفية لتكون تلك القوى في موضع الدفاع عن وجودها ضمن السلطة أكثر من العمل على تحقيق مسؤوليتها في إدارة الدولة وحرصها على البناء الديمقراطي

2- الغريب في موضوعة الديمقراطية التوافقية العراقية ان اغلب القوى السياسية الحالية قد تبنت التداول بهذا النموذج عندما كانت في المعارضة واكدت عليه في بياناتها ومؤتمراتها التي عقدت في الخارج خاصة في مؤتمرات لندن وصلاح الدين , وبعد عام 2003 كان مجلس الحكم التطبيق الفعلي لهذه الممارسة ثم وجدت الاطار التأسيسي لها في قانون ادارة الدولة والدستور العراقي عام 2005 وجاءت مبررات التأسيس التوافقي في العراق على اساس التنوع القومي والديني والمذهبي لمكونات الشعب العراقي ولاجل السعي بأرتقاء الفسيفساء العراقي الى الابداع والتميز من خلال ضمان مشاركة الجميع في بناء الوطن  ، وكحل واسلوب للحيلولة دون تحول الانقسامات الى اشكال غنف دموية وحروب اهلية ولوضع اساس للتعايش والتوافق عبر تقاسم السلطة … هذا الطرح النظري لم يتحقق على ارض الواقع السياسي العراقي فالحلول والمعالجات التي قدمتها ديمقراطية ارنت ليبهارت التوافقية لم تحقق هدفها في العراق  فالتجربة التوافقية تنطلق من قاعدة ديمقراطية راسخة وليست ناشئة والعراق لم يشهد طوال تاريخه السياسي الحديث والمعاصر تجربة ديمقراطية تؤهله للانتقال الى مرحلة التوافق الديمقراطي .

تنوع اجتماعي

لقد أشار الدكتور (كمال المنوفي) في كتابه القيم (نظريات النظم السياسية)، إلى أن الدول الديمقراطية ذات التنوع الاجتماعي، تستند في نجاح الديمقراطية فيها إلى ما أسماه بـ(الديمقراطية الطائفية)، وقوام هذه الديمقراطية هو((أن الميول الصراعية المتأصلة في بنية المجتمع التعددي تقابلها ميول تعاونية أو تصالحية على مستوى زعماء المجموعات المكونة له، ومن شان السلوك التعاوني النخبوي كبح جماح العنف على الصعيد القاعدي ومن ثم تحقيق الاستقرار السياسي))

وعند التأمل الدقيق في هذا الكلام نكتشف طبيعة المأزق الخطير الذي يواجه بناء الديمقراطية في العراق، حيث إن التنوع الاجتماعي لا يصاحبه وجود نخب تصالحية أو تعاونية تخفف حدته وتوجهه نحو السلام والانسجام، بل على العكس توجد نخب تهيجية تلعب على وتر التنوع خدمة لأهداف ضيقة مرتبطة بالسلطة ومن يتولى الحكم، نخب تحرص على صب زيت الإنا الخادع على نار التنوع العدائي وصولا إلى أهدافها ، فيتم تضخيم الإنا السني في مواجهة الإنا الشيعي، والإنا  العربي في مواجهة الإنا  الكردي أو ألتركماني أو الكلدوآشوري، وبالعكس، حتى صار المواطن في هذا البلد يسأل نفسه كل يوم ألف مرة، ألا يوجد تنوع اجتماعي في بقية دول العالم….. فلماذا نكتوي بنار تنوعنا بدلا من أن يكون ذلك سبيلا إلى ترقينا وتطورنا؟

3- أن تشكيل حكومة المحاصصة (الشراكة) قد تزامن مع ظروف خاصة كان العراق يمر بها – ونقصد هنا عدم استقرار الوضع الأمني وغياب الثقة بين الكتل السياسية – الأمر الذي انعكس على علاقة المكونات الموجودة في المجتمع العراقي، مما جعل القوى الوطنية تقدم تنازلات عن بعض حقوقها والخروج بحكومة يأخذ الجميع فيها حصته بما يتلاءم مع حجمه وحجم مكونه وطائفته في محاولة لبناء أجواء من الثقة بين الشركاء، والمضي معا في طريق بناء العراق من خلال بناء دولة المؤسسات الدستورية وأهمها المؤسسة التشريعية والتنفيذية والقضائية والتعاون فيما بينها خدمة للشعب العراقي.

ولكن ما حدث بعد ذلك لم يكن كما تم التخطيط له، حيث لم يعمل الجميع بروح الفريق الواحد، فتحول الشركاء إلى خصوم في جميع جوانب العملية السياسية ومعرقلين لكثير من البرامج الحكومية التي كانت الحكومة تسعى إلى تنفيذها عبر السنوات الماضية، فرفع الشركاء راية الاعتراض والعرقلة للمشاريع الحكومية ووقفوا في طريق تشريع القوانين التي تسهم في بناء الدولة، وانعكست المحاصصة سلبيا على عمل مؤسسات الدولة سيما البرلمان الذي أصبح ساحة للصراعات والمساومات السياسية بعيدا عن دوره التشريعي والرقابي

وقد كانت عملية عرقلة كثير من القوانين في البرلمان العراقي مثالا على تلك الصراعات التي تعكس سياسة الاعتراض التي يتخذها البعض في عرقلة عمل الدولة والحكومة، وتقف في طريق بناء العراق وتسليح جيشه وإعادة بناء البنى التحتية للبلد الذي عانى من الحروب والحصار والتدمير لعقود طويلة وينتظر المواطن فيه دوره في الحصول على الاهتمام والخدمات التي يستحقها .

قبادات ونخب

4- ان القيادات والنخب العراقية في مختلف توجهاتها الدينية والسياسية ، تهرب من دفع مستحقات التنمية السياسية حيث ان هذه المستحقات تتطلب بعض التنازلات من القيادات والنخب،  ان ما تجمع عليه القيادات العراقية في الوقت الحاضر هو بقاء النظام السياسي القائم مع ترميمه من حين لآخر لأنه يحفظ لها دورها النخبوي  ويحافظ على مصالحها الخاصة على حساب المصالح العامة وعلى حساب المواطن والوطن ،  وهم في كل يوم يرددون الرغبة في اصلاح النظام السياسي  وتعديل الدستورلكنهم يريدون الاصلاح الشكلي الذي لايمس جذور الازمة العراقية ولايحقق الاستقرار والامن للعراق .

 5- واخيرا وليس اخرا ومن خلال ما تمت الاشارة اليه حول الديمقراطية التوافقية فلعل المشكلات تبدو واضحة وفي مقدمتها حق النقض الذي قد يعارض أهم مبادئ الديمقراطية وهو مبدأ الاغلبية في اتخاذ القرارات خصوصاً اذا ما كانت هذه القرارات ذات ضرورة ستراتيجية وقومية للدولة.حيث ان القرارات الصادرة أو التشريعات لايمكن أن تمرر دون موافقة قادة هذه الفئات كما يشير بذلك روبرت دال وهي من جانب آخر تجعل المشكلة الائتلافية قائمة لأن أي طرف ينبغي أن يحقق قبول لدى الطرف الآخر.

ولعل مشكلة ايجاد حالة التوازن والتكافل في القرارات السياسية قد يكون أمر في غاية الصعوبة خصوصاً ما اذا كانت القرارات تتعلق بفئة معينة حيث ان خطورة المواقف تتعلق بالقرارات المتخذة بشأنها وهذا ما لابد أن يأخذ بنظر الاعتبار في محاولة دراسة وتحليل مثل هذا النوع من النظم.

اذ قد تكون ادارة عملية الحكم ذات صعوبة في مجال التفاوض خصوصاً اذا ما تعلق الأمر بالمصالح وهذا ما يشكل في أدبيات الاستراتيجية أحد المعطيات المهمة في نشوء الأزمة والذي قد يؤدي الى مشكلات خطيرة لا يمكن معالجتها في ضوء التهديدات المتبادلة ووما يزيد الأمر تعقيداً دخول أطراف خارجية أقليمية ودولية تعمل على تأجيج الأزمة الداخلية مؤدية بذلك الى حرب أهلية .

يبقى ان نقول ان البحث في اشكاليات النظام السياسي العراقي  ومدى ملائمة نموذج الديمقراطية التوافقية من عدمه يتطلب المراجعة التقويمية الجادة لتشخيص السلبيات والايجابيات  والانفتاح على جميع الابعاد التاريخية التي تغذي الصراع السياسي في العراق والتي انتجت وخلقت تراكمات سياسية ثقيلة مازال التعبير عنها ايديولوجيا او دينيا او قوميا بوصفها مبررات لسلوك معين .

واخيرا نتساءل اين يكمن الخلل ؟ هل  بتبني نموذج الديمـــــــــقراطية التوافقية ام بالقائمين على تطبـــــــيقها ؟ هل يكمن بحداثة التجربة ؟ ام ان الفرضيات التي طرحنــــــــاها تبقى هي المتغيرات الرئيسية التي لها الفصل في نجاح او اخفاق النظام الديمقـــــــراطي الفدرالي التوافقي .

مشاركة