أنا كاتب ولا أعاني‮ ‬عقدة الروائي – نصوص – شكيب كاظم

أنا كاتب ولا أعاني عقدة الروائي – نصوص – شكيب كاظم

كنت أحدس، ما الذي سيؤول اليه مصير هذا الشيخ مرهف الحس، وهو الذي رأى ما الذي آل اليه الحال، هذا الشيخ الذي أمضى العمر في رحاب الحرف، قراءة وكتابة، صعب عليه ان يرى الذي أمضى العمر، من اجله صار هشيماً تذروه الرياح، لذا ما فاجأني نعيه مساء الاربعاء الثالث من حزيران/ 2015  لكن صعقني وأبكاني نفسياً وروحياً، ان لم أقل دمعة حرى، فأنا ومنذ سنوات بعيدات أتابع المنجز القصصي للقاص العراقي المبدع أنور عبد العزيز (1935- 3/6/2015) الذي أعده أحد أعمدة القص العراقي، وقد أصدر على مدى حياته الابداعية التي بدأها عام 1958 بقصة (شروق) التي نشرتها جريدة (فتى العراق) بالموصل، أصدر ثماني مجاميع قصصية، صدرت الاولى وعنوانها (الوجه الضائع) 1976 وأخر ما صدر له مجموعته القصصية (حلم البلبل) وصدرت في ضمن سلسة (سرد) عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد، وضمن مشروعها المهم (بغداد عاصمة الثقافة العربية) عام 2012 وكان آخر ماصدر عنه كتاب نقدي، درس فيه مجموعة من الباحثين والنقاد، المنجز السردي لانور عبد العزيز حمل عنوان (سحر التشكيل ودهشة التدليل. قراءات في الخطاب السردي (النور عبد العزيز) صدر في ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في نينوى سنة 2014 شارك فيه، جاسم خلف الياس وأحمد جار الله وجعفر الشيخ عبوش وسوسن البياتي وصلاح سليم علي وعلي أحمد العبيدي ونبهان حسون السعدون، وتفضل علي بنسخة منه مهداة مؤرخة في 22/ 3/ .2014

لقد اتسمت عناوين مجموعاته القصصية بالقصر، اذ تتألف من كلمتين اثنتين، وبين يدي مجموعته الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 1993 والموسومة بـ (طائر الجنون)، وأرى في اسلوبه نفساً كافكويا فضلاً عن سمة تشيخوفية.

عام  2011 صدر كتاب أنيق يقع في اكثر من مئة صفحة من القطع المتوسط طبع بمطبعة الحسن بن الهيثم بالموصل، وأشتمل على مقابلة طويلة أجراها معه القاص غانم البجاري، وقد أمتدت المقابلة المعرفية الجميلة لتصل الى مئة سؤال، تناولت نواحي متعددة من حياة أنور عبد العزيز وكتاباته وأرائه في الحياة والأدب واحوال العراق والأمة العربية والعالم، وأطلق البجاري على كتابه هذا عنوان (حوارات مع شيخ القصاصين أنور عبد العزيز).

الحياة في أنطلاقها تشبه سباق الركض السريع للمسافات الطويلة، يشارك في الانطلاقة عدد كبير من الناس، لكن مع طول المسافة والتعب الذي يصيب المتسابقين تقل الاعداد رويداً رويداً، ولا يفوز بالوصول الى نقطة الفوز، الا عدد قليل، كذلك عوالم الأدب والكتابة، تحتاج الى مطاولة ومصاولة واخلاص، وتبتل، ونسك، وابتعاد عن سفساف الامور  وغثها، فلقد بدأ انور عبد العزيز الكتابة منذ منصف عقد الخمسين من القرن العشرين، وعلى مدى هذه العقود الطويلة، ظهرت أصوات ونشرت كتابات، لكنها لانشغالها بالعابر واليومي، انحسر تأثيرها وانزوت في تكايا النسيان، الاه هذا المبدع الشغوف بالحرف والمخلص لشرف الكلمة، والزاهد بملاذ الدنيا والعازب عما يحتطب في ليله المحتطبون، بحثاً عن نشب الدنيا الزائل، الاه هذا المبدع، أنور عبد العزيز ظل يواصل الحرث في دنيا الابداع والكتابة، فأنتج هذه المجاميع، فضلاً عن الف مقال في مختلف فروع المعرفة والثقافة والأدب والنقد، فقد حظيت العديد من الكتابات بمراجعاته النقدية التعريفية، لهذا أجد أن القاص غانم البجاري، قد أحسن صنعاً وهو يجوس بمبضعه الحواري عوالم هذا المبدع، الذي أخلص لدنيا الحرف وامضى جل العمر، لابل كله متعبداً في محرابه، وجمعها في كتاب سيظل مرجعاً لمن يريد درس الفن القصصي لدى أنور عبد العزيز، فضلاً عن آرائه في الحياة والسياسة.

هاجس الرواية

كثير من قصاصينا الكبار، يظل هاجس الرواية يؤرقه، انهم يريدون احتياز كلتا الخصيصتين، القصة والرواية، لكني أجد ان الكثير منهم ما أفلح في تقديم عمل- روائي يعتد به، ويكون علامة شاخصة على منجزه الابداعي، يظلون يكتبون قصصاً يمطونها ويطيلونها ليجعلوا منها روايات، مطففة الكيل، اذا  ما اخضعت لميزان النقد ومختبره غير المحابي والمجامل، ام لم أقل الكاذب، عداهما.

محمد خضير هذا المبدع الكبير الذي ظل يبحر في عوالم القصة القصيرة قائلاً: (وهذا يفسر الى حد ما، لماذا أكرس جهدي لكتابة عمل قصير أعلم حدوده وامكاناته، قانعاً بمزاياه الخاصة جداً، فقناعتي ليست قناعة الطبع الشخصي، بل هي الايمان بكفاءة النوع والاداة التي استوعبت هذا الطبع ومرنته على بساطتها وكفايتها، وتلك- لعمري- مأثرة عظمى من مأثر الفن، ما كان مؤلف يدركها وسنواته الباقية لم تعد كافية لانتاج قطع فنية عظيمة تستوعب مطامحه الطويلة، الا بعد جهد جهيد في ترويض أداته البسيطة، أدت به الى الامتثال لبساطة الأداة، حيث لا مطامح خارج حدودها.

وفضلاً عن القاص العراقي المبدع عبد الستار ناصر (1946- 2013) الذي يعد نفسه قاصاً في المقام الأول، وثالث الاثنين مبدعنا أنور عبد العزيز، الذي يقول جواباً عن السؤال الثاني عشر لمحاوره غانم البجاري: ما هي مشاريعك المقبلة؟ وما هي مستويات المشاركة مع الاخرين في كتابة قصة، أو رواية، وهل تميل الى مثل هذا العمل، مثل  كثير من الكتاب والأدباء كجبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف؟

يجيب: صدرت لي- كما تعلم- ثماني مجموعات قصصية، وسبع مساهمات في مجموعات قصصية مشتركة، لم أفكر في تقليد تجارب الاخرين، رغم اعتزازي بتجاربهم، فانا كاتب قصة قصيرة واعتز بهذه التسمية، ولا أعاني عقدة الروائي التي اصيب بها العديد من القصاصين العراقيين، فأصدروا عشرات الروايات البائسة التي لم تكن غير قصص قصيرة حاولوا أن يمططوها ويطيلوها واهمين أن الرواية هي صفحات كثيرة، ونسوا أن الفن الروائي شيء أخر زماناً ومكاناً واحداثاً وشخوصاً وثيمات، فوقعوا في مطب الفشل، بعد أن أوهموا أنفسم بالحصول على لقب الروائي، الرواية افق واسع وشبكة علاقات وحياة موضوعية حية..

لم نجد لكل ذلك أي أثر في عشرات الروايات التي صدرت منذ ثمانينات القرن العشرين، وحتى الآن الا في قلة نادرة,, أنا فخور وسعيد بأنني كاتب قصة قصيرة، وسبق للقاص المصري المبدع يوسف الشاروني أن قال مثل هذا الكلام مستغرباً سؤال محاوره، لماذا لا تكتب رواية؟

فأجاب منزعجاً من السؤال:  أنا كاتب قصة قصيرة، وكذا أجاب المبدع محمود جنداري في آخر حوارياته: أنا كاتب قصة قصيرة.

ويؤكد مبدعنا أنور عبد العزيز، هذا الرأي غير هياب ولا وجل ولا خجل جواباً عن السؤال الخامس والأربعين ليقول: في مسألة الفن، لا يوجد صعب أو سهل.. توجد رغبات كتابية ومحاولات ابداعية، أنا كما قلت في اجابة سابقة: كاتب قصة قصيرة..

لست عاجزاً او كسولاً عن كتابة رواية ولكنني اكرر. أنني كاتب قصة قصيرة وانا اعتز بهذا العنوان والوصف، ولن اتحسس أو أشعر بأي عقدة    من عقد كتاب القصة القصيرة في سعيهم المتخبط للحصول على لقب الروائي.

تقرأ هذا الكتاب (حوارات مع شيخ القصاصين أنور عبد العزيز) فتلمس صفة الوفاء، الوفاء الذي أصبح نادراً في هذا الزمن المعولم، الذي ضربه غلاء الأسعار، بسبب رعونة المنظمة النفطية التي زادت أسعار النفط بشكل غير مسؤول سنة 1974 اقول: يتميز بصفة الوفاء النادر والذاكرة الوقادة الذكية، التي على الرغم من هذا العمر الممتد، وهذا الطنين المدمر الذي ضرب أذنيه  منذ سنة 1981 الذي تحول الى صمم، مازال يذكر اساتذته في قسم اللغة العربية بدار المعلمين العالية ببغداد، بكل الخير والعرفان بجميل علمهم واخلاصهم، الدكاترة علي جواد الطاهر، ومصطفى جواد، ومحمد مهدي البصير، وعبد الرزاق محيي الدين، وكمال ابراهيم، وعاتكة وهبي الخزرجي، ونازك الملائكة، وصالح جواد الطعمة، وتقي الدين الهلالي، وعلي الهاشمي، ومحمد الهاشمي، ونوري الحافظ، وصفاء خلوصي، وسليم النعيمي، وأمجد حسين، وسهيلة أسعد نيازي، وأحمد حقي الحلي، وعبد العزيز البسام، ونوري جعفر، وعبد الجليل الزوبعي، ومازال يذكر زملاءه من الطلبة في الكلية الذين أضحوا أدباء واساتذة جامعات وباحثين موهوبين معروفين: جليل كمال الدين، وعبد اللطيف اطميش، وزهير رسام وعز الدين مصطفى رسول، ومحمود الجادر، وياسين طه الحافظ، ونور الدين فارس، وفاضل العزاوي، وصلاح نيازي، وفائز الزبيدي، وصاحب جعفر ابو جناح.

انه منظم ودقيق، ليس لديه وقت فراغ، وتزعجه مقولة قتل الوقت، فهل حياتنا الا هذا الوقت فكيف نحاول قتله؟!

يقول أما مسألة قتل الوقت فليست واردة، فان اثمن الأوقات واكثرها ضرورة تلك التي اصرفها على القراءة والكاتبة معا، مع الرغبة الجامحة في ان أظل مع فورة الحركة الأدبية واخبارها وعناوينها واسماء أدبائها: موصليا وعراقياً وعربياً وعالمياً.

لقد مرت على العراقيين خيبات وانكسارات، اذ ضربهم العصف السياسي الذي حاق بالبلد منذ ذلك اليوم التموزي الخمسيني، فضلاً عن خيبات عالمية وهزائم افكار طوحت بها الأيام.

كان لها تأثيرها على الحياة في اركان المعمورة كلها، لكن مع الأيام تهاوت هذه الأيديولوجيات التي أخذت عمر الناس في بلادي وطوحث ببعض منهم في السجون، أو اضطروا الى مغادرة البلد، أية خيبة أن تجد هذا الفكر الذي تعهدته وصرفت العمر من اجله يتحول الى يباب وهباء، بسبب دكتاتورية رأس السلطة وتطبيل الثلة الخائفة المحيطة به، الخائفة على رؤوسها من أن تطير ومصالحها من أن تذهب، يأتي الجواب، جواب أنور عبد العزيز، صوفياً روحياً يسمو على الخيبات والجراح، جراح النفس والجسد ليقول: نعم، وكما تفضلت فأنا وقعت في متاهات الاماني، ولكن مما يعزيني أنني لست الوحيد في خداع الاماني، وتسعون بالمئة من الراحلين والباقين هم ضحايا هذا الخداع اللذيذ، الذي- قلما- نجا الا القليل من أحابيله وشباكه العنكبوتية،  وأؤكد أننا حققنا أشياء لوطننا ومدينتنا وانفسنا ولكن مع المراجعة الدقيقة الصادقة مع النفس نكتشف (…) ان ما حققناه في غالبيته لم يكن من الاهداف الحقيقية، أي حرج وأي حزن وأي خذلان وأي ندم عندما نؤكد أن ما حصل لنا كان حقيقة وليس سراباً وخداعا، واننا بعد كل هذا نكتشف أن الاهداف الحقيقة التي سعينا اليها وبذلنا فيها ما بذلنا من تعب وصبر لم تكن هي وان ما توصلنا اليه كان شيئاً غير ذلك..ما الذي نستطيع الآن قوله بعد كل هذا العمر!

وهل نلجأ كعادة الخائبين للأسف والندم؟

والله لن أندم على شيء، ولن اسف على ضياعه، وما صار قد صار.. وحصل الذي حصل، وما فات مات. وما كل آتٍ آت.