أغبى من ترودي
وسبب تسميته ترودي مجهول ، لكن هذا لايهم فالأسم هو لمجرد تمييزه عن باقي الأقران،هذه الفكرة الشاحبة كانت تثير فيه عواطف مختلفة ، فهو دائما معلق بحلم مائل أن يصبح عظيما ، يوقظ في أعماقه تمنيات واحدة تلو الواحدة ، تنتزعه من بغوليته كما ينتزع نسيم المساء عطر الزهور.
من هذا الحلم الوردي تنبثق حقاْ نفحة سلوكه ، إلا ماكان يزداد به شعورا ، ويسبب له الشقاء ، عندما لايبقى ثمة شيء يفعله ، وهذا يرمز له لنهاية كل شيء بالنسبة له ، عندئذ ينتابه شعور يستحيل أن يصبح عظيماْ ، كما يستحيل أن تبقى قطرة الماء كروية عندما تسقط على الأرض .
ربما كان في السابعة من عمره ، كان فتى صغير ، يرتدي جلبابا سماويا اشتراه له أبوه من سوق القامشلي ، مازال يذكر ذلك حتى الان ، عنما اتكأ على حجر في فناء الحوش ، وخطرت في فراغ رأسه تلك الفكرة ، كان يجلس بالقرب من والده وينظر إلى السماء ، يراقب الخفافيش تقبل وتدبركالأشباح في هالة ضوء القمر وتسقط فجأة في الظلمة ، وحين تتلاشى تماما يسود تفكيره ارتباك مجهول ، ويشعر قلبه بكثير من الهدوء حين تعود الخفافيش من جديد ، كان هذا المنظر في الصيف أشد فتنةَ ، وعندئذ تبدو تلك الفكرة براقة بصورة خاصة ، لكأنها تلك الكائنات الشيطانية هي من أوحت إليه بذلك .
كان يحب المضي الى المسجد ، فقد كان لديه انطباع دائم أن الجامع ملئ بالإنشراح، على حين أنه في الواقع خالي منها ،لعل هذا الإنطباع من الجمع بين الإنشراح والمسجد ، قد انبثق من فكرة الجمع بين العظمة والخفاش ، فكان يمضي إلى المسجد كلما أتيحت له الفرصة ، ولعل حبه الشديد للمسجد هو الذي يجعله يتذكر الخفاش.
ذات يوم ذهب إلى صلاة الجمعة ،ربما كان قد بلغ العشرين من العمر ، الجميع هنا ، يصغون باستمتاع الى الإمام ،هو رجل مبارك لا تطأ قدمه الأرض قبل أن يكبر لله ولا يخطو خطوة دون بسم الله ، كل كلماته حكم ومواعظ ، يعطيها وقع في النفس لحيته التي أطالها حتى لامست شعر عانته ، حليق الشارب ، يرتدى نصف دشداشة رثة ، ويضع على رأسه خرقة بيضاء متسخة ، هذا كله من شدة الزهد في الدنيا والتقوى بالإيمان .
بعد أن أنهى خطبته أشار إلى ترودي بإصبعه أن اقترب ، اندهش ترودي من دعوة الشيخ ، وقدم نحوه راكضا ، بينما تجمهر بعض المصلين يتدافعون عند مدخل المسجد ، وينصتون بإصغاء مادين رقابهم نحو الشيخ ، كانوا متجهمين للغاية ، والجميع يفكر ، وكل على طريقته ،وهم منشغلون على معرفة ماذا يريد الشيخ من البغل ترودي ، والبعض القليل منهم يعتقد أنه لايجوز سماع ذلك ، وكانوا يفعلون ذلك على طيب خاطر .
خاطب الشيخ ترودي بكل احترام وهدوء :
_ أيها الطيب ترودي عليّ أن اقول لك شيئاْ
هز ترودي برأسه مفسحاْ المجال للشيخ أن يتابع حديثه :
_ علي ّ أن أقول لك بضع كلمات ، ولكن يصعب لفظها ، أيها الحبيب ترودي ، إذا قارنا الانسان بالحيوان فلم تجد تلك الفروق الشاسعة بينهم ، فالكل متوحش ، ويحب أكل اللحوم ، وإذا كنت تريد ان تكون عظيما لابد ان تكون وحشا مما يقتلون ويأكلون لحوم ضحيتهم
في بداية الحديث ابتسم ترودي ابتسامة خفيفة ، لكن نظرته أصبحت اكثر حدة وقساوة ، وهاهو الان يتجهم تدريجيا حتى اصبح وجهه أسود.لكأن الخفاش النائم في داخله استيقظ ، ففتح عينيه مندهشا وأخذ يبتسم بانشراح ، وهز رأسه موافقا ، وهو يسأله بغباء:
_ هل يجوز أكل لحوم البشر ؟
_ تريد ان تقول هذا الشيء غير صحيح ؟ نعم كل العظماء يأكلون لحم البشر
ادرك ترودي الأن لماذا ينظر إليه الأطفال بتلك العيون الخائفة ،نهض من مكانه بسرعة ، ولكن ذلك الهيكل الاّدمي قد هرب الإنسان من داخله ولم يبق له أي أثر ، أصبح الاّن عضوا من أعضاء هذه العصابة ، التي تأكل لحم البشر ، ويخافون في الوقت نفسه أن ياكلهم أحد ما .
هنا في الجامع علم أحد أسرار العظمة ، والأسرار اثقال حقيقية فوق الجسم ،تصبب العرق من وجهه بغزاره ، ساء وضعه ،لكنه مصمم -مهما كلفه الامر من ثمن ، مصمم أن يسمع أفواه الناس تهتف بذل:
– ترودي العظيم
هذه الفكرة بعثت فيه النشوة ، إنها المخرج الوحيد ، كان متكأْ على حجر في الحوش ، في السماء القمر الربيعي معلق ، وضاء ووديع ، يسكب ضؤه الفضي على شجرات الصفصاف ، في الحوش نسمة خفيفة منعشة ، كل شيء عذب ، كل شيء يهوم في حركة فاترة ، تحت الهلال كانت نجمة جنيّة تبتسم له ،تحت القمر وفوق شجرة الصفصاف تقبل الخفافيش وتدبر كالاشباح ، تلك المخلوقات الخارقة هي أمله كلما فكر .
في الصباح التالي وقبل أن تبزغ الشمس وتفتح الأبواب ، كانت أم ترودي تبكي ، ياله من منظر مرعب وكئيب وحزين ، الأخت انتزع كبدها بعد أن قتلت ، كانت الأم تبكي بصمت ، وترودي يحاول اقناعاها أن تكف عن البكاء، دموع الأم كانت تثير في داخله شيئا من تأنيب الضمير ، لكن لماذا فعل ذلك مادام عنده شيء من الضمير؟
الأخ أكل لحم أخته ، الأم نعرف ذلك لكنها لم تقل شيئا ، وكانت تكتفي بالبكاء ، ربما كانت تعتقد أنه لايجوز فعل إلا هذا.
فؤاد حسن محمد – جبلة