إنسانة

إنسانة

 ياسمينة, بنت في عمر الزهور, تجدها مستيقظة حتى في الليل فقلبها الأبيض لا يكترث لخيانة الوقت والظروف. في فؤادها وردة ربيع بيضاء أما روحها فتربة خضراء ندية. كان شباك الليل يرش البرد على عينيها فتتمنى هي لو تسرق جسمها في هذه اللحظة وتهرب , تهرب فقط, في هذا الليل الذي يخفي تحت أجنحته أحداثا قادمة مجهولة.تود لو تتحول الى شبح, شبح فقط يسير بلا ظل . هي خائفة مما يمكن أن يحدث فقد أذبلت الأيام جزءا كبيرا من فؤادها الوردي ولم يتبق إلا القليل منه. تتساءل: ترى أي ريح أتت لتطفىء أضواء المصابيح في وطني , فتغفو في عينيها دمعتان تخفي احزان المظلومين وتحتضن أهدابها دماء المجروحين. الظروف الحالية تجعل الناس يغمضون عيونهم فهي تتركهم في حالة بين الظلمة والنور فيهربون من مواجهة الحقائق رغم أنهم يعيشون في زنزانة واحدة وكلهم أمام حبل مشنقة واحد.

بالنسبة لياسمينة التي كسرت عتمة السماء بشدة نقائها , فهاهي تنظر الى الوجه المبتسم المرسوم على الجدار الكونكريتي الموضوع مقابل شرفة البيت نهاية الشارع, وإضطرت أن تغمض عينيها كالعادة, لترى الرسم بشكل أوضح خاصة وأن إبتسامة هذا الوجه بدأت تتسع أكثر فأكثر حين نزل المطر ليغسل وجه الليل فتحول شيئا فشيئا الى لون أجمل أما هي فنامت بعد إرهاق. رن منبه الهاتف في الساعة السادسة صباحا. تجهزت ياسمينة وأختها ندى للذهاب الى المدرسة والبستهما الوالدة معاطف ثقيلة وسلحتهما بدعاء طويل مصحوب بدموع خائفة من المجهول . هي تعلم أن الوطن الآن يسير على عكازة لأن سهاماً ما اصابت أجزاء منه.

في هذا النهار, وجوه كثيرة تمشي وقد أكلها القهر والألم تسير في وطن يفتقد شبابيكه لكنهم يعيشون ويتعايشون , يلقنون جلودهم الصمود بوجه أعداء الانسانية وبهذا يسدّون أفواه الجروح ويوقفون نزف القروح ، لكن منهم من يكون اصله نقيا في حين أنه يصنع السموم التي تتحول بمرور الأيام الى أشياء اشبه بكلاب سوداء ترافقهم طول العمر فتغدو قلوبهم بلا رحمة او انسانية . هم يظنون ان العراق لا يحبهم لانهم لا يرون اي شيء ملون في هذه الحياة ,  يرون الأسود فقط, يحبون الوان الحداد, حداد القلوب والعيون وأن يجرعوا اخوانهم مرارة الحياة. في هذه اللحظات جرت أشتباكات معتادة  بين جهات مسلحة متعددة فقتل من قتل وجرح الكثير .. نسر كبير حط يأكل قلب أحدهم , القلب الذي كان يؤكل عندما كان ينبض أيضا, وجبات لذيذة للعصافير ذات الأرواح الوردية .. حان موعد إنتهاء اليوم الدراسي, ركض مهند بهلع صوب باب المدرسة  منتظرً خروج أختيه. طلب من ياسمينة وأختها ندى أن تعطياه ذراعيهما وأمسكهما بقوة ثم إنطلق يركض في الشارع كشخص يساعد كفيفين , يسير ويدفع عنهما كل ما يعترضهما, ذلك لأنه طلب من أختيه مسبقا إغماض عيونهما بشدة وسأل أن تعداه بعدم فتحهم.

ياسمينة  لم تغمض عينيها رغم أن الثلوج إلتفت على ركب البقية من الناس,هلعين من المنظر,هي تود لو تدفن عظام تلك الضحايا تحت هذه الثلوج عسى أن تعود الثلوج يوما ما لوضعها الأصلي فتزهر أرواحهم ويحيون من جديد. ياسمينة لم تغمض عينيها عن تلك الإشتباكات والإنفجارات بل سارت بقوة تصرخ وتنادي على الوطن الراحل عنها, تتوارى بين تلك الأشلاء وتود لو تكون ميتة من الأحياء, لو أن روحها معهم الآن مفقودة. بكت على ما يحدث للإنسانية, بكت كإنسانة فقدت أحبابها, كأرملة رحل عنها زوجها, كوالدة حنون فقدت أطفالها, كأخت, صديقة,أو غريبة أحست بالفقدان.

إستمرت بالسير, فإذا بقلبها يمزق خيوط جسدها الضعيف لبشاعة ما رأته من منظر, جن جنونها حين رأت الرجل كبير السن الذي إعتادت رؤيته كل يوم, رأته مرميا على قارعة الطرق تسيل دماءه الطاهرة الندية بسرعة شديدة كما سال نهر عطائه بلا إنقطاع طوال حياته، خبزه ما زال حارا , متبعثرا من بين يديه في الشارع . المؤلم حقا أن لا أحد إقترب منه , لا احد تجرأ أن يجمع هذه النعمة المرمية في الطريق حتى!. الكل مرتعب ويدعي إنشغاله وممارسة يومه بشكل طبيعي، هم لا يدرون أنهم بسلوكهم هذا، يعرون قلوبهم من ثيابها الحقيقية ويجردون ضمائرهم الحية من إنسانيتها بمرور الوقت… تحرك ولد في سن المراهقة بطريقة مفاجأة وكأنه رآى وجوده الآخر ميتا, ركض فأنحنى على جثة شاب مرمية في الطريق وحدق بألم شديد بوجه أخيه الشهيد وبدأ يصرخ على روحه المقتولة غدرا , وهنا إنطلقت رصاصة غادرة صوب هذا الولد, لا أحد يعلم مصدرها, سرقت الإنسانية وأصحابها.

في بداية المساء, بعد النفس الصغير الذي أخذه هؤلاء: الإخوة الثلاثة وأفراد عائلتهم عند وصولهم الى المنزل بسلام, تعالت أصوات الصراخ والبكاء من كل حد وصوب بسبب الإنفجارات المروعة التي حدثت:

أين ياسمينة؟

صرخت الوالدة..أما الوالد فإحتضن طفلتهم الصغيرة أمل, بقوة ودعا الله أن يفرج عنهم كل هذه الظروف البشعة .إختبأ الجميع في قبو المنزل لكونه المكان الأكثر أمنا والأبعد عن تأثير تلك الإنفجارات المروعة..

أما ياسمينة, فلا زالت تتراكض على الزجاج الذي سقط من صدر وطنها الذي أصبح منزوع الشبابيك ..إمتلأت غرفتها بدماء ندية , تجرحت قدماها وإنتشرت الشظايا في بيتها الصغير .. تمنت لو أنها لم تنقذ وأن أحدا لم يعالجها فترحل مع الراحلين… لكنها كبرت وكبرت جروحها معها وغدت شابة عشرينية توزع الرسائل, وتنادي على ما تبقى من إنسانية.

إسراء عبد الهادي الزيدي – بغداد

مشاركة