الأزمة العراقية الراهنة: مستقبل الدولة والسيناريوهات المحتملة 3

 الأزمة العراقية الراهنة: مستقبل الدولة والسيناريوهات المحتملة     3

الحصري يركّز على العصبية والقيم البدوية في المنهج الخلدوني

عبد الحسين شعبان

بيروت

{ باحث ومفكر عربي

مـقدّمـة

يمكن القول إن الدولة العراقية المعاصرة عانت مشكلات أساسية منذ تأسيسها في 23 آب (أغسطس) العام 1921 (أي منذ تسعة عقود ونصف العقد من الزمان)، وظلّت هذه المشكلات تتراكم وتتفاقم، بحيث أصبحت بؤراً مستديمة للصراع، وعقداً مستحكمة تركت تأثيراتها في المجتمع العراقي والحياة السياسية عموماً.

3 – الدولة: من المركزية إلى التفكّك

من مظاهر أزمة الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، هو عجزها عن حماية الاستقلال الوطني للبلاد، أو استعادته كاملاً وغير منقوص، وذلك بالاضطرار إلى توقيع على اتفاقيات مجحفة ومذلّة بين طرفين أحدهما قوي ومحتل والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه، وذلك بالضد من اتفاقية فيينا حول ” قانون المعاهدات” لعام 1969 التي تفترض التكافؤ والمساواة وعدم الإكراه أو الإرغام عند عقد أية اتفاقية، وإلاّ ستكون مثل هذه الاتفاقية مخالفة لقواعد القانون الدولي، وذلك لأنها ستكون مشوبة بأحد عيوب الرضا التي تُبطلها قانونياً وشرعياً(1).

وبسبب ضعف العراق، اضطرّ إلى السكوت عن تدخّلات وتجاوزات لحدوده وأراضيه واختراق سيادته في أكثر من موضع ومجال، وهو الأمر الذي يحصل مع إيران الذي لها اليد الطولى، ومع تركيا يومياً بزعم ملاحقة حزب العمال الكردستاني التركي، وذلك أحد مظاهر أزمته.

كذلك عجزها عن تحقيق التنمية المستدامة المستقلة بجميع جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية وغيرها، ولعلّ التظاهرات المندلعة منذ أسابيع مطالبة بمساءلة الفاسدين وتحسين الخدمات وغيرها من المطالب، خير دليل على فشل الدولة، فضلاً عن هدر أكثر من 700 مليار دولار هي واردات النفط خلال الفترة المنصرمة منذ الاحتلال وحتى الآن من دون أي منجزات تُذكر، بل ذهبت جميعها تقريباً هباءً منثوراً، بسبب سوء الإدارة وهدر المال العام وعدم الشعور بالمسؤولية واستشراء الفساد المالي والإداري، المتمثّل بالسرقات وعمليات التزوير والامتيازات غير المشروعة وغير ذلك. ولا يزال العراق منذ 13 عاماً يصنّف من جانب منظمة الشفافية الدولية، في أسفل سلّم الهرم بالنسبة إلى الفساد المالي والإداري.

ميدان العدالة

من مظاهر الأزمة أيضاً عدم إحراز أي تقدّم في ميدان العدالة الاجتماعية، حيث ازداد التفاوت الطبقي والاجتماعي على نحو شديد وارتفعت نسبة الفئات الفقيرة التي زادت فقراً، ويوجد نحو 8 ملايين إنسان دون خط الفقر في بلد من أغنى بلدان العالم، ولكن شعبه يعيش بحالة مدقعة من الفقر، بل إن هناك بلداناً فقيرة يعيش سكانها بطريقة أفضل من العراق بسبب نسبة قليلة من الإدارة الرشيدة والوحدة الوطنية.

ومن مظاهر الأزمة الأخرى هو تقليص دائرة المشاركة السياسية والشعبية وعدم تحقيق المصالحة الوطنية، على الرغم من المشاريع الكثيرة الفاشلة، والسبب يعود إلى عدم توافر إرادة سياسية، فالكل يعلن عن رغبته في التوافق، لكن التوافق الذي يفهمه لا يعني سوى الامتثال إلى رأيه لدى أي خلاف، ومثل هذا الأمر زعزع الثقة الهشّة والتفاهم المهلهل أصلاً وقاد إلى المزيد من التباعد والتمترس، وخصوصاً في ظل ارتفاع نزعات الهيمنة والثأر والكيدية والانتقام، ليس ضد النظام السابق وكبار موظفيه فحسب، بل ضد القوى المشاركة بالعملية السياسية بعضها ضد البعض الآخر، حيث يتم اقتناص الفرص لإيقاع كل فريق بالآخر.

أما المظهر الأخطر للأزمة، فهو حالة التفتّيت والانشطار العمودي التي تعيشها الدولة منذ الاحتلال وحتى الآن، والتي تنذر بعواقب وخيمة ليس بعيداً عنها مشروع جو بايدن لعام 2007 لتقسيم العراق إلى 3 دويلات (تحت عناوين فيدراليات) ووضع نقاط تفتيش Check point بينها وتخصيص 300 ألف جندي لمراقبة حدودها وإصدار هويّات Identity أقرب إلى جوازات سفر للتمييز بين أبناء المناطق المختلفة حسب سكنهم والأماكن التي يقطنونها.

وسيكون ذلك جزءًا من تطهير طائفي وإثني جديد، وخصوصاً أن هناك مناطق يستعصي تجييرها لطائفة أو مجموعة طائفية كبغداد العاصمة على سبيل المثال، على الرغم من التطهير الطائفي الذي تعرّضت له منذ الاحتلال ولحد الآن، وباختصار، إن الزعم بأن التقسيم سيكون حلاًّ أو حتى آخر الحلول السيئة ليس سوى محاولة لفرض الأمر الواقع على العراقيين ليصبح ذلك واقعاً في المستقبل.

التقسيم سيكون كارثة جديدة على العراق الذي سيختفي من الخريطة السياسية، وخصوصاً إذا ما استمر الاحتراب والصراع، بل إن صراعه سيكون مصارعة على الطريقة الرومانية، حيث سينهك الجميع ويصلون إلى حافة الموت.

ويذكّرنا مشروع جو بايدن بسؤال طرحه غراهام فولر(1) الدبلوماسي والسياسي في مؤسسة راند Rand الأمريكية (المقرّبة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA) هل سيبقى العراق موحداً العام 2002؟ وعاد وكتب دراسة في العام 2002 عنوانها “العام الأخير لصدام حسين”!(2)، وكان ذلك تمهيداً لاحتلال العراق، وجزء من نظرية التفتيت التي اشتغلت عليها مؤسسات الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الأمريكية بشكل خاص والغربية بشكل عام، وتروست الأدمغة ومجمّع العقول لصالح المجمّع العسكري والصناعي، منذ اندلاع الحرب العراقية -الإيرانية، باعتبار الصراع في المنطقة هو بين سنّة وشيعة، وبين فرس وعرب وبين دولتين نفطيتين، وليس القضية الفلسطينية هي المسألة المركزية وإن الصراع العربي – الإسرائيلي هو الصراع الأساسي في المنطقة، وهو ما أريد الترويج له والعمل على أساسه لتفتيت دول المنطقة، والعراق كان بروفتها الأولى.

استمرار الحصار

لعلّ غراهام أي فولر لم يكن خيالياً عندما كتب “هل سيبقى العراق لغاية العام 2002” خصوصاً باستمرار الحصار والنظام حينها!؟ ننقل هذه الفقرة الجوهرية التي يريد الوصول اليها: دولة على درجة عالية من الاستبداد للحيلولة دون التفسخ، ولكن من شأن هذه الدولة الاستبدادية، أن تحرم البلاد من الاستقرار السياسي والمرونة اللازمة، الأمر الذي يغرق البلاد بالمقاومة الداخلية وعمليات التمرد والتدخلات الخارجية، وربما يغريها للسعي للمقاومة الخارجية للتعويض عن ضغطها الداخلي.

وضمن هذا السيناريو يمضي فولر: لقد شهدنا بالفعل تلك التجربة عندما شنّ العراق حربين ضد جيرانه خلال عقد واحد من الزمن. ثم يواصل فولر حبكته الدرامية بالاستنتاج التالي “ومما يدعو للمفارقة أن التدخل الخارجي ربما يكون السبيل الوحيد لإنقاذ وحدة العراق، لأن استمرار نظام الحكم البعثي، سيؤدي بالتأكيد إلى تعميق الخلافات الطائفية والدينية القائمة والتي يصعب التوفيق بينها داخل العراق”.

ويفصح أكثر وعلى نحو لا لبس فيه ولا غموض عن استراتيجيته الولايات المتحدة إزاء العراق، التي عبّر عنها أكثر من مرّة الرئيس كلينتون وآل غور نائبه وكريستوفر وليك وإضرابهم بالقول ” فالسياسة الأمريكية تجاه العراق تنطوي على مسائل تتجاوز كثيراً مصير دولة معتدية لحقت بها الهزيمة، بل إنها تشمل على العديد من القضايا ذات الاهتمام الدولي. ويعددها على النحو التالي:

1- يعتبر العراق احد أخطر منتهكي الحظر على انتشار الأسلحة التدميرية وهو “مصدر قلق”!

2- العراق هو الدولة الأولى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي تم دحرها وترويضها عسكرياً بموجب النظام العالمي الجديد (الدور الجديد للأمم المتحدة).

3- ستظل “الوحدة الاقليمية” للعراق ليس موضع شك حسب، بل ربما يتقرر استمرار وحدتها جزئيا بسياسات المجتمع الدولي(1).

وإذا كان كريستوفر قد صرّح بما يلي “إني قلق بشأن الذين سيخلفون (الرئيس) صدام حسين بقدر قلقي منه… فإن العامل الخارجي الذي يبرر التآكل التدريجي للدولة العراقية، يلتقي مع العوامل الداخلية، التي تؤدي الى ذبولها إذا جاز التعبير وبالتالي انهيارها(2).

ولكي نتعرف على طبيعة الدولة العراقية، لا بدّ من العودة ولو بصورة سريعة الى قراءة بعض عناوين ومحطات قيام هذه الدولة وما وصلت إليه البلاد في الوقت الراهن.

لقد عانت الدولة العراقية منذ تأسيسها من أزمة حادة، استفحلت مع مرور الأيام بوجود “حكم أقلي” وابتعاد القاعدة الاجتماعية الواسعة عن المشاركة في إدارة الشؤون العامة، وبالتالي تقليص دائرة الحكم، حتى إن دستور العام 1925 “القانون الأساسي” الذي بدا متقدماً حين صدوره، أهمل بالتدرج وتقلّصت هوامش الحريّات، وخصوصاً حرية التعبير، وازداد النفوذ الأجنبي، ومنذ ثورة 14 تموز (يوليو) ولغاية الاحتلال العام 2003 حُكم العراق من قبل أنظمة شمولية ارتفعت وتيرة العنف مع مرور الأيام، خصوصاً في ظل ادّعاء الأفضليات والزعم باحتكار الحقيقة.

عناصر متنوعة

لقد أقيم العراق الحديث بلبنته الاولى في اتفاقية سايكس – بيكو السرّية عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا. وضم هذا البلد خليطاً من قوميات وعناصر متنوعة. وإذا كان العنصر العربي الأساس في المجتمع العراقي، خصوصاً في الوسط والجنوب وغرب البلاد وجزء من شمالها وبمحيطه العربي الأوسع، فإن العنصر الكردي تفوّق في كردستان (شمال العراق)، إضافة إلى وجود عرب وتركمان وآشوريين وغيرهم.

وضمّ العراق المتنوع قومياً، تنوّعاً دينياً، فإضافة الى المسلمين بطائفتيهم الرئيسيتين الشيعة والسنّة، هناك أقليات دينية متعايشة، خصوصاً المسيحيين بطوائفهم وصابئة وإيزيديين وأرمن وغيرهم. والجميع يؤلفون نسيج الوحدة الوطنية العراقية بفسيفسائها وتمايز ألوانها.

وإذا كان التنوّع من خلال التعايش والوحدة الوطنية دليل قوة، إلاّ أنه لم يكن كذلك في منظور بيرسي كوكس n مس بيل بعد قيام ثورة العشرين (1920). فلم يكن من وجهة نظرهم ومصالحهم، سوى نوع من التناقض والصراع، الذي ينبغي أن يُحل لمصلحة بريطانيا بإحداث التعارض بين القاعدة العريضة وقمة الهرم التي كانت تضيق باستمرار.

ومع أن الملك فيصل الأول حاول تشخيص هذا الوضع قبل ما يزيد على بضعة عقود من الزمان وبعد خبرة في الحكم دامت نحو 12 عاماً حين دعا في مذكرته الشهيرة، التي وجهها قبل وفاته بفترة قصيرة (1932) إلى تقديم أولوية الانتماء إلى الوطن بدلاً من الطائفة والعرق، بسبب نهج لم يعتمد المساواة بين المواطنين أساساً للحكم، وخصوصاً فيما يتعلق بقانون الجنسية رقم 42 العام 1924، الذي قسّم العراقيين إلى فئة أ و فئة ب فيما يتعلق بشهادة الجنسية العراقية، وعلى أساسه والقوانين اللاحقة جرى تهجير عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين بحجة التبعية الإيرانية وإنسابهم إلى الفئة (ب)، في حين أن الفئة (أ) نسبت إلى التبعية العثمانية وبالتالي إلى التبعية العراقية (بالتأسيس). وإذا كان هذا موقف رأس الدولة في العام 1932 الذي صاغه على نحو جريء وصريح محللاً حقيقة أزمة الدولة العراقية، فما بالك بما يجري في الواقع الفعلي، وهو ما أثار تداعيات وتساؤلات كثيرة بصدد تجليات الأزمة، وذلك من خلال معرفة الخلفيات وإجراء مقارنات ضرورية، كلما تطلب الأمر(1).

الدولة حسب ابن خلدون تبدأ من “الرأس فما تحت” وهي بحاجة إلى سلطة رادعة (وازع) وقائد عصبية أو تضامن من شعب يتحد معه لتنظيم أمور المجتمع. ويرى الدكتور علي الوردي الباحث والمفكر الاجتماعي: إن فكرة الدولة هي الأساس في نظرية ابن خلدون الاجتماعية وهو ما ذهب إليه الدكتور طه حسين، حين ركّز على موضوع القيم الحضرية.

أما ساطع الحصري فقد ركّز على موضوع العصبية، أي أنه أعار اهتماماً كبيراً لموضوع ” القيم البدوية” في المنهج الخلدوني، كما يحلّل وليد نويهض في مقال له في صحيفة الحياة(2).

(وحسب هوبز ولوك وسبينوزا وروسو تنشأ الدولة بموجب ” عقد اجتماعي” بين الحكام والمحكومين (وإن اختلفت شروطه). أما عند كارل ماركس ولينين فالدولة أداة قمع للسيادة الطبقية، فهي والحالة هذه أداة لتنظيم سيادة طبقة على أخرى.

وإذا كان الإجبار سمة من سمات الدولة حسب ابن خلدون، لتأتي بعدها المظالم، فالدولة أيضاً نتاج تحريضي لما يحدث بين الناس من إكراه على التعاون في سبيل الإنتاج الحضاري(1).

سيادة طبقة

الدولة سواء ابتدأت من “رأس” أو كانت بموجب “عقد” أو “تخويل” أو “سيادة لطبقة” فلا بدّ من قوانين تنظيم شؤون البلاد والعباد وفقاً لدرجة التطور الاجتماعي. وإذا كان العراق بعد إحراز استقلاله السياسي، يمرّ بمرحلة انتقالية، فإن انتماءه إلى المجتمع الدولي، كدولة ذات سيادة “عصبة الأمم عام 1932” ودخوله الأمم المتحدة، كعضو مؤسس وموقع على الميثاق عام 1945، قد جعلت مكانته الإقليمية والدولية تكبر، خصوصاً ما يمثله من موقع استراتيجي وموارد هائلة وخيرات ومعادن وتاريخه الحضاري العريق.

مشاركة