إزدراء الشخصية الوطنية
معتصم السنوي
أصبحنا وأمسينا كل يوم نقرأ ونسمع ونشاهد ، ما يزري بالشخصية الوطنية ويزدريها ، أعتدنا أن نقرأ – باعتزاز – شهادات الأجانب في وطننا ، وكأننا نحتاج الأجانب حتى نعرف قيمة الوطن ، أصبحت الدعوة إلى نظافة الشوارع أرضاء للسياح وجلباً لإعاجبهم . وكأن النظافة ليست من متطلبات حياتنا ، وأصبح المطعم أو المقهى يعلن عن امتيازه أو امتياز خدمته بإعلان أنه ” سياحي” كأننا لا نستحق ، وأصبحنا وأمسينا نقرأ لأناس يدعون إلى ” مكافحة التسول ” لأن المتسولين ” يزعجون الأجانب ” ويحطون من قدرنا في عيونهم ، وكأن التسول ليس حطاً من كرامة الإنسان، وليس من أعراض عجز المجتمع عن مواجهة مشاكله وحلها في أوطان تجري انهار النفط من تحت أقدامٍ حافية وتعُدْ من بلدان الأسرة النفطية العالمية !! وأصبحنا وأمسينا نقرأ ونسمع من يدعمون في السر والعلن إلى تأجير أجزاء من الوطن للأجانب لخدمة الاستثمارات السياحية أو محطات عسكرية وقواعد لاستخدامها لأغراض قريبة وبعيدة المدى تصب في تسريع مشروع الشرق الأوسط الكبير حلاً لمشاكله !! ونرى سياسات ترعى المواطن الذي هاجر الوطن ووضع ملكاته وقدراته في خدمة بلد آخر وشعب آخر . أكثر من رعايتها المواطن المقيم الذي حمل ويحمل على كاهله مشاكل الوطن ويسهم على قدر جهده في محاولات حلها.. بل ولهجة الفخر والتباهي التي تطالعنا لدى كل بنأ عن نبوغ عالم من ” أصل عربي ” ويفوتنا أن هذا العالم النابغة قد هاجر من هذا البلد وأصبح مواطناً لبلد آخر وأن نبوغه يخدم هذا البلد الآخر . وكأننا نتباهى بالسلالة، كأننا فصيلة من الخيول . وأصبح يغيب عنا أن الأوطان التي تحترم شخصيتها الوطنية وتعتز بها وترعى صالحها ، عندما ينبغ واحد من أبنائها بعد أن هاجر . بقدر ما نتجنب أن تلقي عليه مسؤولية هجرته . تشغيل نفسها ببحث الأسباب التي أدت إلى الهجرة . كي توجه جهدها لاستعادته، ولا تتباهى به حيث هو !! على أن حملة إزدراء الشخصية الوطنية لا تتبدى في هذه المظاهر وحدها ، فهذه من نتائج الحملة وآثارها ، أما الحملة الحقيقية ذاتها، فقد رأيناها ونراها ، في هجوم ضار على العرب ووصفهم بالبداوة بل والهمجية ، وفي وصف الإسلام بالتخلف رغم أن العروبة والإسلام مع المسيحية الشرقية هي العمود الفقري لتاريخنا وحضارتنا . يتصل بازدراء الشخصية الوطنية ما هو منتشر من معالجات لقضية السلام الذي انعقد بين بعض الدول العربية وبين إسرائيل ، وليس هذا المقال بصدد مناقشة هذا السلام ، ليس بصدد الحكم عليه بمعايير الحق والباطل ، ولا الوطنية والخيانة، بل ولا حتى الصواب والخطأ . إنما هذا المقال بصدد كيفية التعامل معه ، على المستوى الفكري ، وبعدّه حقيقة قائمة نعيش معها. شهدنا في تبرير هذا السلام جهداً ينسب نفسه إلى الفكر ، يعلى من شأن الإسرائيليين واليهود على شأننا ، ويدعونا إلى التسليم بتفوقهم وتخلفنا ويحضنا على التماثل معهم. إن الأمم منذ عرف التاريخ تتقابل وتتسالم . لكنها في الحرب تتقابل كي تؤكد مالها في مواجهة للعدو ، وعندما تتسالم فإنها تفعل هذا – أيضاً – لتأكيد مالها والحفاظ عليه وتمييزه عمّا قد يكون لهذا الذي كان قبل السلم عدوا. السلام صفقة سياسية ، لكنها ليست صفقة على حساب القوام والقيمة والشخصية والحضارة ، لكننا قرأنا أننا نحن المسؤولون عن حالة العداء ، وأن نقصاً في نضجنا وتأثير ” بداوة العرب ” علينا هي التي جعلتنا نحارب إسرائيل ، وكأنها لم تكن هي البادئة بالعداء منذ النشأة بل وبمجرد واقعة النشأة ذاتها، وقرأنا أن حروبنا معها كانت أخطاء . ولم يأبه أحد من الذين كتبوا إلى أن قولهم يهين دماء الشهداء ، ويحول الشهداء إلى ضحايا. ولعل من أخطر ما نراه من معالم ازدراء الشخصية الوطنية وضرب مقوماتها هو ما يجري في ميدان التعليم ، وخطورته أنه يؤثر أخبث الأثر على مستقبل الوطن. فباسم الحرية تجري هجرة واسعة النطاق من نظام التعليم الوطني إلى نظم تعليم غربية وأجنبية تحت مختلف التسميات ، وأكثرها شيوعاً ما يسمى ” مدارس اللغات ” وإذا كانت بعض البلدان العربية في الأربعينيات من القرن العشرين قد عانت من تغلغل ” الأجانب المتعربين ” في نسيج حياتها ، في الاقتصاد والفكر والإعلام. فإن ما يتهيأ الآن عن طريق ما يحدث في مجال التعليم أكثر خبثاً وأشد خطراً ، لأنه يهيئ لنا نخبة جديدة من المتعلمين الذين سوف يصبحون ” متغربين ” ( من الغربة وليس من الغرب) . فالتعليم هو الذي يصوغ الفكر والوجدان. وهذا التعليم المتسع الانتشار يهيئ نخبة متعلمة تفكر بلغات أخرى ويتشكل لها وجدان مستعار من ثقافات أخرى وحضارات مغايرة والثقافات والحضارات هي في النهاية مصالح ، لأنها وعاء المصالح ولأنها العين التي ترى المصالح. وقد وصل هذا الوباء من الخطر الحد الذي يجعل حتى العارفين بخطره يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى هذه المدارس , مسايرة للأعراف الاجتماعية التي تسود وتعللاً بتدهور مستوى التعليم الوطني. في جيل هذا الكتاب ، الجيل الذي يعيش الآن العقد السادس من عمره ، وربما بعده بجيل أو جيلين هي التي شكلت وجداننا الوطني ، كما أنها كانت البوتقة التي تصهر الحد الضروري من الإدراك الجماعي لمصالح الوطن . ففي هذه المدرسة كان التلاميذ يتجاورون ويتصادقون عبر خطوط الفصل الطبقية ، كان أبناء الباشوات والأقطاعيين والوزراء تضمهم مدرسة واحدة وفصل واحد، وربما يتقاسم اثنان المقعد المزدوج ذاته وكان الواحد منا يدرك خطوط الفصل الطبقي في البيت والشارع ، لكنه كان يتشارك مع ” خصومه الطبقيين ” وجدانا وطنياً واحداً تشكله المدرسة . ولم تكن تشذ عن هذا سوى أقلية ضئيلة من الأجانب المتعربين والمتشبهين بهم . أما في ظل الموجة التي تسود ، فإنه حتى من يعرفون منا الخطر ويدركونه يشاركون في ممارسته تحت ضغط تدهور التعليم الوطني، بدلاً من أن يعبئوا جهدهم لإنقاذ هذا التعليم. في بريطانيا ، وفي ظل حكم المحافظين، والذين يعتبرون أنفسهم ” حراس الحرية ” إلى أقصى حد ، جرى على مدى شهور جدل حول حرية الآباء في اختيار مدارس أبنائهم” . وكان المقصود هو اختيار هذه المدرسة أو تلك ضمن نظام واحد موحد للتعليم الوطني. وكانت الحكومة التي نادت بهذه الحرية تستجيب لنزعة بعض المتغطرسين البريطانيين . الذين لا يريدون لأبنائهم أن يختلطوا في المدرسة بأبناء الأقليات المهاجرة. لكن الحكومة هزمت لأن الرأي الذي غلب حذر من أخطار هذه الحرية على قابلية هذه الأقليات المهاجرة للأندماج في المجتمع. أما عندنا ، فيسود التسليم بـ ” حرية ” اختيار جنسية التعليم . حتى أصبحنا نستطيع أن نرى بالعين المجردة ، شعبنا ذا وجدانين ، صفوة وجدانها أجنبي ، وعامة ما زال وجدانها وطنياً ، إنما يفتقر إلى التعليم والتثقيف . هذه هي بعض أخطار هذه ” الحرية ” التي كانت وما زالت تسود حياتنا يوماً بعد يوم . وهي ” حرية ” سامة ومسمومة ، وإذا كان الصواب أن يكون الصراع الفكري هو وسيلة المجتمع لحل خلافاته ، فإن الحرب الفكرية ليست حراماً ، وان كانت كرهاً للحريصين على الحرية لكن الحرب الفكرية على هذه الحرية ، جديرة بأن تكون أمر اليوم وأمر الغد ، لأنها أمر الوطن.