إسلاميون وقوميون
إدريس جنداري
جاء في لسان العرب لابن منظور الشعوبي، الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلا على غيرهم. وجاء في الموسوعة البريطانية الشعوبية كل اتجاه مناوئ للعروبة anti-arabisme. وقد سارت جميع التعاريف في نفس هذا الاتجاه الدلالي، باعتبار الشعوبية، قد ظهرت في البداية كثورة وتمرد على الطابع العربي للإسلام.
وحتى نكون أقرب إلى الموضوعية يجب أن نقر، أن الشعوبية ظهرت في أجواء من التوتر بين المكون العربي، وبين ما أطلق عليه الموالي ، باعتبارهم المسلمون من غير العرب، هؤلاء الذين تم تهميشهم خلال المرحلة الأموية، التي عرفت عودة النزعة القبلية الضيقة، كنزعة حاربها الإسلام حينما ساوى بين جميع المسلمين. لكن ما يجب آن نقر به أيضا، هو أن هذه النزعة القبلية الضيقة لم تكن موجهة ضد الموالي من غير العرب فقط، بل تجاوزتهم إلى العرب من غير قبيلة قريش، بل وأكثر من ذلك، ضاقت الدائرة أكثر وتم تهميش الهاشميين رغم انتمائهم القرشي، ورغم انتمائهم لسلالة الرسول صلعهم .
غير أن استيلاء الأمويين على السلطة، وتحويل نظام الحكم إلى ملك متوارث، ساهم أكثر في تأليب الشعوب، قريبة العهد بالإسلام على العرب، وقد كان الفرس على قائمة هذه الشعوب حيث لم يخفوا، منذ البداية، نزعتهم للمشاركة في نظام الحكم والاستفادة من الكعكة. لذلك، وجدوا في الدعوة الجديدة، التي تعارض نظام الحكم الأموي القائم، فرصة ذهبية لتشكيل تصور سياسي بديل، يمكنهم من الانخراط في نظام حكم بديل عملوا على بلورته، فيما بعد، عبر تشكيل معارضة قوية. ولعل ما يؤكده التاريخ هو أن العباسيين، في صراعهم ضد بني أمية، استغلوا الجنس الفارسي، مستثمرين في ذلك تلك الحرب الشرسة التي شنها الأمويون على الأجناس غير العربية في الدولة الإسلامية، وذلك لتحقيق حلم الانتصار بعد صراعات دامية دارت رحاها بين الطرفين.
ولذلك، نجد أحمد أمين يذهب في اتجاه تأكيد هذه العلاقة، بين التشيع والشعوبية بقوله وأما التشيع فقد كان عش الشعوبية الذي يأوون إليه وستارهم الذي يتسترون به. وهذا الاتجاه هو ما يؤكده المفكر الإيراني»الشيعي علي شريعتي في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي وبغية ترسيخ أفكارها وأهدافها في ضمائر الناس وعجنها مع عقائدهم وإيمانهم، عمدت الصفوية إلى إضفاء طابع ديني على عناصر حركتها وجرها إلى داخل بيت النبي، إمعاناً في التضليل لتتمخض عن ذلك المسعى حركة شعوبية شيعية مستغلة التشيع، لكي تضفي على الشعوبية طابعا روحيا ساخنا، ومسحة قداسة دينية، ولم يكن ذلك الهدف الذكي متيسراً إلا عبر تحويل الدين الإسلامي وشخصية محمد عليه الصلاة والسلام وعلي رضي الله عنه إلى مذهب عنصري وشخصيات فاشية، تؤمن بأفضلية التراب والدم الإيراني والفارسي منه على وجه الخصوص .
لكن، ورغم ارتباط الشعوبية بالفرس، فإنها لم تقتصر عليهم وحدهم، بل تجاوزتهم إلى الأتراك كذلك، إبان المرحلة العثمانية، حيث استغلوا سيطرتهم على معظم أرجاء العالم الإسلامي، وحاولوا نقل مركز الاستقطاب الحضاري نحو البعد التركي، مضحين بذلك، بقرون من الامتداد الحضاري، حيث ارتبطت العروبة بالإسلام دائما.
ما بين الشعوبية القديمة والشعوبية الجديدة
جاء في كتاب للمفكر الفرنسي فرانسوا بورغا ، أن العروبة مرت من مرحلة التمسك بها دون قيد أو شرط إلى رفضها الصريح من جانب تيار الإسلام السياسي. وهذا الرأي الأكاديمي يؤكد الواقع الحقيقي، في علاقة الإسلام بالعروبة في المشروع السياسي للحركة الإسلامية، خصوصا وأن هذا المشروع ينطلق من رصيد تاريخي، يبدأ مع الجماعة الإسلامية، التي أسسها أبو الأعلى المودودي في الهند، وقد تم تأكيد هذا الطابع، بعد نجاح الثورة الخمينية في إيران. وسواء مع المودودي أو مع الخميني، فقد كان التوجه واضحا لفصل الإسلام عن امتداده الحضاري العربي، بادعاء أن الإسلام دين وأن العروبة قومية»عرق، لكن الحقيقة التي يعمل هؤلاء على محاولة مواراتها هي انطلاقهم، أنفسهم، من زاوية عرقية ضيقة، تسعى إلى تزوير التاريخ، حينما تنتقل بالعروبة من تشكل حضاري ساهمت في بنائه قوميات وأعراق مختلفة، إلى تشكل قومي»عرقي ضيق، في ارتباط بالمرحلة ما قبل الإسلامية، قبل أن ترتبط خلال القرن السابع الميلادي بالإسلام، وتنفصل عن بعدها العرقي.
إن هذا المسار هو الذي تحكم، في الأخير، في تشكيل اتجاه الحركة الإسلامية في العالم العربي، وقد ساعد على ذلك، أكثر، تنامي المد القومي، الذي اتخذ بعدا علمانويا، حاول تهميش البعد الديني» الإسلامي في الثقافة العربية. كل هذه العوامل ساعدت، في الأخير، على خلق نوع من التوتر بين العروبة والإسلام في مشروع الحركة الإسلامية، حيث حدث نوع من الخلط بين العروبة كبعد ثقافي وحضاري، وبين الإيديولوجية القومية»البعثية، التي استثمرت العروبة، كرأسمال سياسي للوصول إلى الحكم، وفرض مشروعها في الهيمنة على الشعوب العربية، باعتماد شعارات تروج للأصالة العربية.
يحاول شيخ جماعة العدل والإحسان في المغرب أن يقيم توترا وهميا بين العروبة والإسلام، محاولا ربط محاولته بالتيار القومي، وهذه عملية تبريرية لا جدوى منها إن العروبة في محنتها التاريخية الحاضرة، وهي محنة المسلمين، تتشبث باللغة العربية كما يتشبث الغريق بيد منقذه، فعليها معولهم وإليها مرجعهم من كل خيبة، بها ومنها النهضة، وبها الحياة والبطولة، لسر عظيم يقدرونه لها، كما نؤمن نحن بالله عز وجل وتأييده . قد نستغرب لهذه المقارنة التي يقيمها الشيخ بين العربية من جهة والله من جهة أخرى، لكن الأمر يتضح أكثر، حينما نفهم أن الشيخ يقود حربا دونكشوطية ضد العروبة، محاولا فصل الإسلام عنها، ولكي يغطي على موقفه، فهو يربط بشكل أوتوماتيكي بين العروبة، كلغة وحضارة، وبين العروبة كقومية ضيقة، وهذا لا يستقيم، إلا من منظور إيديولوجي ضيق، هو الذي قاد الشيخ في استنتاجه، كما قاد تيار الحركة الإسلامية.
وكنتيجة لهذا الخلط، فقد حاولت تيارات الحركة الإسلامية في العالم العربي، خلق نوع من الشعوبية الجديدة، وخصوصا في بعض الدول التي تعرف تنوعا عرقيا، حيث عملت على ترويج بعض الأفكار المغلوطة، حول انفصال الإسلام عن العروبة. ولعل آخر حدث يمكن أن نستدل به، على هذا التشويه المقصود، هو ما وقع في اجتماع وزراء خارجية دول المغرب العربي، باعتباره أول اجتماع يضم وزراء يمثلون الحركة الإسلامية المغرب ــ تونس ، وخلال هذا الاجتماع استغل الوزير المغربي الإسلامي فرصة اللقاء ليطرح على الطاولة مقترحا في غاية الغرابة وبشكل متسرع للغاية، وذلك عبر اقتراح استبدال اتحاد المغرب العربي بـ الاتحاد المغاربي ، وهذا المقترح لا يعبر سوى عن رغبة في اغتنام أول فرصة، بهدف تغيير المسار، أو بالأحرى رد الدين للتيار القومي»البعثي، وكأن الانتماء للعروبة يعني الانتماء للمشروع القومي»البعثي.
إن تركيزنا على موقف الحركة الإسلامية في المغرب، من علاقة الإسلام بالعروبة، لا يعني أن موقف باقي التيارات الإسلامية في العالم العربي كان مختلفا، بل يمكن أن نقرر، أن هناك موقف واحد هو الذي تحكم في معظم، إن لم نقل كل، تيارات الحركة الإسلامية، وهو موقف لا يستجيب للتوازن والوضوح الفكري بل تحكمت فيه، إلى ابعد الحدود، مصالح سياسية ضيقة، في صراع حركات الإسلام السياسي مع التيار القومي، سواء في مصر الناصرية أو في سوريا البعث، وهو صراع دموي وعنيف، أودى بالكثير من رموز الحركة الإسلامية، وهذا الصراع ذو بعد سياسي»إيديولوجي، لا دخل للعروبة كامتداد حضاري فيه. لذلك، نرجو أن تتجاوز الحركة الإسلامية موقف رد الفعل هذا، وأن تسعى إلى استعادة التوازن الفكري المطلوب، عبر إعادة تقييم العلاقة بين الإسلام والعروبة، وذلك من منظور أن العروبة امتداد حضاري، ساهمت في بنائه قوميات وعرقيات مختلفة، وليست انتماء قوميا»عرقيا ضيقا، كما صاغه التيار القومي»البعثي المؤدلج.
ـ كاتب وباحث أكاديمي
/4/2012 Issue 4184 – Date 26 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4184 التاريخ 26»4»2012
AZP07