إعلام الإنغلاق

يلاحظ على الإعلام- ومنذ عقود طويلة- سمة الإنغلاق والإنكفاء على المعلومين السابقين من الأعلام المبرزين ، وعزوفه عن مهنة البحث عن بدلاء طبيعيين لهم موجودين لكنهم مغيبون ، وهذا ماوقف حائلا أمام بروز نخب جديرة بالظهوروفق التوقيت الإبداعي لاالإعلامي ، ولكن فوهة الإعلام الضيقة لاتسمح بظهورهم ، وهذه المشكلة تكاد تكون مزمنة وخطيرة وفاعلة ولاعبة دورا مهما في أحداث جدولة تغييب منظمة لأعلام العصر ، وتخصيص المساحة المتاحة للسابقين فقط ودعوني أوجع قليلا ، فأقترب من كي الداء لاقول على طريقة ” مالكم كيف تحكمون” ،إن تغييب أعلام العصر الذين من حقهم ان يأخذوا مساحتهم الطبيعية في الظهور والتجلي بهذه الطريقة ، يشكل خسارة فادحة ، ويقف حائلا أمام خصوبة الإنجاب الإبداعي ، فالإعلام الشاعري مثلا لاتجده يركز اليوم في قضية الحسين(ع) سوى على الشاعر الكبير المبدع محل فخرنا (عبد الرزاق عبد الواحد) ، أو على الجواهري شاعر العرب الأكبر ، فكأني به يقول بالحصر ، إنما الشاعرُ عبد الرزاق ، أو الجواهري(الخبر المحصور واجب التأخير) ، وما عبد الرزاق والجواهري إلاّ شاعران(وها انت الآن في حصر الحصر ، فإياك من قرصة البلاغة التي يتزاحم على نيلها الكثيرون تيمنا وتتيما)، وإذا مادققت في مصداقية هذه الملاحظة العقيمة ، وجدت أن معظم القنوات ، سوى قليلها تركز على تفعيل هذه الملاحظة المختلة ، وهذا السلوك يعمل على افقارالمشهد الشعري وحرمانه من صعود نخب موازية ، ولا أقول منافسة ؛ لأننا لايمكن أن ناتي بشاعر محدث ونقحمه في منافسة عبثية مع عملاق كالجواهري ، أو عبد الرزاق ، او غيرهما ، وانما لابد أن تكون لدينا غرفة عمليات المنهج التصنيفي ، وتخطيط اعلامي ناجح يستوعب الأسماء الجديدة ، ولايظل منشغلا بذات المعزوفة ، إن في قصائد المحدثين مايرقى الى ميمية عبد الرزاق ، وعينية الجواهري ، ولربما يفوقهما ، إذا مابحثنا بحثا منصفا هدفه تفعيل نظرية الإخصاب الإبداعي ، فالضاد هي أم الشعراء، ومرضعة المبدعين ، وهي لغة التنزيل القرآني ، حباها الله تعالى بملكة الإعجاز ، كما لم يحصل ذلك مع أية لغة أخرى ، يتوخاها المتكلم، فيتعافى لسانه من العي ، وخاطره من الكي ، لذلك هذه اللغة تستغرب هذا السلوك الإعلامي البخيل الذي يختصر أجيال القصيدة اللاحقة بقصيدة واحدة سابقة، ورجال العصر المتعددين ، برجل ، أو رجلين سابقين ، وفي ظني إن من اسباب هذا السلوك ، هو اسقاط نظرية التدني وفشل الإنتاج الإعلامي على الشعراء المحدثين من قبل ضيقي النظرة الذين لايريدون أن يكون لعبد الرزاق والجواهري وغيرهم خلفاء قد يفوقونهم ، ولا اريد بهذ أن احط من منزلة الرجلين الرائدين ، أو ابخسهما حقهما ، فهما محل فخرنا جميعا ، وقدوة ابداعنا ، ومحط احترامنا وإجلالنا ، ولكن الواقع الإبداعي يطالبنا أن نستعين بالبدائل ، كي لاتتوقف المسيرة وتنحصر، فالرائد بغض النظر عن اسمه ودرجة تنصيبه الإبداعي ، يقول : عليكم بالبدائل فإني زائل! .

وفي مجال الإعلام النثري ، قصة ومقالة ، وبحثا ، ورواية ، وتأليفا وتنظيرا ، نجد نفس السلوك يفرض نفسه ، ويعمل على حجز المغيبين خارج أسوار الانتظار ، وهذا يعود اضافة الى ماعللت إلى عدم وجود ذائقة بحثية نقدية منفتحة تحرر نفسها من عبودية التقديس المطلق للسابقين على حساب اللاحقين، وهو ماأدى في كثير من الأحيان الى فرض نظرية التأخر الحضاري الشامل لبلدان عالمنا الثالث ، كون مروجو هذه النظرية يخلطون بين أحقية التألق الإعلامي ، وعبثية التنافس المادي ، فلو خلا هذا الواقع من غائلة (التسلط المتدني)(والتسلط المادي) المسيطرين على المفاصل ، ، وتعامل مع الموهبة كهوية مدعومة تلقائيا لاتنافسيا، ولو حققنا امنية الذات بالعدل الإجتماعي ، لما انحدر المشهد الإبداعي بهذه الطريقة المخجلة الشحيحة ،وأقولها ثانية هذه دعوة للإنصاف لاللإجحاف ، فأعلامنا هم أعلامنا ، وتيجان رؤوسنا ، فالجواهري وعبد الرزاق هم مفخرة ارثنا ، وهم الذين يقولون برزوا لنا من يخلفنا نريد أن نراه ، أو نسمعه ونحن على قيد الحياة (على فرضية الجواهري حي يرزق في عالم برزخ الشعر)، وسعوا مساحتكم الإعلامية لجيل الخلف الصالح ، ولا تظلوا مؤكدين علينا حصرا نحن انطلقنا منذ عقود وعبرت بنا السفينة ، أرونا ماذا تقل سفينتكم الإعلامية من جديد بحث كامرتكم الخفية والمعلنة ، إن الله سبحانه تعالى ألهم الضاد ب28حرفا ، ولكل حرف ثلاث حركات ، أو اربع ، وزادها بسطة من المترادف والمفردات المناظرة ، والبحور والمعاني ، بما يعيب على الإعلام ، ان يصور هذا الخصب بعدسة منكفئة تظهر الحرف الشعري والنثري ، عقيما يتشبث فقط بالأجيال السابقة إن موروثنا الحضاري والملحمي ومنه الحسيني خصب لايستحق منا إفقاره بهذه الطريقة الحسيرة ، فكم من مغيب نفتقده الآن كما افتقدنا أبي العلاء والجاحظ وابا تمام ، وكم مغيب تشهد الشمس بحقه ، ولكننا لانراه بعمى ضلالاتنا ، والعجيب في أمرنا أننا لاحول لنل ولا قوة في انجاب امثال هؤلاء من خلال الرافد الإعلامي ، لكننا نمتلك كل القوة والحول في تغييب امثالهم .. انها دعوة الى أصحاب القنوات كي يجيدوا صناعة خلفاء الاجيال الحقيقيين ، وأن لا تظل الكاميرا فقيرة حالها حال الكتاب والنص والبحث ..ووالخ هذه المسميات التي أفرغت من محتواها وظلت في هذا المدار ، من غير أن تكون هنالك بركة انتظار ، وبعد كل هذا يستثيرني الخاطر الكتابي ، أما سألتني عن إعلام الانفتاح؟!، فأقول له: إقرأ المقال من وجهه الآخر! وإذا كان لابد من الشعر ، أقول: بحاضر بديهيتي:

هي جذوةٌ يزهو بها الإعلامُ

فالخلْفُ عنها غافلٌ وأمامُ!

قد هزت الدنيا فتلكَ قصيدةٌ

في سحر مطلعها هوى النظّامُ

رحيم الشاهر- كربلاء

مشاركة