أين غــذاء النمــل؟
حسن حنفي
أظهرت الشاشات الصغيرة مؤخرا صورة امرأة من مالي وهي تغربل حفنات من القمح لتنقيتها. فقد جمعها النمل وخبأها في باطن الأرض لتخزينها وقت الحاجة حينما يحين الجفاف، وتتعرض جميع مظاهر الحياة للهلاك، الحيوان قبل الإنسان. سرق الإنسان غذاء النمل كي يقتات به. وعجز عن أن يغذي نفسه. اعتمد على قوت غيره حتى ولو كان النمل، وهو من أضعف مخلوقات الله كالذباب. كل نملة تحمل حبة قمح واحدة بفمها وتحفر في الأرض وتضعها فيها. ويتبعها باقي النمل بنفس الجهد، وعلى نفس الوتيرة، وفي نفس المكان. ويتكرر الفعل آلاف المرات حتى يطمئن النمل على قوته في المستقبل كي لا يهلك من الجفاف بدلا من الهجرة أسرابا طويلة حيث القوت كما يفعل الإنسان. ويتعاون على ذلك ولا يتقاتل، الكبير مع الصغير، والقوي مع الضعيف، القادر يحمل حبة كبيرة والعاجز يحمل حبة صغيرة دون كلل أو ملل. وهو يقوم بفعل الأنبياء مثل يوسف عندما قام بتخزين الغلال في مصر سبع سنوات الرخاء كي لا يجوع شعب مصر في سبع سنوات أخرى عجاف كما حلم فرعون المهموم بمصر ورخاء شعبها بسبع سنابل عجاف تأكل سبع سنابل خضراء، وسبع بقرات هزال تأكل سبع بقرات سمان. يخطط النمل مثل الأنبياء. فالتخطيط جزء من الفطرة والبديهة.
فهل عجز الإنسان أن يتعلم من النمل وأن يقوم بتخزين الغلال من أوقات المطر إلى وقت الجفاف، من الشتاء إلى الصيف؟ لقد استطاع أن يبتكر الآبار الجوفية، وأن يقيم السدود، وأن يغير مجاري الأنهار. وعند المؤمنين صلاة الاستقصاء. فلماذا عجز هذه المرة عن أن يقيم أوده ولا يورد نفسه إلى التهلكة؟ هو مشغول بالحروب. وكلها باسم الإسلام والجهاد وتطبيق الشريعة الإسلامية. فالقتل لديه له الأولية على الحياة. والسلطة هدفه الأسمى، وليس الخبز. ويفضل أن يحصل على السلطة جائعا من أن يكون من أفراد الشعب شبعانا. ترك أسرته وأولاده بلا عائل. وذهب للقتال باسم الحق، والقتل باسم الله والذبح وهو يصيح الله أكبر كما يفعل الحاج مع الضحية. فاضطرت المرأة أن تعول نفسها وأولادها، وإنقاذ حياتها وحياتهم من الموت. فابتكرت الاستيلاء على حفنات القمح التي خبأها النمل في باطن الأرض، حبة حبة حين يأتي وقت الهلاك. غربلته وطحنته وعجنته وأطعمت صغارها الخبز الحاف بدلا من الموت. شيء أفضل من لا شيء. هو ابتكار امرأة. تبني ولا تهدم. تحيي ولا تميت، ويُقال أنها لا تساوي الرجل، وأنها نصف شاهدة وربع أو ثمن وريثة، وأن الرجل مقدم عليها وهو تارك أسرته كي يموت فتموت أسرته وراءه. ومع ذلك يتزوج أربعة، وينجب العشرين. لا يعرف عددهم ولا أسماءهم.
تفضل المرأة أن تترك بعضهم يهلك في الطريق حتى تنقذ الباقي. وقد لا تعرف أسماءهم جميعا، مَن محمد ومَن مصطفى. فالكل يتشابه. والكل في الموت سواء. قد يغتصبها جندي آخر من الأصدقاء أو من الأعداء ثم يقتلها. ويهيم الأطفال على وجوههم حتى يهلك الجميع. ويحيا النمل لأنه سرعان ما وجد حبات قمح بديلة، يوما بيوم، ما دام خزينه قد سُرق بالرغم من تخبئته تحت الأرض. جريمة بلا عقاب. وهل تعتبر سرقة الإنسان قمح النمل جريمة؟ هل تقطع يده أم أن طعام الحشرات مباح له؟ حياته أولى. وقد أقر الفقهاء من قبل الضرورات تبيح المحظورات . فكر الإنسان في نفسه وليس في النمل. أخذ قوته وتركه بلا قوت. وهو جزء من عدوانية الإنسان على أخيه الإنسان، القادر على الدفاع عن نفسه. العدوان هذه المرة على الحشرات العاجزة عن الدفاع عن نفسها. وهل يكفي ما اختزنه النمل لعائلة واحدة، نسائها وأطفالها؟ ما يحتاجه النمل أقل مما يحتاج الإنسان. فجمع ما يكفيه. وما يحتاجه الإنسان أكثر مما يحتاجه النمل، ومع ذلك سلبه قوته. الصراع من أجل البقاء. والقليل أفضل من الكثير. لقد استطاع النمل حماية نفسه من جنود سليمان. وأنذرت نملة باقي النمل من الدهس تحت أقدام جنوده قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ . فهو يعيش في وديان وتجمعات حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ . وهو نفس ما يقوم به النحل ببناء البيوت التى يطعمها الإنسان عن طيب خاطر وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . أما النمل اليوم فهو بلا دفاع إلا الدفاع الطبيعي عن نفسه بإخفاء غذائه تحت سطح الأرض، ولكن عدوان الإنسان أقوى من دفاعاته لأن الجوع كافر . استطاع النمل حماية نفسه من الأنبياء ولكنه لم يستطع من الإنسان. لا يحارب بعضه بعضا كما يفعل الإنسان. بل يتكاتف على العيش المشترك، ويحذر نفسه والآخرين من الخطر المشترك. لديه وعي جماعي ليس عند الإنسان الذي تتقاتل مجموعاته من أجل الوصول إلى القصر. ويعتمد البعض على قوات أجنبية لقتال إخوته في الدين وفي الوطن، بدلا من أن يجلس المتحاربون فيتحاورون فيما بينهم، ويتفقون على الحد الأدنى من الاتفاق الوطني لما فيه مصلحة الجميع. فكيف يتعايش مواطنون بينهم ثأر القتال؟ وكيف يحاربون وهم يضحون بوحدة البلاد، ويقسمونها بين الشمال والجنوب وكأن السودان أصبح نموذجا للحياة الفاضلة. وعقيدة الجميع التوحيد وليس الانقسام. فهل حدّث النمل نفسه بعدما اكتشف سرقة الإنسان لحبات قمحه التي خزنها كي تنفعه وقت الحاجة؟ هل يلعن الإنسان؟ هل يشكو إلى الله ضعفه وقلة حيلته؟ وقد يرد الله بأنه ضعيف في الجسد ولكنه قوي في الذكاء. وخلق الإنسان قويا في الجسد ولكنه لم يحسن استعمال العقل. فعلى الإنسان تقع المسؤولية. النمل أمة تحمي نفسها. والإنسان قوم قسم نفسه وجزأها. كل النمل يتكاتف مع بعضه البعض في حياة جماعية، والإنسان يقتل بعضه بعضا. النمل يبني سكنه، والإنسان يهدم ما يبني، يدمر ويحرق. السلطة لدى النمل جماعية لإنقاذ أمة. وعند الإنسان فردية بين زعماء وقبائل لتدمير شعب. فالنمل أكثر إيمانا من الإنسان. ويتجلى الإسلام في حياة النمل أكثر مما يتجلى في حياة الإنسان. لطالما تعلم الإنسان من الحيوان، الحشرات والطيور. فكما تعلم الإنسان من الغراب كيف يواري الجسد التراب، فهل هو قادر أن يتعلم من النمل كيف يخزّن قوته؟ وقد كثرت في الآداب العربية أحاديث الحيوان، وكتب الحيوان، منذ كتاب الحيوان للجاحظ حتى رسالة الحيوان لإخوان الصفا عندما اشتكى الحيوان من قسوة بني الإنسان. وقد نام الكلب مع أهل الكهف تضامنا مع إيمانهم مائة سنة وازدادوا تسعا، باسطا ذراعيه لا يتحرك. وتعلم الإنسان صناعة الطيران من الطير، الأجنحة والذيل، وصناعة السفن من السمك، وصناعة الكيمياء من عناصر الطبيعة.
ليت الإنسان يتعلم من حياة النمل وليس سرقة النمل. وكما أن في القرآن سورة النمل هناك أيضا سورة الإنسان . فهما على قدم المساواة في الذِّكر. وفي الواقع الإنسان سارق غذاء النمل، وعقاب السارق قطع اليد. فكيف يمكن تعويض المسروق؟ إن التعويض في خسائر الدنيا. فكيف يكون التعويض عن الموت هلاكا في الآخرة؟ وإذا كانت الشاه تقتص من الشاه القرناء التي قتلتها فكيف يقتص النمل من الإنسان في الآخرة؟
AZP07