أهالي سوق الشيوخ استعملوا الشّب لتنقية المياه وكان لهم طاحونتان الأولى لعنون والثانية للفتة الكرّادي
مجموعة وحيدة من السيارات تديرها عائلة الكريمي لربط سوق الشيوخ بجوارها والفِلْكَة أو الماطور تصل الى الناصرية في أربع ساعات
إبراهيم الولي
البنية التحتية لمدينة سوق الشيوخ والخدمات العامة لا تكاد تذكر. فما كان مصدر مياه الشرب سوى من خلال السقاء ، كان المرحوم محمد الخالد،وهو رجل أعمى، يسقي لمحلتنا يساعده حمار مطيع يتجاوب معه بشكل ملفت في الإستدلال على وجهته، وقد عرف عن الرجل خفة دمه تراه يداعب كل من يتعرض له، فكان يجلب الماء من النهر مباشرة ليصبه في الحب بكسر حرف الحاء وهو إناء فخاري كبير مخروطي الشكل لخزن الماء في البيت نرى فيه الماء عكرا تسبح فيه أسماك صغيرة. فكنا نلجأ لمعالجته بوضع الشب، وهو من مركبات الألمنيوم هايدروكسيد الألمنيوم الذي من خصائصه ترسيب جميع الشوائب كي يبقى الماء صافيا. وعادة ما نضع تحت الحب إناءا خزفيا تتجمع فيه نقاط الماء الراشحة من الحب يسمى الناقوط. وقد قامت مصلحة إسالة الماء بمدٌ الأنابيب الى بعض البيوت. وكنت أذكر أن النسوة من أهل الإسماعيلية كن يتقاطرن على بيتنا لأخذ الماء من الحنفية. فقد كنا محظوظين أن أنابيب المياه إمتدت لبيتنا قبل غيره، وكان ذلك تقدما يستحق الحديث عنه في ذلك الوقت.
أما الكهرباء فليس لها وجود عدا ما ينير بعض الشوارع، ومن نافلة القول الحديث عن المجاري.. لهذا إستعاض الناس عنها بالبلاليع في بعض البيوت.
ولم يكن في المدينة شارع معبٌد واحد فكلها تغرق في الوحل عندما تمطر السماء فتتحول الى غيلة التي هي عبارة عن أكوام التراب الذي خلط بالماء والتبن حتى يتخمر فيقطع الى اللبن بكسر حرفي اللام و الباء، أي الطابوق الطيني الذي يجفف في الهواء لإستخدامه في البناء.
السدار الإيطالية بـ 100 فلس
كانت أسعار الملابس زهيدة، ولأضرب مثلا على ذلك، فعندما أنهيت المدرسة الإبتدائية كان علىّ أن أكمل الدراسة المتوسطة في الناصرية، إصطحبني خالي محمد الى محل حمزة ليختار لي ملابس كاملة فكانت البدلة بـ 750 فلس مع قميص ياباني بياقات إضافية بـ 50 فلسا ثم حذاء انكليزي الصنع كلاصي Glossy فلسا وسدارة أيطالية ممتازة بـ 100 فلس. هكذا كانت الأسعار وهي مؤشر على القدرة الشرائية المتدنية للناس حينها.
وبالرغم من رخص أسعار المواد الغذائية فقد كانت العائلات تشتري غذاءها بما يكفيها مؤونة يوم واحد لعدم وجود وسائل تبريد لحفظ الأطعمة في الجو الحار الذي تزيد حرارته عن خمسين درجة في الظل مصحوبا بهبات هواء محملة بالغبار والأتربة. على أن تأسيس مصنع للثلج جلب لنا شيئا من الرفاهية حين كنا نشتري ربع قالب من الثلج ونضعه في صندوق خشبي فكنا نستمتع بشرب الماء البارد ونحفظ فيه بعض الأطعمة.
أذكر أن فصل الشتاء كان باردا جدا لدرجة تجمد طبقة من المياه نسميه جحيل وكانت وسيلة التدفئة مقتصرة على المنقلة المتنقلة والموقد الثابت. ولم يكن أي بيت ليخلو من التنور وهو فرن طيني نخبز فيه الخبز ونشوي فيه السمك. أما الوقود المستخدم في التدفئة فكان سعف النخيل الجاف والكرب أعقاب السعف ومن الغضا والرمث وهي بقايا شجيرات صحراوية جافة تمتاز بسرعة الإشتعال. كما يستعين الناس، بدرجة أقل، بمصادرأخرى من الطاقة ك السرجين وهي أقراص مجففة من روث البقر تسمى عند بيعها مطّال بضم الميم وتشديد الطاء و كذلك بعرور الأغنام، أما مخلفات الخيل فهي الصون وهذه كلها تمثل مصدر طاقة متجددة Renewable Energy من خارج الأحفوريات.
وفي المدينة طاحون يملكها السيد بعنون فكانت النساء يحملن الحنطة الى الطاحون لطحنها مقابل أجر. وكانت هناك مطحنة أخرى يملكها السيد لفتة الكرادي الدي يملك بالإضافة لها معملا صغيرا لعمل مشروب غازي يعبأ بزجاجات تسدها بإحكام خرزة زجاجية تمنع الغاز من التسرب. وكان المعمل ينتج سوده و سيفون وهذا الأخير سائل ملون حلو الطعم،هذه المشروبات تكون مكبوسة مع كاربونات الصودا لدرجة أن من يشرب منها يشعر بالغاز يخرج من أنفه وفمه بعد أخذ جرعة من البطل بضم الباء والطاء ونعني الزجاجة.
يمتلك معظم أهل سوق الشيوخ بيوتهم ولم يكن هناك مكتب للعقار، ولهذا فكنا نرى نسمع مناديا، وهو الدلاٌل، يعلن بصوت جهوري جيئة وذهابا في سوق المدينة عن العقار المطلوب بيعه، معددًا صفات الدار المعروضة للبيع بأنها دار ممتازة لقربها من النهر وهذا يعني سهولة جلب الماء وكذلك لقربها من سوق المدينة مما يسهٌل التسوٌق وهما صفتان هامتان لمن يرغب في الشراء.
الخدمات البريدية التي تربط سوق الشيوخ بالعالم فكانت تتم عن طريق متعهد إسمه كاطع وهو رجل نشيط يشعر بحجم المسؤولية التي يتولاها، فهو يستلم كيس البريد من دائرة البريد ليوصله الى الناصرية ويستلم الوارد عائدا به الى سوق الشيوخ.
تبعد مدينة الناصرية عن سوق الشيوخ بحوالي 28 كم وكانت وسيلة المواصلات التي تربطنا بالناصرية مجموعة من السيارات تديرها عائلة الكريمي. وعن طريق النهر بواسطة الفلكة بكسر الفاء أو الماطور كما نسميه وكان يقطع المسافة في النهر ليصل الى الناصرية بحوالي أربع ساعات ذهابآ عكس تيار النهر و اقل من ذلك عند العودة مع التيار، وكان المشرف على هذه الوسيلة السيد رمضان.
الحالة الاجتماعية
يتميز أهل سوق الشيوخ، بحكم محدودية رقعة المدينة وتقارب بيوتها من بعضها البعض، بنوع من التكافل الأجتماعي كلّ بحسب المحلة التي يسكنها والتي تحدد لدرجة ما إنتماءه لدين أو مذهب أو عرق واحد. لكن هذا لا يمنع من بروز ظاهرة تكاتف وتعاون بين مختلف تلك الجهات. يحمل أهل السوق رجالا ونساءا العديد من بقايا صفات ومزايا مد البداوة الى التحضر. فهم بمجموعهم ينتمون لأصول عشائرية قد تكون العشيرة من نفس المنطقة أو من غيرها من عشائر العراق أو حتى من البلدان المجاورة . إنهم شجعان وكرماء تراهم يتمسكون بمظاهر الشرف والغيرة على العرض حتى يصل الأمر الى حد القتل دفاعا عمٌا قد يخل بالشرف، وجميعهم يتمسكون بقيم الدين الإسلامي الحنيف.
والتميز الطبقي واضح عند حصول بعض حالات الزواج. فترى مثلا أن شخصا نجديا إسمه الضعيٌف من عشيرة الحميٌد وهو رجل نحيف الجسم تجارته بيع الفحم يرفض تزويج كريمته من شاب نجدي جامعي ناجح، وسبب رفضه أنه شيخ أصل كما يقول وأن الخاطب في نظره، عامي، وهذا يجعل الزواج غير متكافىء.
كما يظهر هذا التمايز في الأسر الشيعية، فلطالما رفضت عائلات خطيبا لبناتها على إعتبار أن الخطيب ليس من نفس المستوى العائلي.. ولم تتم في سوق الشيوخ، على حد علمي، زيجات مختلطة بين المذاهب مطلقا،بل إن الزواج بين الأعراق المختلفة معمول به بشرط وحدة المذهب. وتلك ظاهرة أظن أن الزمن قد عفا عليها فيما بعد.
وسكان سوق الشيوخ بمجملهم بسطاء يمكن إقناعهم إن جئتهم بالحسنى وبالرفق. ويقول المثل عندنا شيٌم العربي وخذ عباءته . أي أنك تستطيع أخذ أعز ممتلكات الأعرابي، وهي عباءته، إن جئته مستنجدا بشيمته. وأهل السوق كرماء، كل حسب مقدرته، فهم يساعدون الضعيف ويكرمون الضيف. ولكني لاحظت أن هناك ميل لإستغفال القادمين من الريف. وأذكر هنا مثالا على ذلك فقد إختلف رجل من أهل المدينة مع آخر من الريف على تحديد مبلغ لقاء خدمة ما، فما كان من الرجل من سوق الشيوخ إلا أن يقسم بعلي الولي وعلي المظلوم ليثبت للأعرابي صحة قضيته. والحقيقة أنه كان يقسم بإسم والدي علي بن حسين الولي وبعلي المظلوم وكان صاحب قهوة في سوق الشيوخ. وصدَق الأعرابي القسم بإعتبار أن المقصود هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لكن الأمر لم يكن كذلك بالطبع.
وأهل السوق محافظون على عادات أجدادهم ومن الصعب أن تحيدهم عنها. ففي ذلك الوقت وأنا أتحدث دائما عن فترة أواسط الثلاثينات في القرن الماضي كنا كبارا وصغارا نلبس لباس الرأس، أكان سدارة أم كوفية… الى غير ذلك من أغطية الرأس، فالمهم أن لا يظهر الرجل أو الفتى حاسر الرأس، فذلك أمر مشين يلصق بفاعله أقبح النعوت، على أن شابا رائعآ من أهل المدينة، وقد تخرج معلما، عاد من بغداد حاسر الرأس مسرٌح الشعر هو المرحوم مهدي الراضي، وقد تعرض لأشد الإنتقاد في حينه مما زاده إصرارا على توجهه، جزاه الله عنا جميعا خيرا فقد فتح لنا بابا ولجناه لنحذو حذوه فتخلصنا من ذلك القيد الثقيل في ذلك الحين أعني السدارة.
وبمناسبة الحديث عن غطاء الرأس، أود أن أبين هنا أن الرجال في سوق الشيوخ وما جاورها كانوا يلبسون اليشماغ والعقال. فإن كان الغطاء أسود في نقشه عرف أن صاحبه شيعي، أما أن كان أحمر فذلك سنيٌ. وقد لاحظت أن هذا التميز المقصود قد تلاشى الآن بعد أن تقلصت وظيفة اليشماغ وكان كبار السن يلبسون كوفية بيضاء لا تخلو من تطريز بخيط اصفر، وفي هذه الحالة يكون عقال الرأس مختلفاً.
زواج ووفاة وأضرحة
ومن مظاهر التكافل الإجتماعي في المدينة أن المهنئين في حفلات الزواج يقدٌمون مبالغ نقدية رمزية تساعد العرسان على تكاليف الحياة الزوجية في بدايتها. تلك المبالغ كانت تتراوح بحسب المقدرة المالية للأشخاص وهي ما يسمى بالنقوط. وكذلك الأمر في حالات التعزية بوفاة أحد المعارف. فكان الحضور الى مجلس الفاتحة يدسٌون في جيب صاحب العزاء مبلغا من المال يعينه على تحمل النفقات وهي ثقيلة في معظم الأحيان، فكان أهل السوق يخفٌون للمشاركة في الصلاة على المتوفى وعلى حمل تابوته الى مثواه الأخير أكان قريبا أم بعيدا حسب موقع المقبرة ويسمى هؤلاء الدفانّة . وهنا يكون لزاما على عائلة المتوفى إقامة عشاء سخي يسمى بعشاء الدفٌانة ويكون عادة مفتوحا لأي عابر سبيل تشفعا ورحمة لروح فقيدهم. طبيعي أن هذه المساهمات الطوعية تعتبر شبه دين في عنق من تلقٌاها فتراه يبادر الى ردٌها في المناسبات المماثلة حسب مقدرته، آخذا في الإعتبار أن يكون الرد متناسبا كمّا مع ما إستلمه من قبل.
وكان التكافل الإجتماعي يبدو واضحا في المناسبات الحزينة والسعيدة، فأنت ترى أهل السوق يوقفون أعمالهم ليشاركوا في تشييع متوفى، ولا عبرة هنا بالمذاهب فالكل أمام الله سواء، بما يكشف جوهر هؤلاء الناس حين يجمعهم الرزء. وجدير بالذكر أن الشيعة من سوق الشيوخ يشيعون موتاهم الى النجف حيث يوارون التراب هناك تبركا بأضرحة آل البيت عليهم السلام. أما السنٌة فيدفنون موتاهم في الناصرية أو الزبير وذلك لعدم وجود مقبرة في سوق الشيوخ تصلح تربتها لهذا الغرض.
وأهل السوق مغرمون بزيارة أضرحة الأولياء. وبما أن المنطقة خالية من هذه الرموز، فما كان من أحدهم إلا أن يبني غرفة وشبه قبة في الجنوب الغربي من المدينة أطلق عليها إسم المياهيل أي المجهولين، وقد يكون الناس صدٌقوا أن هذا المكان لشخص ذي كرامة لابد من التبرك بزيارته دون التثبت من حقيقة الأمر، فكان أن صاروا يترددون على المزار يلطخونه بالحناء واضعين بعض النقود والنذور لعله يتشفع لهم، ولست أدري من كان المستفيد من هذا النصب. وياللمفارقة أن هذه الكلمة ذات معنيين كلاهما ملائم لموضوعنا… فالنصب بفتح النون وتسكين الصاد تعني التحايل في أمر ما. وأما إن قرأت الكلمة بالنصب أي بضم النون والصاد فذلك يعني رمزا مشيدا.
يذكرني هذا الأمربما حصل في خمسينات القرن الماضي لمبنى وزارة الخارجية العراقية الكائن قرب باب المعظم مقابل السجن المركزي سابقا، فقد كنا نرى زوارًا قادمين من بلاد أخرى في طريقهم الى الكاظمية لزيارة مرقد الإمامين عليهما السلام، كانوا يلطٌخون باب الوزارة بالحنٌاء ويتركون بعض الحلوى تبركا بالمبنى الذي كان يشبه مدخل جامع.
/6/2012 Issue 4224 – Date 12 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4224 التاريخ 12»6»2012
AZP07