أوكرانيا وإنزلاق الهوّية

أوكرانيا وإنزلاق الهوّية

 

 

عبد الحسين شعبان

 

 

بعد انفصال شبه جزيرة القرم ذات الأهمية الستراتيجية والحيوية عن أوكرانيا وإعلان انضمامها عقب استفتاء شعبي إلى روسيا، جاء دور شرقي أوكرانيا حيث توجه سكان مقاطعتي (جمهوريتي) لوغانسك ودونتسك إلى إجراء الاستفتاء، تحت عنوان حق تقرير المصير، على الرغم من تحذيرات كييف وتهديداتها وتلويحات الغرب، ولاسيّما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بفرض المزيد من العقوبات على روسيا، التي هي اللاعب الأكبر خلف المجاميع ذات الأصول الروسية التي تريد الاستقلال عن أوكرانيا، دون نسيان موضوع الهوّية الروسية والشعور القومي الذي لعب دوراً أساسياً في وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه، خصوصاً في ظل محاولة الغرب طعن روسيا من الخاصرة الأوكرانية- القوقازية.

 

التاريخ والهوّية وبالطبع اللغة كجزء منهما لعب الدور الأكبر في رغبة سكان أوكرانيا الروس أو الناطقين باللغة الروسية على طلب الاستقلال عن أوكرانيا، فبعضهم يشعر بالحيف جرّاء خطيئة زعيم الحزب الشيوعي السوفييتي في حينها نيكيتا خروشوف الأوكراني الأصل، الذي كان وراء انضمام شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا باقتطاعها من روسيا في العام 1954، في حين إن البعض الآخر يريد استعادة دور الإمبراطورية الروسية أو الاتحاد السوفييتي السابق كقوّة عظمى مردداً ما كان يقوله لينين من أن روسيا ستفقد عقلها إذا فقدت أوكرانيا.

 

وبغضّ النظر عن الرغبات والمطامع، فإن الأمر الواقع قد يصبح واقعاً، فشبه جزيرة القرم ستصبح جزء من روسيا إذا سارت الأمور كما هي، وسيتم التفاوض على تسويات وترتيبات للعلاقات الأوكرانية- الروسية، والمصالح المشتركة في الحال أو في المستقبل، أما إعادة القديم إلى قدمه، فقد يصبح جزء من التاريخ، وتلك إحدى مآسيه أو مساخره أحياناً، والأمر يتعلق أيضاً بمنطقتي (مقاطعتي) دونتيسك ولوغانسك اللتان صوتتا بنسبة عالية جداً لصالح الإنفصال عن أوكرانيا، على الرغم من رفض نتائج الاستفتاء من جانب كييف وعدم اعتراف واشنطن وحلفائها بها. المقاطعتان تنتظران إعلان نفسيهما جمهوريتين مستقلتين والتقدّم إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لغرض الاعتراف بهما بعد استكمال إجراءات تأسيسهما وسن دستورين جديدين لهما وبناء مؤسسات أو تحويل ما هو قائم من الحكم الذاتي إلى مؤسسات دولة، وبعد قد تقرّران الانضمام إلى الجمهورية الروسية الفيدرالية أو إقامة علاقة متميّزة معها، وعند ذاك يبدأ التفاوض والحوار للتوّصل إلى ماهو مشترك ما بعد الإقرار بالأمر الواقع، وعكس ذلك سيستمر التوتّر وربما العنف والارهاب واحتمالات الصدام المسلح وهي كلها أمور ستبقى واردة، وإن كان حساب ميزان القوى يحتاج إلى دقة وعدم مغامرة حيث تقف روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين بكل استعداد لكل طارئ، ومعهما خلفية الامبراطورية الروسية السابقة والاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، في حين لا تملك واشنطن الأوراق التي تملكها موسكو في منطقة تعتبرها أحدى مناطق نفوذها التاريخية. لقد حقّقت روسيا ثلاث أهداف دفعة واحدة، فهي أضعفت أوكرانيا ودفعتها لأزمة مستفحلة ومفتوحة على الرغم من الدعم الغربي، ولاسيّما في الميدان السياسي والاقتصادي، ثم ضمت شبه جزيرة القرم، وأخيراً تمكّنت من فصل مقاطعتي دونتسك ولوغانسك، ومن يدري فقد يكون ” استعادة” خاركوف وأوديسا من ضمن خطة روسيا المستقبلية، أي ممارسة عملية القضم والاختراق التدريجي والمرحلي للوصول إلى ما تريد، تحت عنوان” حق تقرير المصير”. وكان الرئيس الأوكراني المنتخب ألكسندر تورتشينوف قد وصف ما جرى بأنه مهزلة دعائية بلا أساس قانوني وهي تستهدف التغطية على جرائم وانتهاكات حصلت ، مؤكداً عدم اعترافه بنتائج الاستفتاء، علماً بأن الرئيس الروسي بوتين كان قد طلب تأجيله، لكن الأمر حسم قبل ذلك باحتلال مسلحين للمباني الحكومية وبسط سيطرتهم على عدد كبير من المنشآت والمرافق الحيوية. وكان أنصار روسيا أو الناطقين بالروسية قد استفتوا السكان على سؤال واحد: هل تؤيد حق تقرير المصير لجمهورية دونتسك ولوغانسك، وبالطبع كانت النتيجة بغالبية 89.7% بنعم من مجموع الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع والبالغ عددهم أكثر من 70% من السكان، حسبما أوردت بعض الوكالات المقرّبة من روسيا والمؤيدة لحق تقرير المصير. ويستهدف القائمون على الجمهوريتين إجراء استفتاء لاحق لتحديد توجّه الجمهوريتين بالاستقلال التام أو الانضمام إلى روسيا، وقد يتم هذا في نهاية الشهر الجاري (أيار). لعلّ ما حصل في أوكرانيا هو جزء من مخلّفات الاتحاد السوفييتي السابق إذ كان تفككه في العام 1991 وانهيار الكتلة الاشتراكية قد أدى إلى تجاذبات ومنافسات تتعلق بالهوّية وتقاطعاتها وتمترساتها، لاعتبارات سسيوثقافية من جهة وجيوسياسية ستراتيجية من جهة أخرى، لاسيّما في ظل الاصطفافات والاستقطابات القائمة، فروسيا التي تحاول استعادة نفوذها لا تسمح لحلف الناتو بناء قواعد صواريخ لوجستية على حدودها، وهي هدّدت  بالفعل تشيكوسلوفاكيا ورومانيا إذا ما أقدمت على ذلك، بل حذرت الغرب من مغبّة هذا التوجه، ولهذا فهي لا تسمح ببقاء كييف (أوكرانيا) حديقة خلفية لها، ليتم زرعها بالألغام بدلاً من الورود من جانب الغرب، ناهيكم عن الأهمية الحيوية الستراتيجية لأوكرانيا كسوق، إضافة إلى ممر للنفط والغاز، ولاسيّما باتجاه أوروبا.

 

وإذا كانت روسيا تعاني من مشكلات داخلية وضغوط اقتصادية ومعاشية حادة داخلياً، فإنها تستعمل السياسة الخارجية للدفاع عن السياسية الداخلية، خصوصاً بتوجيه الأنظار إلى الخارج، ليس هذا فحسب، بل تلفت النظر إلى الدور الروسي المنشود على الصعيد العالمي، وهو ما يلقى تأييداً داخلياً، ولعلّ ما تم اختباره في موقف روسيا من الأزمة السورية وإصرارها على عدم فقدان أحد مراكز نفوذها في الشرق الأوسط، مثلما فقدت ليبيا وقبل ذلك مصر والعراق، وإن كان توجّهها للمنطقة لا يزال محدوداً قياساً بالتمدّد الآيديولوجي للاتحاد السوفييتي السابق. وقد ترافق النهج الروسي الجديد منذ عامين على الأقل، بوصول بوتين مجدداً إلى الرئاسة، بطائفة من الإجراءات منها: طرد برنامج المساعدات الأمريكية وإيقاف بث إذاعة ليبرتي “راديو الحرية”، المموّل أمريكياً وأبلسة خطط واشنطن لنشر الديمقراطية، واعتبارها من مصنوعات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA، وقد دفعت بالمنظمات المموّلة خارجياً إلى تسجيل نفسها باعتبارها منظمات أجنبية وغير ذلك من الإجراءات.

 

ما الذي ينتظر أن تفعله واشنطن؟ وكيف السبيل للتعامل مع المتغيّرات الجيوبوليتيكية، ولاسيّما التي لها علاقة بالهوّية لمناطق أوكرانية ناطقة بالروسية تريد الانفصال عنها، ولكن لمصلحة دولة عظمى، هي عدو لواشنطن قديم وجديد، وإذا ما أضيفت علاقة روسيا بالصين الصاعدة ودورها العالمي، فإن ذلك سيكون أكثر ازعاجاً وأذى لواشنطن؟

 

وإذا استبعدنا خيار الحرب، فليس هناك لدى واشنطن، سوى الإقرار بالأمر الواقع مع رغبة في تحسين شروط التفاوض والحدّ من التمدّد الروسي، وفي الوقت نفسه العمل على فرض عقوبات على روسيا طبقاً لقانون مانيسكي الذي صدر عن الكونغرس العام 2012، وهو قانون يتعلق بفرض عقوبات ضد منتهكي حقوق الإنسان، من منع إصدار تأشيرات، إلى حجز ودائع وصولاً إلى فرض عقوبات اقتصادية وحظر متنوّع وغير ذلك.

 

لقد كان لانهيار الأنظمة الشمولية وبخاصة في أوروبا الشرقية أثره الكبير في احتدام الصراع بين “هوّيات كبرى وصغرى”، وهوّيات “تابعة ومتبوعة” وهوّيات “عليا ودنيا”، وهوّيات “قوية وضعيفة”، رغم ميلي الى تسميتها “هوّيات فرعية” وهوّيات “كلية” بمعنى عامة أو شاملة، الأمر الذي عرّض بعض الكيانات الكبرى (الدول المتعدّدة التكوينات) إلى التصدّع والتآكل، خصوصاً بتبلور بعض خصوصيات الهوّيات الفرعية، التي وجدت الفرصة مناسبة للتعبير عن كيانياتها بعد طول انتظار وكبت وشعور بالغبن والحرمان.

 

وأدى هذا المتغيَّر إلى انقسام دول وانفصال كيانات ظلّت ” متّحدة” لسنوات طويلة أو هكذا بدت الصورة، ولعبت العولمة دوراً مهماً في تشجيع ذلك، وبخاصة إذا كانت الكيانات الكبرى عامل تحدٍّ للقوى المتنفذة والمتسيّّدة في العلاقات الدولية، وهو ما وفّر ظروفاً موضوعية، وإن كانت لأغراض خاصة، لبروز الهوّيات الفرعية، وخصوصاً في ظل ارتفاع رصيد فكرة حقوق الانسان ومبادئ المواطنة والمساواة، وهو ما كان غائباً في ظل الانظمة الشمولية والاستبدادية. وإذا كان ذلك سبباً في تصدّع بعض الدول مثل الاتحاد السوفييتي أو يوغسلافيا وانفصال تشيكوسلوفاكيا سابقاً، فإنه في حالة أوكرانيا، ولاسيّما مثال شبه جزيرة القرم واليوم لوغانسك ودونتسك وقبلها جورجيا، خصوصاً إقليم إبخوزيا وأوستيتا، أصبح مختلفاً، لأنه تحوّل إلى عامل توحيدي للالتحاق بالأصل في ظروف الاستقطاب القومي والاصطفافات الإثنية واللغوية وصعود عنصر الهوّية الجديد.

 

وفي كل الأحوال فقد خلّفت مسألة الهوّية نزاعات كبرى وحروب أهلية، وتركت ندوباً وجراحات وحواجز تاريخية ونفسية، ازدادت حدّة وتنافراً في السنوات الأخيرة، رغم وجودها في السابق، الاّ أنها كانت غير منظورة في ظل الدولة المركزية “الصارمة” والنظام الشمولي، العمودي، ذو الصلاحيات التي تكاد تكون مطلقة.

 

 

{ باحث ومفكر عربي