قصص قصيرة جداً
أنا وهم
نهار حسب الله
أنا ومظفر النواب
1 – غابتْ الزرقة والصفاء عن السماء، وأصبحت إشراقة الصبح سمراء على غير عادتها، وتحول لون خيوط الشمس من ذهبي إلى أسود قاتم، وصار النهار معتماً..
تساءلت في نفسي عن أسرار هذه التغييرات، وعللت السبب بأنه صراع ما بين الكواكب والشمس.. وكررتُ السؤال في المقهى الشعبي الذي اعتدتُ التواجد فيه ساعات المساء.. وبما ان صباحاتنا صارت مظلمة.. بات سكان الحي يسكنون المقهى من الفجر حتى الغسق.
لم يعر الناس سؤالي أي اهتمام، كانوا ضائعين ما بين الحديث عن البطالة والسياسة ولعبة الدومينو والثرثرة وأصوات أقداح الشاي..
جلستُ وحيداً أراقب تعابير الوجوه الحزينة، وإذا برجل يقترب مني وقتحم وحدتي، لم أتعرف عليه للوهلة الأولى، ولكني عرفت أنه الشاعر العراقي مظفر النواب من نبرة صوته وهو يقول بأسى (قد تُشرقُ الشَّمسُ من حُزننا غَاربة).
2 – منافي السجون شديدة البرودة لدرجة انها لامست عظامنا، ومنى الوسادة صار بعيد المنال، بعدما صارت عظامنا تلتحف الجلود..
كنتُ قابعاً في زنزانة نهارها ليل وليلها طويل.. رحتُ أرسمُ على جدرانها شموساً وغيوماً وأمطاراً وبلابل ووجوه عاشقات وبراءة أطفال.. ولكن العتمة كانت تمحو رسوماتي كلها، لتعيدني الى امنية الحرية المستحيلة.. وما من صوت يجول في رأسي ويقتل الامل في داخلي إلا صوت الشاعر العراقي مظفر النواب وهو يردد مرارا (إذا رأيت عربياً نائماً فأيقظه حتى لا يحلم بالحرية)..
ومن كثرة التفكير بتلك الكلمات أستحال عليّ النوم غير اني غفوت قليلاً وعندئذ أدركت الحلم ولكنه كان مشوشاً بالمرة، ذلك ان مرآة أحلامي كانت مشروخة..
أنا ولطفية الدليمي
1 – مطأطئ الرأس، شاحب الملامح، دامع العينين، هكذا كنت أسير برفقة ظلي الكئيب في مقبرة الصمت… أتخطى ما بين القبور والشواهد وأسماء الموتى وقتلى الحروب ومجهولي الاسماء والهوية..
سكون المقبرة الموحش؛ كان يُسمعني أصواتهم من تحت التراب..
يقول أحد الموتى بصوت مجروح: لو لم تبتعد حبيبتي لما توقف قلبي.. ويشكو آخر: عشقتها بصدق فرجموني حتى الموت، وينطق ثالث: جردوني حتى من أسمي، ربما لأنهم أرادوا منحه لواحد غيري، ويقول صوت انثوي باكي: أختفى زوجي كما الطيف، ولم أجده بعد بحث طويل، لكني متأكدة انه راقد بالقرب مني، هنا تحت التراب.. وتوالت الاصوات وتحول السكون الى ضجة كبيرة، ربما لأن الموتى كانت بهم حاجة الى من يصغي لمآسيهم.. غير ان فكري شرد بعيداً عنهم، ورحت أتذكر مقولة الروائية العراقية لطفية الدليمي (لوعرف الأحياء كيف يحبون لتناقصت المقابر في بلادي)..
2 – أتحبها؟ – مجنون بها.. عاشق، ضائع، تائه في معالم روحها وبساتين وجهها المثمر..
– لا تصمت إذن.. حدثها بذلك، انقلها وانتقل الى دنيا الهوى..
– خجلي الدكتاتوري يعتقل لساني وراء قضبان أسناني.. وتعبيري يمتاز بالخيانة..
– لا تخف أبداً.. وببساطة طبقْ مقولة لطفية الدليمي (في الحب كل شيء ممكن، لانه لاشيء ممكن قدر المعاصي الجميلة)، التقاها بعد فترة وجيزة، ولم يحدثها أبداً ولكنه تذوق الندى من شفتيها.. وتاه في عالم آخر..
أنا ولطيف هلمت
1 – أعتصر صدري كلما أشتقتُ إليها.. وكأنها محبوسة داخل قفصي الصدري، لا بل وكأنها مستقرة في صميم القلب مع فراشات وطيور وقوارير عطر نادرة خبأتها في داخلي لأجلها وحدها دون جميع النساء.. تنبه الناس لقصتي.. واعتقد البعض إصابتي بمرض ما، فيما تعاطف البعض الاخر مع حالتي هذه من دون التعمق في خصوصيتي..
أستمر شوقي اللا منتهي في ظل غيابها الطويل واللا مبرر… إلى ان جاءت لحظة رؤياها، فلم أجد سبيلاً لتبرير سلوكي الذي صار حديث المدينة، إلا اقتباس بيت من قصيدة الشاعر الكوردي لطيف هلمت (قلبي لم يَعُد في صدري، ثمة صورة لكِ، بدلاً منه).
2 – أعيش في زمن يُطارد الطائر فيه لمجرد إنه يجوب السماء محلقاً.. وتُقطف الوردة لانها تنثر أريجها لجميع الناس دون تمييز.. كما تُقطع الألسن لأي حديث يمس السياسة، فيما تنفى العقول إن فكرت بالحرية..
وعلى الرغم من هذا وذاك أستسلمتُ لتحريض الشاعر الكوردي لطيف هلمت الذي خاطبني بقصيدته “قلب صناعي”، وتحديداً نداءه (انتزعوا كل قلب لا يحمل حب الحرية). وفور قراءتي تلك الكلمات، فتحت أزرار قميصي وكشفت عن صدري، ففوجئت بعبارة مكتوبة عليه (قلبك رهين الدكتاتورية، وأياك ان تطالب بنبضاته لئلا يتوقف نهائياً).
أنا وشيركو بيكه س
1 – أعتدتُ الذوبان في الصور الشعرية التي يبدع التقاطها الشاعر الكوردي شيركو بيكه س، ذلك ان كتاباته تلامس إحساسي وتنسجم مع بساطتي، وكأنها تعتسلني من الداخل..
أصبحت حروفه على طرف لساني؛ وباتت جزءاً من خطابي اليومي، وعلى الرغم من هذا كله، كنتُ أتأمل حال سماعي أو انتقال بصري الى قصيدته “اناشيد حجرية” التي جاء فيها (لم أكن برعماً غريباً تنتزعني أول عاصفة) كنتُ أوافق الشاعر على اني لست ذلك البرعم الصغير، غير ان العاصفة الهوجاء اقتلعت جذوري كلها وأبقتني وحيداً، منكسراً أعاني التيه.
2 – لَمْ أكنْ ذلك الإنسان الذي يصغي لأوجاع من حوله، لا أسمع صرخات الناس المتزلزلة، حتى لو هزت جدران قصري، وحتى لو عكرتْ صفوة روحي.
كنتُ أعمد على تجاهل تلك الاصوات، لأنها لا تكف عن التوسل والشكوى والمطالبة.. غير ان شيركو بيكه س أوصل إلي معنى الخوف في إحدى قصائده التي طالعتها في إحدى المجلات حيث قابلت عيني في ذلك المساء الغارق بالضجيج والزعيق الذي يسيطر على مسامعي ويقترب مني رويداً رويداً..
كان مطلع القصيدة يقول (أخاف من الجموع الغفيرة للكلمات الجائعة والغاضبة جداً) مما أشعل فتيل الأزمة في روحي وأرغمني على التنحي عن السلطة وطرق أبواب البلدان لاجئاً.