إرادات تنتصر عسكرياً على أنقاض الإرث الانساني
مدن مثقوبة الذاكرة بأشلاء الحروب
عدنان أبو زيد
اثارة الحديث عن هول التدمير الذي تسببه الحروب، يطرح على الدوام سؤالا اخلاقيا، اذا ما غفل القواعد الانسانية التي يسببها مقتل الابرياء، فثمة من يحرص على التأكيد على ان الارواح التي تزهق في مدن الحروب هي اغلي ثمنا وأفدح خسارة من أي صرح تاريخي تنال منه نيران المعارك في اشارة الى ما يحدث في حلب هذه الايام، وما شهده التاريخ عبر جولات الحروب التي عزت العالم منذ القدم.
وهذه الاشارة مهمة لتفسير سلوكيات ما يفعله المتقاتلين من معارضين وقوات حكومية عن طريق الاحتماء بالصروح التاريخية بغية تحقيق النصر على الطرف الاخر.
القواعد الإنسانية
ان من البديهي القول، ان مقتل آلاف الضحايا في الحروب، لا يمنع الحديث عن تدمير الكنوز التاريخية، لتصبح المعادلة متزاوجة بين القواعد الإنسانية التي يلح البعض على عدم تجاهلها وبين القيمة المادية التي يخسرها الارث الانساني.
تدمير التاريخ في سوريا
كانت بداية تدمير التاريخ في سوريا مع الشروع بالاقتتال بين معارضين وقوات حكومية، حين تعرض متحف حماة الوطني للسرقة، واختفاء تمثال صغير للإله بعل مكسو بالذهب من قلب المتحف يعود إلى القرن السادس للميلاد.
ونشرت وكالة رويترز عن تهديد المعارك بين الجيش السوري ومقاتلي المعارضة للآثار التاريخية الثمينة لمدينة حلب في شمال سوريا، مع تصاعد وتيرة أعمال العنف في الجزء القديم من المدينة المدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة يونسكو منذ عام 1986. ونقل مراسل رويترز مشاهد احتراق مئات المتاجر في سوق حلب التاريخي.شاهد وفي تغريدة له على تويتر تابعتها الزمان يصف الكاتب السوري سعد عظمة مشهد تدمير حلب بالقول ان افراد الجماعات المسلحة والقوات الحكومية يتناوبان تدمير المواقع الاثرية في المدينة.
وتابع مدونا اذا استمر الامر على هذا المنوال فسيخسر العالم التاريخ .
وأضاف العالم كله يتحمل مسؤولية ايقاف المهزلة .
وتحتفظ حلب بحسب رويترز ب تراث تاريخي استثنائي يُبرِز الثقافات المتنوعة للشعوب التي استقرت فيها على مدى الآلاف من السنين .
وسيلة قذرة
وعلى رغم ان يونسكو اجهرت بالنداء الى جميع أطراف النزاع في سوريا بالتوقف عن تدمير تاريخ المدينة الا ان احدا لم يسمع.
يقول علي حسن على صفحته في فيس بوك امر طبيعي ان يتجاهل المتقاتلون النداء فهم يتبعون اقذر الوسائل لتحقيق النصر.
ولا يستثني حسن أي من الاطراف المتصارعة مسؤولية الخراب الذي يحصل.
وفي مدينة حماه اقتحم مسلحون متحف أفاميا ليسرقوا لوحات ذات قيمة عالية في وضح النهار.
يقول روبرت فيسك مراسل وكالة رويترز أن آثار سوريا التاريخية التي لا تقدر بثمن ضحية عمليات النهب بسبب الحرب .
ومن هذه الكنوز التاريخية القلاع الصليبية، المساجد والكنائس القديمة، الموزاييك الروماني، و المدن الميتة الشهيرة في شمال البلاد والمتاحف المكتظة بالآثار، اذ صارت ضحية التدمير على يد الميليشيات الحكومية والثوار على حد سواء.
إن تدمير التراث السوري يشبه الى حد بعيد ما حدث في العراق بعد العام 2003 حين نُهب المتحف الوطني، وأحرقت المساجد التاريخية ونُهبت اثار المدن السومرية.
الحرب على الماضي. وليس آلة التدمير اقتصرت على بلد دون آخر، فقد دمّرت الحرب العالمية الثانية الكثير من معالم أوربا التاريخية، منها التدمير الروماني لمدينة قرطاجة، و قصف طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني لهامبورغ، ودريسدن ومئات المدن الألمانية القديمة الأخرى، ليتحول التاريخ الى حطام.
ولم تسلم من خراب الحرب مكتبة لوفان في مدينة إيبرس البلجيكية كما أُُحرقت اعداد لا تُحصى من الكنائس والكاتدرائيات القوطية، و قصفت مدينة روتردام في هولندا، اذ تهدمت الكثير من كنائسها ونالت معالم مدينة لندن في المملكة المتحدة من الخراب الكثير.
هياكل بعلبك، وبين العامين 1975 و1990، ادت الحرب الاهلية اللبنانية الى ضياع واندثار الكثير من الاثار التاريخية بينها هياكل بعلبك في البقاع، ومعبد جوبيتر الذي نالت منه قذائف الآر بي جي .
ومنعت الحرب في العراق من عرض الكنز الخرافي النمرود ليظل قابعا في اقبية المتحف العراقي الذي تعرض الى النهب بعد العام 2003.
وبسبب غزو العراق، هُرّبت وثائق و تحف نادرة موثقة للعهود التي سُبي خلالها اليهود في العراق وهما السبي البابلي الأول والسبي البابلي الثاني، الى خارج العراق.
وبين هذه الوثائق أقدم نسخة لـلتلمود وأقدم نسخة للتوراة ومخطوطات أخرى.
وتعرّضت اغلب المواقع الاثرية في ذى قار جنوبي العراق الى النصيب الأكبر من السرقة، ونظراً لقيمة الآثار العراقية وتاريخها المعروف لدى عصابات التهريب الدولية، فإنها لم تتوقف لدرجة أن اللصوص أصبحت معهم خرائط لبعض المواقع.
تقول الاعلامية آمال رسلان انه في الوقت الذي تكتب فيه شعوب الربيع العربى تاريخا جديدا لبلادها، فان آثار الماضى تتعرض الى محو قد يكون متعمدا .
وتتابع خسائر الثورات العربية لم تكن فقط فى فقدان شباب قاد تلك الثورات، ولا فى تخريب منابع الاقتصاد، إنما وصل إلى الآثار التاريخية والحضارية فى المنطقة العربية التى تعد من أهم مناطق العالم، وشاهدة على حضارات متعاقبة رومانية وفرعونية وبيزنطية وإغريقية وغيرها .
وشهدت فصول الحرب على العراق نهب متحف الموصل كما أشعلت النيران في المكتبة الإسلامية في بغداد والتي تضم مخطوطات أثرية من بينها واحدة من أقدم النسخ الموجودة من القرآن كما خرّبت جرافات الحرب ,معاولها مدينة بابل الاثرية بعدما تحولت إلى قاعدة عسكرية لقوات التحالف خلال الغزو الأمريكي بين عامي 2003 و2005 بعد أن اقتحمت الأخيرة بوابة عشتار مما تسبب عنه أضرار جسيمة.
وبحسب تقرير اليونسكو فإن القوات الأمريكية والمقاولين الذين عملوا لصالحها قد حفروا خنادق طويلة في الموقع و جرفوا التلال و قادوا الآليات الثقيلة فوق الآجر الرقيق الذي عبدت به طرقات المدينة.
يرى الباحث حسن خليل غريب أن تدمير تراث العراق وتصفية علمائه، كان جريمة منظمة ضد تاريخ هذا البلد، عبر النهب والسرقة للكنوز الأثرية، و من خلال تدمير الصروح الاثرية .
وخلال القتال في ليبيا الذي اسقط الزعيم الليبي معمر القذافي، سُرقت الآلافٌ من القطع النقدية والأثرية الثمينة من خزانة البنك التجاري ببنغازي خلال الثورة الليبية، وكان هذا الكنز يحتوي على أكثر من عشرة آلاف قطعة بما في ذلك عملات تعود إلى العصر اليوناني والروماني والبيزنطي و العصور الإسلامية الأولى، إضافة إلى عدد من الكنوز الأخرى مثل التماثيل الصغيرة والمجوهرات.
وفي يونيو العام 2012 حاولت جرافات ايطالية سرقة بعض الآثار في ليبيا.
وتعرضت الكنيسة البيزنطية التى تعد أحد الاكتشافات الجديدة شمال غرب مدينة البيضاء الى الإزالة والتدمير.
الاعمار ليس سهلاً
ونُشِر على الحائط الافتراضي في فيسبوك، ما يراه الكاتب السوري جوان فرشخ بجالي، من أن المواقع الأثرية والمباني التاريخية إذا ما دمرت، فلن تكون إعادة إعمارها سهلة، لأنّ مواد بنائها تاريخية .
واثناء الثورة المصرية التي اطاحت بالرئيس المصري السابق حسني مبارك، سُرق المتحف المصري، وشوهد عبر القنوات الفضائية ووسائل الميديا مجموعة من الرجال ينهبون القطع الاثرية .
ومن الآثار التي نُهبت قطع ثمينة من عهد اخناتون والملك توت عنخ آمون اضافة الى وثائق مهمة، وآثار ومخطوطات مصرية،أبرزها إنجيل يهوذا الموجود ضمن وثائق نجع حمادي.
أوربا تخسر إرثها. وتعرضت القلعة التاريخية المعروفة باسم برج لندن، المبنية في أواخر عام 1066الى اضرار فادحة خلال الحربين العالميتين.
اما مدينة لينينغراد فقد تعرضت لحصار من قبل القوات الألمانية مما ادى الى تدمير وضياع جزء كبير من ارثها الثقافي.
وفي العام 2001، زرع مقاتلو طالبان متفجرات حول تمثالي بوذا العملاقين في مقاطعة باميان في أفغانستان حيث تم نسفهما.
وفي مالي بافريقيا، دنست مجموعة مسلحة مقامات تاريخية تعود لقرون لأولياء مسلمين في مدينة تمبكتو القديمة، مدعية ان التدمير أمر إلهي .
و سوّى متشددون كانوا يمتشقون أسلحة ومعاول ومجارف ضريح سيدي محمود، المتوفي في العام 955 ميلادي، بالأرض. كما ردموا قبري وليين مرموقين من العصور الوسطى؛ هما سيدي مختار وألفا مويا.
واستغلت جماعات مسلحة متطرفة، الفوضى الامنية لتدمر أضرحة صوفية تاريخية في مصر وليبيا.
الهب تدمير حلب وسرق اثار سوريا، حماس الكثيرين، الذين يطالبون العالم باجراءات لوقف تهديم اثار الماضي، ودعا الناشط سعد المولى عبر تغريدة في تويتر الى حظر استخدام المعالم التاريخية في أي نشاط عسكري أو سياسي . ويتابع لكن من سيلتزم في ذلك .
كما شهد العام 1991 هجوما عسكريا على الميناء التاريخي في دبروفنكي في كرواتيا، مما ادى الى الحاق اضرار بليغة في مرافقه.
و دمرت الحرب بين الهرسك والبوسنة الجسر القديم الرابط في البلدين.
وفي صفحته على فيسبوك، يرثي ميثم عمر، الحال في بلاده سوريا، مؤكدا ان عمليات النهب للمواقع الاثرية قائمة على قدم وساق ، وكتب يقول المتشددون يصوبون نحو الثقافة لإذكاء الأحقاد .
وفي تونس قام متطرفون ايضا بهدم ضريح ومتحف الرئيس التونسي الاسبق الحبيب بورقيبة بمسقط رأسه في محافظة المنستير.
ينقل الكاتب حسين العودات ان الجنرال الفرنسي بيتان استسلم للألمان خلال الحرب العالمية الثانية، لا جبناً منه وإنما كي لا تدمر باريس وتراثها الثقافي وأوابدها الأثرية، وأن هذا السبب هو نفسه الذي جعل الجنرال ديغول زعيم تحرير فرنسا، يزور قبر بيتان بعد عودته لفرنسا وتسلمه السلطة، اذ أدرك ديغول معنى أن تنجو باريس من الدمار والتخريب، وأن تبقى الذاكرة التاريخية الفرنسية حية ومستمرة، وتلعب دورها ووظيفتها في الشخصية الثقافية والوطنية الفرنسية،
ويتابع من المعروف أن التراث والثقافة والآثار ومنتجات الأجيال المتعاقبة، المادية والروحية والثقافية، هي التي تشكل هوية الأمة وتحدد مواصفات شخصيتها، وتغني هذه الشخصية باستمرار كما تغني تراث البشرية، وتؤثر في الثقافة الإنسانية .
AZP09