إيران أنموذجاً
إدارة التوازنات السياسية الخارجية الأمريكية – قتيبة آل غصيبة
شهدت السياسة الخارجية الامريكية في العقدين المنصرمين تغيرات وتناقضات واضحة في علاقاتها مع دول العالم وفي مقدمتها دول الشرق الأوسط وبالاخص ايران ؛ أثارت استغراب الكثير من المهتمين بالشؤون السياسية ، فخلال حكم الرئيس بارك أوباما للفترة (2008-2017) ؛ تبنت الولايات المتحدة سياسة خارجية أكثر انعزالية ؛ وذلك في إطار ما سمي بسياسة «إعادة الضبط» ؛ وشهدت واشنطن تحسنا في العلاقات بينها وبين ايران ؛ وسعى الرئيس أوباما بالانخراط مع إيران من خلال الحوار الدبلوماسي المباشر ؛ من خلال قنوات دبلوماسية سرية وعبر اجتماعات علنية ؛ هدفها الوصول إلى بناء الثقة وخلق بيئة مناسبة لحل الخلافات ؛ والتي افضت الى التوصل لاتفاق بين إيران والقوى العالمية (بما في ذلك الولايات المتحدة) حول البرنامج النووي الإيراني عام 2015 ؛ إذ وافقت إيران بموجب الاتفاق على تقييد برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات الاقتصادية ؛ وقد
أُعتبر الاتفاق إنجازًا دبلوماسيًا كبيرا ساعد في تحسين العلاقات بين إيران والولايات المتحدة ؛ فقد أدت هذه السياسة إلى تراجع النفوذ الأمريكي في العالم ؛ وإلى صعود القوى الكبرى الأخرى ؛ في مقدمتها الصين وروسيا و دول اخرى مثل كوريا الشمالية وايران ؛ وجدير بالذكر فقد أشار المفكر الاستراتيجي الامريكي «جورج فريدمان ؛ الذي يطلق عليه رجل الظل لمجمع الاستخبارات الامريكي وخصوصاً السي آي أي» الى هذه النقطة بالذات في كتابه (الامبراطورية والجمهورية في عالم متغير) ؛ « الذي يعد من أهم الكتب التي تناقش مستقبل النظام الدولي ودور الولايات المتحدة فيه ؛ ويثير الكتاب نقاشًا هامًا حول التناقض بين طبيعة الولايات المتحدة كإمبراطورية وقيمها الجمهورية» ؛ حيث قال : (في عهدي الرئيس بوش الابن والرئيس اوباما ؛ فقدت الولايات المتحدة رؤية «الاستراتيجية طويلة المدى»…حيث انطلق الرؤساء الاخيرون في مغامرات عشوائية ؛ إذ وضعوا أهدفا لا يمكن تحقيقها ؛ لأنهم تصوروا القضايا على نحو غير صحيح …ونتيجة لذلك ؛ فقد بالغت الولايات المتحدة في قدرتها على مد نفوذها في أنحاء العالم ؛ الامر الذي سمح حتى للاعبين الصغار أن يكونوا الذيل الذي يحرك الكلب).
عقد مقبل
إن «جورج فريدمان الذي وصفته صحيفة الاندبنتنت البريطانية أنه الصنو المكشوف ؛ والبوق الذي من خلاله يتم الإعلان عن الخطط الماورائية للولايات المتحدة.» يوصي مؤكدا في كتابه «الامبراطورية والجمهورية…» : ( إن الضرورة الاكثر الاهمية لسياسة أمريكية في العقد المقبل ؛ هي العودة الى الاستراتيجية العالمية المتوازنة ؛ التي تعلمتها الولايات المتحدة من نموذج روما القديمة ؛ ومن بريطانيا قبل مئة عام ؛ فهؤلاء الامبرياليون المنتمون الى المدرسة القديمة لم يحكموا بالقوة الرئيسية ؛ بل حافظوا على هيمنتهم بوضع لاعبين محليين ؛ في مقابل بعض وإبقاء هؤلاء اللاعبين معارضين لآخرين يمكن ان يحرضوا على المقاومة ؛ وقد حافظوا على توازن القوة بإستخدام القوى المتعارضة ؛ للقضاء على بعضهم البعض ؛ بينما يضمنون مصالح الامبراطورية ألاوسع ، كما أبقوا على ربط دولهم العميلة ببعضها بواسطة المصالح الاقتصادية والدبلوماسية ؛ والتي لا تعني المجاملات الروتينية بين الدول ؛ بل التلاعب المتقن الذي يجعل الجيران والعملاء الزملاء لا يثقون في بعضهم على نحو يزيد على عدم ثقتهم في القوى الإمبريالية ؛ وقد كان التدخل المباشر اعتمادا على قوات الامبراطورية هو الملاذ البعيد الاخير .) وللتوضيح فإن الاستراتيجية السياسية العالمية المتوازنة التي تحدث عنها فريدمان ؛ هي : ( نهج لإدارة العلاقات الدولية يركز على تحقيق التوازن بين مختلف المصالح والأهداف المتضاربة. ) ؛ وان هذه التوصية التي طرحها فريدمان ؛ قد بدأ تنفيذها بالفعل ؛ بعد انتهاء حكم الرئيس أوباما ؛
وعادت الولايات المتحدة الى إلى المدرسة القديمة في ممارسة سياسة خارجية أكثر التزاما بالنظام الدولي ؛ وذلك من خلال تعزيز التحالفات والشراكات مع الدول الحليفة ؛ ومواجهة التهديدات الناشئة من الدول الصاعدة ؛ كانت بدايتها مع الصين وروسيا ثم إيران ؛ فبعد تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة عام 2017 ؛ قام بلعب دورا رئيسيا في توتر العلاقات مع إيران ؛ واعتبرها تشكل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي ؛ وأن الاتفاق النووي الإيراني كان غير كافٍ لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية ؛ لذا فإنه سعى إلى الضغط على إيران من خلال ؛ الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018 ؛ والذي كان بمثابة ضربة قوية للعلاقات بين البلدين ؛ وفرض العقوبات الاقتصادية وزيادة الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط ؛ إذ أدت هذه الاجراءات والعقوبات بالنتيجة إلى تضييق الخناق على الاقتصاد الإيراني، وإلى زيادة التوتر بين البلدين ؛ وكانت بمثابة رسالة تهديد لإيران ؛ مما ساهم في تصاعد التهديدات المتبادلة بينهما ؛ ووصل الأمر إلى حد وقوع مصادمات عسكرية محدودة بين الطرفين ؛ وسعى ترامب وإدارته كذلك الى تصعيد التوتر بين دول الخليج العربي وايران ؛ وبين دول الخليج نفسها ؛ والتي وصلت الى قطع العلاقات بين دولة قطر من جهة والسعودية والامارات من جهة أخرى ؛ بهدف اضعاف الإجماع والتعاون الخليجي ؛ وجعل دول الخليج والمنطقة تشعر بالخوف والقلق من التمدد الايراني في المنطقة ؛ في الوقت الذي تحاشى توجيه ضربات قوية تهدف لتقويض النفوذ الايراني في المنطقة ؛ وذلك لتحقيق هدفين ؛ الهدف الاول : «جعل دول الخليج العربي والدول العربية تلجأ للتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني من خلال التطبيع مع هذا الكيان ؛ واعتبار ايران هي العدو الاول للدول العربية» ؛ والهدف الثاني : «اطلاق يد إيران من خلال أذرعها وفصائلها المسلحة في المنطقة ؛ بشرط ان لا تهدد القواعد والمصالح الامريكية في المنطقة).
اونة اخيرة
وبناءً على ذلك ؛ وبالرغم من كثرة نشر التصريحات والمنشورات والمقاطع في الاونة الاخيرة ؛ بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستنهي النفوذ الايراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن ؛ فإن هذا الامر مستبعد وخاصة بعد اعلان حزب الله العراق تعليق عملياته العسكرية ضد مصالح وقواعد الولايات المتحدة الأمريكية في العراق والمنطقة ؛ وان الرد الامريكي لن يكون كما يتصوره البعض ردا ساحقا ؛ انما هي ضربات انتقائية لقواعد ايران في سوريا والعراق ولبنان واليمن ؛ لأن واشنطن لابد لها ان تستمر في سياسيات التوازنات الاستراتيجية العالمية في المنطقة والتي عادت لها بعد ان تخلت عنها منذ غزوها لافغانستان والعراق ؛ فاقتصادها مبني بالاساس على الصناعة العسكرية وبما تصدره من اسلحة لدول الخليج والمنطقة ؛ بعد ان اطلقت يد ايران لتهديد هذه الدول ؛ وإن إيران هي (الدجاجة التي تبيض ذهبا للولايات المتحدة ) ؛
والسؤال هنا من باب الوصول للحقيقة ؛ ماذا لو ان امريكا شنت حربها على ايران وأذرعها وأنهت الوجود والنفوذ الايراني في المنطقة كما يتصور البعض متوهما؟ ..هل ستبقى حاجة للوجود الامريكي في منطقة الشرق الاوسط ؛ وتستمر دول الخليج ودول المنطقة بدفع الاموال الطائلة للاسلحة التي تشتريها من الولايات المتحدة الأمريكية ؛ وتغطية نفقات القواعد والاساطيل البحرية الامريكية في مناطقها؟ والاجابة بالتأكيد (كلا) ؛
لأن استمرار التهديد الايراني لدول الخليج والشرق الأوسط يساهم في تقوية الاقتصاد الامريكي المتدهور واستمرار نفوذها في المنطقة ؛ وان الحل الاكثر واقعية للخلاص من هذه الازمات؛ والوقوف بوجه المخطط الامريكي الصهيوني ؛ يتضمن إنشاء تحالف عربي اسلامي يضم جميع دول المنطقة ؛ بما فيها ايران وحلفائها بالمنطقة ؛ وبناء استراتيجية أمنية للدفاع المشترك بين الدول المنضوية في هذا التحالف..
والله المستعان