الأزمة العراقية الراهنة: مستقبل الدولة والسيناريوهات المحتملة 4
التحدي الطائفي الإيراني السعودي المحتدم مصحوب بعناصر الكراهية والحقد والبغضاء
عبد الحسين شعبان
بيروت
{ باحث ومفكر عربي
مـقدّمـة
يمكن القول إن الدولة العراقية المعاصرة عانت مشكلات أساسية منذ تأسيسها في 23 آب (أغسطس) العام 1921 (أي منذ تسعة عقود ونصف العقد من الزمان)، وظلّت هذه المشكلات تتراكم وتتفاقم، بحيث أصبحت بؤراً مستديمة للصراع، وعقداً مستحكمة تركت تأثيراتها في المجتمع العراقي والحياة السياسية عموماً.
وشهدت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، استقراراً نسبياً وعمراناً تجسّد بمشاريع تنموية كبرى وسعياً لتحديث الإدارة وبناء مؤسسات ومرافق اقتصادية، وخصوصاً بتأسيس مجلس الإعمار العام 1950، لكن ربط العراق بمشاريع دولية للهيمنة وفي إطار الصراع السياسي والآيديولوجي، فترة “الحرب الباردة” كحلف بغداد عام 1955، والعديد من المعاهدات والاتفاقيات مع بريطانيا والولايات المتحدة، أدى إلى المزيد من التباعد بين الحكم وقاعدته التي ضاقت إلى حدود كبيرة، وكانت تتّسع باستمرار لدرجة لم يعد بالإمكان ردمها إلاّ بعملية قيصرية بإعادة بناء الدولة على أسس جديدة وفي إطار المساواة وعدم التمييز، بما يعالج الفجوة الكبيرة والهائلة بين قاعدة الدولة وقمة الهرم، وهو ما كانت تأمل منه حركة التغيير والمعارضات السياسية.
لقد استهدفت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 معالجة موضوع اختلال التوازن في الدولة، بالسعي لتوسيع قاعدة الحكم وتحرير الإرادة الشعبية والتخلص من النفوذ الأجنبي الاستعماري، ومن مظاهر تزييف الحياة البرلمانية وقيود العشائرية والمحسوبية والمنسوبية والاضطهاد الشوفيني، ونهج العزل والتمييز واللاّمساواة، لكن الأمور سارت باتجاه آخر، أكثر ضيقاً وتدريجياً بدأت ملامح الحكم العسكري تحكم قبضتها على البلاد وتفرض نوعاً جديداً أشد قسوة من الهيمنة ومصادرة حق الآخر والتدخّل بشؤون المجتمع المدني والاستحواذ على مؤسساته، لدرجة أن البلاد دخلت دوامة الانقلابات العسكرية المتكررة ودارت في حلقة الأنظمة الشمولية التوتاليتارية المتعاقبة، حيث تمت السيطرة على الحياة العامة وأُخضعت الأنشطة والفاعليات السياسية والنقابية والمهنية والاجتماعية للدولة، التي ألحق بها كل شيء، فانقطع خط التطور التدريجي وازدادت قمة الهرم ضيقاً وتباعدت عن قاعدته الاجتماعية.
ثالثاً: من برسي كوكس – مس بيل، إلى بريمر – زلماي خليل زاده، نغروبونتي
أما الدولة بعد الاحتلال الأمريكي وبموجب صيغة بول بريمر- زلماي خليل زاده نغروبونتي، فإنها توزّعت على ثلاثة كيانات سمّيت مكوّنات، هي الشيعة والسنّة والكرد، وفقاً لهذا النظام تمت المحاصصات الطائفية والإثنية وسارت على هذا الطريق من الناحية العملية منذ العام 2003 وحتى الآن، ويبدو إنها أصبحت مرتهنة إليه وأسيرة له، بل إن شرنقة تكاد تلف هذه الصيغة على نحو شديد لا يستطيع أحد الفكاك منها.
ومن مظاهر الأزمة الراهنة هو: غياب الحد الأدنى من التوافق الوطني حول الوحدة الوطنية قاد إلى رؤية متناقضة للجماعات السياسية والطائفية، وهذه الرؤية تزداد تعقيداً بفعل اشتباك المصالح وتضاربها وبحكم التداخلات الإقليمية والدولية، يضاف إلى ذلك سعي أمراء الطوائف في الحصول على المزيد من الامتيازات لشحن أبناء طوائفهم ضد الآخر بزعم الخطر القادم.
فالشيعية السياسية، وخصوصاً الجماعات المسلّحة، سواء في السابق أو في الوقت الحاضر وتحت تسميات “الحشد الشعبي”(1) الذي هو جيش موازي للجيش النظامي من الناحية العملية وإن كان خاضعاً رسمياً لرئاسة الوزراء ومرتبطاً برئيس الوزراء، نقول إن الشيعية السياسية ولاسيّما المسلحة تطمح إلى دور أكبر بعد انتهاء العمليات العسكرية والقضاء على داعش.
ويضم الحشد الشعبي الذي يرأسه هادي العامري، لواء بدر الذي كان تحت إمرته، وعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي وكتائب حزب الله وهي من التنظيمات التي قاومت الاحتلال، وجماعة المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عمار الحكيم ومجموعة من حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي، وجماعات أخرى صُنِّعت لتدخل في إطار الحشد الشعبي لتشكيل قوة ضاربة أخرى، إضافة إلى القوى الموجودة. وبقيت مجموعة الصدر “سرايا السلام” خارج دائرة الحشد الشعبي.
إن نشاط هذه المجموعات الشيعية، السياسي والعسكري، يستند إلى 3 ركائز أساسية:
الركيزة الأولى – هي التحالف مع إيران والترحيب بالدور الإيراني الذي تقوم به في العراق، سواء في مواجهة داعش أو في دعم العمليات السياسية، أو في الدفاع عن المذهب، حتى التدخل العسكري في سوريا، هو بالدرجة الأساس عن المقامات المقدسة، وخصوصاً في السيدة زينب.
أما الركيزة الثانية – فهي وقوفها بقوة ضد عودة القديم إلى قدمه، أي الحؤول دون محاولات عودة أتباع النظام السابق، وهو الأمر الذي يجعل من موضوع المصالحة الوطنية مجرد شعار ترويجي، ليس للتطبيق بحكم المخاوف المزروعة والمستمرة بين الأطراف المختلفة، وخصوصاً باستمرار قانون المساءلة والعدالة الذي هو امتداد لقانون اجتثاث البعث الذي أصدره بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق العام 2003، (وقد صوّت البرلمان العراقي على قانون جديد تحت عنوان “قانون حظر حزب البعث” في 3 آب /أغسطس/ 2016).
الركيزة الثالثة – هي الوقوف ضد الخطر الوهابي، الذي يجري أحياناً تهويله لدرجة كبيرة. وهذه الركائز الاستراتيجية الثلاث تعمل عليها قوى الشيعية السياسية وإيران بصورة متداخلة ومتكاملة، وهي ضمن برنامج تدرّجي وبعيد المدى، له ركن سياسي وآخر مذهبي، يتعلق بالمصالح والصراعات الإقليمية، إضافة إلى ركن اقتصادي وتجاري ومالي.
أما السنّية السياسية المشاركة في العملية السياسية أو غير المشاركة فهي تخيف أبناء المناطق الغربية والسنّة العرب عموماً من:
1 -“الخطر الشيعي”، وخصوصاً محاولات انفراد الشيعية السياسية بالحكم وتهميشها الطائفة السنية، بحجة الأغلبية .
2 – التدخل الإيراني وما تطلق عليه “التمدّد الصفوي” بهدف التعبئة ضد الخصوم السياسيين والنفوذ الإيراني بوجه عام، سواء كان الأمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
وترتكز في مشروعها السياسي على:
أ – اعتبار دول الخليج وتركيا حليفاً للسنيّة السياسية، مقابل تحالف إيران مع الشيعية السياسية، وذلك بهدف إحداث توازن نوعي في ميزان القوى الداخلي.
ب – عادت بعض المجموعات من السنية السياسية بمن فيها قوى ورؤساء عشائر وشخصيات إلى التعويل أكثر من قبل على واشنطن والتقرّب منها مباشرة أو عبر دول الخليج وتركيا، بهدف كسبها للوقوف ضد النفوذ الإيراني من جهة ومن جهة ثانية ضد حلفاء إيران من الشيعية السياسية الحاكمة.
ولذلك وتحت ضغط الواقع والشعور بالتمييز والتهميش تضطر أحياناً إلى قبول فكرة “الإقليم السنّي” للحدّ من نفوذ الشيعية السياسية، كما أنها تسعى للحصول على دعم إقليمي، ولا سيّما من بلدان الخليج العربي، وتركيا بهدف التوازن مع الدعم الإيراني للشيعية السياسية كما تبرّر، وهكذا فإن مثل هذا التجاذب يستمر، بل يتصاعد. وكانت لقاءات الدوحة (أيلول/ سبتمبر/2015) تعبيراً عن المخاوف إزاء تطور الأوضاع الراهنة في العراق، وخصوصاً في المناطق الغربية منه، ولا سيّما بعد احتلال داعش الموصل وتوغله في مناطق غرب العراق.
وإذا كان الأمريكان، قد باشروا باستقبال جماعات وكتل وقوى سياسية عراقية في إطار الاستماع إلى وجهات نظرها، وخصوصاً لمرحلة ما بعد “داعش”، شملت رؤساء عشائر ومجموعات سنيّة وأوساط كردية وبعض الشخصيات وغيرها، فإن ما ترشّح منها يؤكّد أن واشنطن تريد تقليص دور إيران والمجموعة الشيعية المتحالفة معها، لكنها سوف تلجأ إلى ذلك بشكل تدرّجي وهي تنتظر انتخابات العام 2018، وخصوصاً بعد دحر “داعش” وتحرير الموصل، ومن ثم البحث في مسألة الأقاليم التي يبدو أن الأمريكان أخذوا يميلون إليها أو يرجّحونها للتطبيق بعد أن كادت مجرد أفكار أو سيناريوهات، وخصوصاً أن هناك أوساطاً من السنيّة السياسية تشجّع عليها، إضافة إلى تحالفهم الفرعي مع إقليم كردستان وتسليح وتمويل البيشمركة، الذين يؤيّدون إقامة الإقليم السّني أو نظام الأقاليم بشكل عام.
ويعبّر الكرد عن مشروعهم بوضوح أكبر بدعوتهم إلى إقامة كيانية خاصة، بمعنى الانفصال في دولة مستقلة عبر إجراء استفتاء لسكان إقليم كردستان، استناداً إلى تمسّكهم بمبدأ حق تقرير المصير، ومع أن مشكلات داخلية تعترضهم على هذا الصعيد، بسبب الخلافات الحزبية والسياسية الكردية n الكردية، وخصوصاً بين جناح الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني وبين جناح الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني الذي تحالف مؤخراً مع كتلة كوران “التغيير” بقيادة نوشيروان مصطفى، إلاّ أن الفكرة أو التلويح بها ما زال يشكّل هاجساً للكرد يتم استثماره في الصراعات السياسية الداخلية من جهة، وبين بغداد وإربيل من جهة ثانية. وفي حين يقترب البارزاني من أنقرة، ويبتعد عن بغداد، فإن كتلة مناوئيه والمقصود كوران والاتحاد قريبة من طهران ومن بغداد في الآن، يضاف إلى ذلك أن هناك تحفظات إقليمية ودولية بخصوص فكرة الدولة المستقلة، وهو ما لوحظ بشكل خاص بعد زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني لواشنطن الأخيرة في 3/5/2015.
وعلى أي حال فالمشروع الكردي بإقامة كيان خاص “دولة” سوف يبقى عنصر إشغال وإهدار للدولة العراقية، إن لم يتم التفاهم مع ممثلي الشعب الكردي للتوصل إلى حلول سلمية ووطيدة، وهذا يحتاج إلى ظروف طبيعية بحيث يستطيع الشعب العراقي اختيار ممثليه الحقيقيين أيضاً.
أما التركمان فهم يشعرون بالغبن لعدم تمكّنهم من إقامة كيان خاص بهم، فضلاً عن وقوعهم في منطقة حساسة لتضارب المصالح، ولا يزال المسيحيون (الكلدان والآشوريون والسريان) في حال شديد البأس والخطورة، بسبب إجلائهم من مناطقهم في الموصل وبعض قرى وقصبات سهل نينوى وترتفع نسبة الهجرة في أوساطهم، ناهيك بتعرضهم لعنف وإرهاب مستمرين منذ الاحتلال وإلى الآن.
وهكذا فإن الدولة تسير بخطوات حثيثة نحو المزيد من الاصطفاف الاصطفائي والتباعد العملي الذي سيزيد من عوامل الانشطار والتمزّق.
مستقبل الدولة: التحدّيات والسيناريوهات
إن التحدّيات التي تواجه استمرار العراق كدولة قائمة هي:
1- تحدّيات سياسية خارجية، إضافة إلى تحدّيات اقتصادية دولية بسبب شروط التبادل التجاري واستيراد الغذاء وانخفاض أسعار النفط واستيراد السلاح والمديونية، الأمر الذي يجعل البلاد أكثر خضوعاً للهيمنة الخارجية، وخصوصاً في ظل وجود النفط، وذلك يطرح تحدّيات جيوسياسية من خلال روابط التبعية، ولا تأتي هذه فقط من الغرب الإمبريالي، بل من إيران وتركيا و”إسرائيل”، سواء باستخدام القوة العسكرية أو لاقتطاع الأراضي، أو لإجبار العراق على توقيع اتفاقيات “سلام” استسلامية مع “إسرائيل” وإنهاء كل علاقة بقضية العرب المركزية “فلسطين” وفتح أسواقها للصناعات والتكنولوجيا “الإسرائيلية”، وكذلك لإحداث المزيد من التصدّع داخل المجتمع العراقي.
2- تحدّيات داخلية، وأولها وأهمها وأخطرها هو الاحتراب الطائفي المعلن والمستتر، وهيمنة الطائفية السياسية على مقاليد الدولة وأجهزتها وممارستها للتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني. يضاف ذلك عدم الإقرار بالتنوّع الثقافي، ولا سيّما أن مشاكل الإثنيات والأديان والطوائف أخذت بالظهور على نحو شديد بعد الاحتلال، إما بسبب كبت طويل الأمد واضطهاد وعدم مساواة، وإما بسبب رغبة في التعبير عن هوّية فرعية وخصوصية جرى طمسها أو تغييبها خلال مسار الدولة العراقية. والمسألة تتعلّق بالكرد والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان كتعبيرات قومية وإثنية، وبالأديان مثل المسيحية والإيزيدية والصابئة وغيرهم، وفي إطار الأديان بما فيه الإسلام والمسيحية وطوائفهما، وبالطبع فإن نهج الاستعلاء والإقصاء والتهميش الذي عانته هذه المجموعات الثقافية على مرور تاريخ الدولة العراقية دفعها إلى التعبير عن نفسها وهوّيتها الفرعية وفي بعض الأحيان بانغلاقها وضيق أفقها بسبب ما عانته.
وتبقى المسألة الأساسية هي التحدّي الطائفي المحتدم والمصحوب بالكثير من عناصر الكراهية والحقد والبغضاء، ولا سيّما التي يقوم أمراء الطوائف والمستفيدون من الانشطار الطائفي بتغذيتها، وخصوصاً علاقة الشيعة بالسنّة، حيث أدى هذا الانقسام إلى احترابات وتكفير، إذ أن دعاة الطائفية هم في الغالب الأعم “طائفيون بلا دين”(1) على حد تعبير عالم الاجتماع علي الوردي واستخدموا الطوائف بما يسيء إلى الدين، بتقديم ذلك على مبادئ الوطنية والمواطنة، وليس ذلك بعيداً عن التداخل الخارجي الإقليمي والدولي.
إن التحدّي الديني وفروعه الطائفية قاد إلى موجات مختلفة من التعصّب والتطرّف والإرهاب والعنف، وانتشار ما سمي بالحركات الأصولية “الإرهابية” سواء اتخذت اسم جماعات القاعدة أو داعش أو جبهة النصرة أو جماعات مسلحة خارج دائرة القانون سنّية أو شيعية، ولاحظنا كيف اهترأت دولة مثل العراق واقتطع جزء عزيز منها هو الموصل، بكل تلك الخفّة واللاّمسؤولية، والأمر ذاته في سوريا، حيث لا تزال الرقة ونحو ثلث الأراضي السورية تحت هيمنة داعش.