كتاب دين العقل وفقه الواقع لعبد الحسين شعبان
إعلاء شأن الأمة وتدمير الجهل – جمال الشلبي
استهلال
في الحقيقة، حقاً عندما أسمح ما يناقشه الباحثون، والمثقفون العرب، وحتى رجال السياسة في العالم العربي من مواضيع الفقه، والاصلاح الديني، وطبيعة الدولة، والاسلام دين ودولة، والفتوى، والطائفية ( وكلها مواضيع تشكل حجر أساس في فهرس كتاب الأخ عبد الحسين شعبان) أشعر وكأنني في “العصور الوسطى” التي مرت بها أوروبا قبل أن تصل إلى “العصور الحداثية” الحالية. وهو ما أطلق عليها مفكرنا الكبير عبد الحسين شعبان “الفترة المظلمة”.
عبر هذا الكتاب يريد عبد الحسن شعبان إرسال عدة رسائل ” لمن يهمهم الأمر” شعوبًا، مثقفين، سياسيين، رجال دين وغيرهم. والرسائل هي:
أولاً: بين الخطوط الحمراء والخطوط الزرقاء
يسعى عبد الحسين شعبان في أطروحاته المختلفة أن يقول “لا يوجد خطوط حمراء” في الفكر بمعناه المطلق، سواء كان فكراً سياسياً، أو دينياً، أو ثقافياً وما شابه. وبالتالي، لا بد أن نضع كل المفاهيم والأطروحات على الطاولة لكي تناقش ولمن يريد. فلا يجوز بفقه، وفكر، ولغة عبد الحسين شعبان أن تبقى “التابوهات الثلاث” مستمرة ومعشعشة في واقعنا السياسي والاجتماعي والديني في ظل ثورة التكنولوجيا والإعلام، والذكاء الاصطناعي، ووسائل التواصل الاجتماعي، والحرب الإلكترونية والصواريخ الباليستية، وطائرات بدون طيار، وطائرات سوخي 35.
لذلك نجده مع رفيقه وشقيقه ومناقشه سماحة السيد أحمد الحسني البغدادي يناقش مواضيع معقدة ومتداخلة كل واحد منها يشكل كتاب بذاته مثل: الوعي بالتاريخ والاجتهاد في الإسلام، فكرة اللغة ولغة الفكر، الدين بين المقدّس والمدنّس، والفتوى هل هي ضرورية؟، الشيعيّة السياسية – “البيان” و”البيت”.. وغيرها.
ثانياً: إعلاء شأن العقل وتدمير “الجهل المقدس”
يسخر عبد الحسين شعبان وزميله من منهجية التفكير السائدة في المجتمعات العربية، وما يتبع ذلك من سلوكيات تبعد الإنسان العربي الحديث عن أهم “أداة” قابلة وقادرة على أن تقوده إلى الحداثة والمستقبل.
لذلك، يحذرنا مرتين:
1- من” عبثية العقل” التي ستوصلنا إلى:
الركود والرتابة والنمطيّة والشكلانيّة في حياتنا، والتي تفرش جناحيها على نمط تفكيرنا لتجرّنا إلى الماضي بدلًا من التطلّع إلى المستقبل.
2- يحذرنا من “الجهل المقدس” الذي لا يقودنا إلى التخلف عن ركب الحضارة والبشرية فقط، بل وأيضاً يصنع فينا حالة من ” الاغتراب ” القاتل لمجتمعاتنا وواقعنا الديني. يقول عبد الحسين شعبان في هذا الصدد:
“وإذا كان هذا الوضع الاغترابي الذي تواجهه مجتمعاتنا بشكل عام، فإن الوسط الديني يعيش مثل هذا الواقع بدرجة أكبر وعلى نحو أشدّ وأكثر حدّة واستقطابًا، سواء من داخله أم من خارجه بما يفرضه من سور حول نفسه، في حين تتفاعل عوامل التغيير المذهلة في كل شيء”.
ثالثاً: دعوة للحوار الديني والديني السياسي والسياسي السياسي
لإدراكه بعقلية المجتمعات العربية والاسلامية وفهمه لهما، والصور السلبية التي يختزنها البعض تجاه الأنا والآخر، يحاول عبد الحسين شعبان أن يشجعنا قليلاً بلعب دور ” المغامر الأول” و” المجرب الأول” و”النموذج الأول” بأن يحاور الآخر بالمعني الفكري وليس الديني؛ أي ذاك الشخص الذي لديه تصورات مختلفة عن “الأنا” عن الحياة والموت والدين والإنسان والأخر و الأنا والغيب وعن الله أيضاً.
فهل يعقل أن تمر الحروب الأهلية التي عرفتها دولنا في لبنان، والسودان، والعراق، وليبيا.. وغيرها في المستقبل دون إدراك أهمية الحوار حتى مع المختلف تماماً معك بالفكر، والدين (والطائفة والطائفية) كما يقول عبد الحسين شعبان؟
ويحيلنا عبد الحسين شعبان المثقف الواسع المعرفة والاطلاع والخبرة المعرفية إلى دستويفسكي الروائي الروسي المشهور يبدو أنه غير متأثر بقرارات بعض الدول الغربية في محاربة ومحاصرة ومعاقبة روسيا ومفكريها وأدباءها كما فعلت بعض الدول في إيطاليا وأميركا وغيرها بسبب الأزمة الروسية الأكرانية الذي رأى “أن الحوار هو كشف لـ “أعماق القلب الإنساني” وسبر لأغوار النفس البشريّة بدواخلها وإدراكها والمحيط بها، ولا يمكن فهم الإنسان والإفصاح عن كنهه إلّا بالحوار والتواصل وإدامة العلاقة مع الآخر، بما يقود إلى معرفة الكوامن والدوافع والمشتركات والمختلفات”.
رابعاً: الحرية والنقد
اذا ما وضعنا العقل كبوصلة طريق في تفكيرنا وتوجهنا ورؤانا، سنكون قد حللنا 50% من مشاكلنا، ويبقى “النصف الثاني” أو ” النصف الآخر” مرتبط بالحريات التي تسمح بولادة النقد والنقد المضاد، والتحليل المعاكس، ألا نعيش في القرن الـ 21 وفي ظل العولمة وثورة المعلومات بحيث أصبح كل شيء قابل للتفاوض والنقاش والمراجعة وربما الانكار والكفر بالمسلمات والحقائق القديمة؟
هذه الرؤية نجدها لدى شعبان قائلاً:
” إذا ما تجاوزنا عصر الظلمات، فلا خوف من نقد عالِمِ دين ولا رهبة له، فهو بشرٌ مثلك مثله، وليكن الأمر خارج نظرة القداسة المسبقة، لاسيّما ونحن في عصر العولمة والأسئلة المفتوحة في الفيزياء والذرّة والكيمياء وعلم الجينات والفضاء والإليكترونيات والبيئة وعلوم الحرب ووسائل التواصل الاجتماعي في ظلّ الطور الرابع من الثورة الصناعيّة”.
ويحيلنا شعبان أيضاً إلى ثلاث عناصر لا بدّ من اجتماعها لتطوّرنا حسب الشاعر البريطاني ت.س. إليوت كما يقول، وهي:
- المعلومة
- المعرفة
- الحكمة
وان اتكأ شعبان على كونفوشيوس ليفضل الحكمة لأنها كما يقول ” تعني معرفة الناس” في حين تعني ” الفضيلة حب الناس”. وربما قد غاب عن مفكرنا وحكيمنا وفيلسوفنا الظريف { وهو من استخدم مفهوم الدين وخفة الدم والظرافة} بأن القرآن الكريم حسم الأمر في هذا الموضوع في سورة البقرة (الآية 269 ) بقوله ” يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ? وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ? وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ”.
خامساً: ما هو الحل؟
من الواضح بأن عبد الحسين – وأنا مثله بالمناسبة – لا نؤمن بـ “الثورة الاصلاحية” بل نؤمم بـ “الاصلاح الثوري” لواقع عربي يتداخل فيه “المقدّس مع المدنّس” و”الحرام والحلال الديني” مع “قوانين وتعليمات” الدولة الحديثة. ولذلك لا يتردد شعبان من المطالبة بـ “عملية تغيير” تأتي عبر:
“تراكم وتطوّر تدرّجي وصولًا إلى ثورة حقيقيّة ديكارتيه بالمعنى الاصطلاحي الذي حدث في الفلسفة الغربيّة لتزيل الكثير من الترّهات التي علقت بالفكر العربي والفقه الإسلامي على مدى قرون من السبات والسكونيّة والجمود والتخلّف التي عانت منها مجتمعاتنا”.
باختصار، “ما نحتاج إليه اليوم، كما يقول د. شعبان، هو إخضاع ما لدينا من سلطات ومؤسسات ولغات ومعارف وموروثات وأخلاقيات وقوانين وطرائق تديّن وإيمانيات، “بعضها” لا علاقة له بالدين، للنقد حتى وإن كان خروجًا على المسلّمات واليقينيات، طالما هدفه البحث عن الحقيقة”؛ وهذا عين العقل حقاً، وإلّا سنغوص في أمواج الماضي البعيدة، ولن نصل إلى اي شاطئ ينقذ المركب وأهله الذين تتلاطم بهم رياح عاتية في محيط اطلسي وهادي عميقة.
الدرس الذي يريد ان يذكرنا به شعبان من نقاش الحكمة والعقل والدين هو ان “الحكمة تأتي مع العقل الذي هو أساس الدين، إذْ لا دين خارج العقل، فالأخير هو الشرع الأعلى للإنسان، وبالعقل يعالج الإنسان شؤونه استنادًا إلى علوم عصره، وكلّما تمكّن من استيعابها استطاع أن يتساوق مع متطلبات زمنه”
وهذا برأيي كلام مهم وضروري في اعلاء شأن خطاباتنا الدينية والاجتماعية والسياسية؛ وهذه دعوة جداً مهمة وتحتاج أن تصل كرسالة لأصحاب العلاقة.
ملاحظة أخيرة ولكنها مهمة
يصف شعبان تجربته الحوارية مع سماحة احمد الحسني بأنها:
” مناظرات فيها متعة بقدر ما فيها فائدة، لأنها تتّسم بالصراحة والوضوح وهدفها البحث عن الحقيقة، وليس هنالك غالب أو مغلوب، ولا يريد أحد أن يسجّل على الآخر نقاطًا للفوز، بقدر الرغبة في تبادل الآراء ووجهات النظر وإعادة قراءة لبعض المسلمات واليقينيات والقناعات والأطروحات بإخضاعها للنقد ووضعها تحت مجهر التفكير بما ينسجم مع روح العصر “فالزمان مكان سائل والمكان زمان متجمّد” حسب محي الدين بن عربي، وليس ذلك سوى إعمال للعقل وإخضاع كل ما سواه إليه”.
ولكن الحقيقة النقدية تثبت بأن سماحة الشيخ احمد الحسني ليس “رجلًا عاديًا” بل هو “هاشمي” أقول ذلك وأنا أعرف عبد الحسين شعبان منذ عام 2005 عندما التقيته في بيروت اثناء ندوة نظمتها مؤسسة ألمانية ايديناور اعتقد ، وكنا نسعى الى “بناء تيار علماني” عربي تنويري { ولم يتم} ، وبعدها دعوته للمشاركة في مؤتمر حول ” رسالة عمان” عام 2006 بصفتي رئيس اللجنة التحضيرية، وقبل 8 أشهر؛ أي في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2021 تشرفت بدعوته للمشاركة في مؤتمر الجامعة الهاشمية بمناسبة مئوية الدولة الأردنية بعنوان” صورة الأردن في العالم في 100 عام”، فاختار عنوانًا أثيرًا هو ” الملك حسين: الاستثناء في الاستثناء”، فضلاً عن معرفتي المؤكدة بأنه قريب وقريب جداً من سمو الأمير الحسن، الأمير العالم والمثقف؛ وهذا يعني لديه محبّة خاصة للهاشميين في الوعي واللاوعي.
ومع ذلك، قبل أن أختم أودّ أن أقدّم بعض المعلومات والأفكار المتاحة للجميع في النت ووسائل الاتصال الاجتماعي عن هذا الرجل المهم والمعتّق” سماحة السيد أحمد الحسني البغدادي” لكي تتكامل الصورة عن الكتاب وعن مؤلفّه عبد الحسين شعبان ومحاوره:
1- البعد السياسي في مرجعية المرجعية الدينية
بالعودة إلى سيرة المتحاور معه؛ أي سماحة الشيخ أحمد الحسني البغدادي نجد أن هذا الشخص مولود في النجف عام 1945? مع نهاية الحرب العالمية الثانية. والأهم من ذلك أن هذا الشخص الذي تحاور معه عبد الحسين شبعان ينتمى إلى أسرة «آل الحسني البغدادي» ? وهي أسرة أدبية علمية مشهورة منذ قرون عديدة، لها ثقلها السياسي من حيث تمسكها بالثوابت الوطنية والإسلامية؛ ومنها ينحدر الشريف أبو نمي أمير الحجاز المتوفى سنة 721هـ، جد الأسرة الحسنية التي تقطن العراق، وجدّ الأسرة الهاشمية التي حكمت الحجاز والعراق، ولا زالت تحكم في الأردن، فهل هذه صدفة أن يحاور ويناقش عبد الحسين شعبان هذه الشخصية المهمة ليس فقط دينياً، بل وايضاً سياسيًا وفكريًا { لا أعتقد أن لدى عبد الحسين شعبان صدفًا فكريةً وثقافيةً{ .
2- يسارية الفقيه
– نال درجة الاجتهاد في فقه الشريعة الإسلامية الخاتمة ولم يتجاوز العقد الثالث من عمره.
– وقد نَّوه بشخصيته اليسارية الإسلامية، وأشاد بها طائفة كبيرة من العلماء والمؤرخين والمفكرين الإسلاميين والليبراليين، نكتفي بواحدة منها تفضَّل بها المرجع الشيخ علي الغروي.
– في ريعان شبابه، قرأ فكر الثقافات والأطروحات الجديدة وأدبيات الأحزاب والحركات العربية والإسلامية والعالمية، وتاريخ الثورات والانتفاضات الشعبية التي تناهض الاستعمار والإقطاع والرأسمالية وتقاومها.
3- مواقفه السياسية
- لقد أيّد رؤى وتصورات مواقف الإمام الخميني منذ ستينيات القرن الماضي.
- حين اندلعت الحرب العراقية ــ الإيرانية عام 1980? أعلن انه لن يحضر اجتماعا دينينًا، أو مؤتمرًا إسلامياً، ولن يجري مقابلة مرئية، أو مسموعة، أو مقروءة، ضد الجمهورية الإسلامية وقائدها الرمز.
- تغيرت نظرة سماحته إلى مسيرة «الثورة الإسلامية» بالتدريج بعد صعود الإمام القائد المؤسس رضوان الله عليه إلى الملأ الأعلى فانتهج موقف الصمت منها خوفا من مؤامرات الاستكبار والكفر العالمي التي تحاول تقويض هذه «الدولة الثورية».
- في ربيع 2003م بعد احتلال أمريكا العراق اتخذ سماحته موقفًا ناقدًا من القيادة السياسية في إيران لأنه رآها تؤدي دوراً انتقائياً، فهي تساند المقاومة والمواجهة في فلسطين ولبنان وتدخل في تحالف استراتيجي مع سوريا للتصدي لأمريكا و«إسرائيل» وتدعم صمودها في وجه مخططاتهما، لكنها تتّخذ موقفاً يمالئ أمريكا في العراق فقد دعمت العملية السياسية، وكانت أول المعترفين بمجلس الحكم الانتقالي .
- عارض بشدة الاحتلال الأمريكي للعراق وحارب السياسات الأمريكية.
- ينتقد بشدة المراجع المعاصرين ويتهم مؤسساتهم بهدر اموال الشعب.
{ كنت في النجف الأشراف وكربلاء وكان لي تجربة مع صالح الحكيم . وهذا درس مهم لنا جميعاً}
إذًا، الكتاب لا يمثل معلومات وأطروحات وأفكار ورؤى ضرورية للإنسان، والمجتمع والدولة والأمة فقط، بل وأيضاً يمثل شخصيات فكرية وسياسية وأكاديمية ودينية عميقة الجذور في التاريخ، نبيلة المواقف نحو الأمة ومستقبلها، وسامية الرؤى نحو الأنا والأخر بكل تجلياته الإنسانية والفكرية والعرقية والدينية.. ولكل هذا ترفع القبعات وتفتح الكتب وتقرأ وأولها هذا الكتاب الرائع.