أمريكا والعراق النموذج الأسوأ
لأكثر من عقد ظل حديث الولايات المتحدة الامريكية بشأن اقامة الشرق الأوسط الجديد لغزاً غامضاً لا يقدم أي اطار سياسي أو اقتصادي استراتيجي واضح الكيفة أو الملامح غير أن تصريحات مخططي السياسة الامريكية بشأن اقامة عراق ديمقراطي يُعد أنموذجاً تحتذي به جميع دول الشرط الأوسط جاءت بمفتاح اللغز وقدمت تصورات ناضجة نظرياً لما تصبو اليه الولايات المتحدة وما تسعى الى تحقيقه من خلال غزوها للعراق عام 2003 .
حدث الاحتلال وبدأت عملية هدم منهجية واسعة لأسس الدولة العراقية القديمة بحجة أقامة أسس الدولة الديمقراطية الحديثة ومضت المسيرة المتعثرة لخطط المحتل وما أفرزته من تبني عملية سياسية ديمقراطية بائسة تقوم على أسس طائفية وفئوية أدت الى تمزيق النسيج الوطني وزرع تناقضات خطيرة في بنية المجتمع العراقي مما قاد الى خلق صراعات حادة بين منظومة الحكم التي هيمنت عليها جهات سياسية محسوبة على الشيعة وبين جانب كبير من المكون السني الذي بات يشعر بالتهميش والاقصاء المتزايد مع تزايد هيمنة وتمكن الجهات الحاكمة من أدوات ووسائل السلطة فتفاعل الامر بطرق مختلفة أدت الى قيام مايشبه الحرب الاهلية عامي 2006 و2007 التي انتهت بعد أن أنهكت قوى طرفي النزاع وبعد تبلور ارضية مشتركة لتفاهم وتقاسم هش للسلطة ثم بدأت ملامح اخرى لتناقض واضح .. وصراع خفي ومتأرجح بين واجهة السلطة المتمثلة بأئتلاف دولة القانون الممسك برئاسة الوزراء وكافة المفاصل الرئيسية في الدولة العراقية من خلال رجله القوي نوري المالكي وكابينة مستشاريه ومقربيه وبين القوى الشيعية الحليفة له والمنضوية مع ائتلاف دولة القانون في الائتلاف الوطني الأوسع من جهة ومع التحالف الكردستاني المرتبط مع المكون الشيعي بتحالف أخلاقي وتاريخي يستمد قوته من وقوفهم المشترك بوجه النظام السابق كما خلق معارضة متسعة لدى معظم القواعد الشعبية والمثقفين ووسائل الاعلام الحرة نتيجة السياسات الخاطئة التي ادت الى انهيار الخدمات وتفشي الفساد ونهب المال العام وزيادة الفوارق الطبقية الحادة بين فئات المجتمع مما حفز على القيام مظاهرات واسعة في بغداد وعدد من محافظات العراق في حملة احتجاجات شعبية بدأت منذ شهر شباط عام 2011 متأثرة بموجة الاحتجاجات العارمة التي اندلعت في الوطن العربي مطلع عام 2011 ثم استمرت بشكل مظاهرات متقطعة في مواجهة ترسانة عسكرية هائلة اعدت لاجهاضها حتى بلغت الاحتجاجات أوجها في المظاهرات التي خرجت احتجاجا على الفساد وتردّي الخدمات وللمطالبة بالغاء الرواتب التقاعدية في 31 / 8 / 2013 في حين اتجهت المناطق ذات الاغلبية السنية الى تحويل مظاهراتها المزامنة الى حالات اعتصام واسعة ترفع الكثير من الشعارات والمطالب المشروعة وغير المشروعة خاصة منذ حادثة أعتقال حماية وزير المالية رافع العيساوي في كانون الثاني / 2012.. وبينما قوبلت تلك الاعتصامات باستخفاف وتجاهل الحكومة بداية الامر جوبهت فيما بعد بأساليب عسكرية قاسية في قضاء الحويجة التابع لمحافظة كركوك ثم بفض مظاهرها بالقوة في محافظة الانبار مما أدى الى فتح أبواب حرب مفتوحة شاركت فيها جميع صنوف الجيش العراقي وأدت الى أكبر عملية تهجير للسكان منذ نهاية الحرب الطائفية عام 2007.
لقد تفاقمت الحرب في محافظة الانبارعموما ومدينة الفلوجة التي لازالت مستمرة منذ أكثر من ستة اشهر خصوصاً فأوجدت شرخاً كبيراً في علاقة اهل السنة بالحكومة كان من نتائجه المباشرة أن استطاعت العناصر التكفيرية المتشددة من استثمار ذلك الصدع والحصول على حاضنة سكانية حفزتها للقيام بتعرض مفاجئ على بعض المواقع العسكرية في محافظة نينوى التي انهارت بسرعة مذهلة بتاريخ 10 / 6 / 2014 مثلما تساقطت المدن المتتالية كقطع الدومينو وبعد سقوط ثلاثة محافظات بيد القوى المعارضة للحكومة بشتى مسمياتها وتخلي القوات الحكومية عن محافظة كركوك لتصبح تحت حماية وسلطة قوات اقليم كردستان وتوجه العناصر المسلحة باتجاه اسقاط محافظة ديالى ها نحن نقف الان عند مفترق طرق خطير لا يبعد كثيرا عن اطراف بغداد .. ونقف عند مفترق الطرق متعدد الوجهات فهو اما ان يؤدي بنا الى الحرب الاهلية الطائفية مرة اخرى او الى تقسيم العراق او الى قيام سلطة دكتاتورية متغطرسة تحت ذريعة الحفاظ على السلامة الوطنية أو الى اسقاط العملية السياسية الحالية في العراق . وبكل الاحوال فقد اثبتت الاحداث المتلاحقة لاكثر من عشرة أعوام فشل التجربة الامريكية للديمقراطية في العراق كما أثبتت فشل الحركات والاحزاب الاسلاموية في ادارة شؤون الدولة رغم كل ما حضيت به من دعم امريكي ودولي واقليمي وشعبي بل واثبت انحرافها الشديد عن منطلقاتها النظرية وقيمها العليا المستمدة افتراضيا من روح الاسلام الحنيف وانغماسها الشديد في التسلط والظلم والتعسف وسقوطها في وحل اغراءات شيطان السلطة والاستئثار بمقدراتها والاستحواذ على جميع مفاصلها ونهب وتبديد المال العام . لقد قدمت أمريكا وتلك الاحزاب أسوء تجربة حكم في العالم الحديث .. بل وربما في العالم القديم منذ عهد قرقوش .
مكي الغانم- الديوانية