قصة قصيرة
أعمدة من نار – نصوص – مزهر جبر الساعدي
وضع الأوراق أمامه ،سودها بالحبر الجاف . ثم أسترخى في جلسته ،قرب نافذة صالة شقته
،أتكأ على ظهر الكرسي خلفه ،أمسكت عيونه ،عبر زجاج النافذه ،ظلال على القبور وسياج المقبرة أمامه ،تأملها من مكانه في شقته الواقعه في الطابق الثاني ،خلفتها بقايا أضواء شمس هاربة ،أختفت الكتلة الحمراء الدائرية والتي بدت في خياله مثل نار ملتهبة، وراء البنايات العالية أفرد الأوراق ،ظل فكره منشعل بالبحث والحفر في دروب دماغه ، لعله يعثر على شيء آخر ،لم يحضره ،أختفى في ظلمة السنــين.
رغم أنه ،متأكد من أن دماغه ،لا يخذله أبدا ، يخرج من الدروب والحجرات فيه ،ما أودعته السنون في مخازنه . أنتشلته ،طرقات على الباب. عرف الطارق ،من قبل ان يصل اليه :- (أنه عمر صاحبي ،مرت أيام لم يزرني ،حظر الآن ). يشتاق اليه ،لا يغيب عنه كثيرا ،أيام فقط . عندما يأتي ،يمظي الليل معه ،
لا يغادر،يظل الى آخر قطعة من الليل ،عندما ينسحب الليل ويخلي الطريق ليوم آخر ،يشعر عمر أن لا وقت آخر لديه يمضيه مع ضمير .
ــ ضمير الى اللقاء ،الى ليلة أخرى .
صار أمام الباب ،يعلم أن أمام الباب ،من الجهة الأخرى ، صاحبه عمر . هزته دفعات فرح في نفسه ،حطت أمامه ليلة بوح ،يفرغ فيها ما يؤلمه ،ثمة أشياء كثيرة تحاصره ،تضيق عليه منافذ الصوت ،الى درجة ،مرات كثيرة ،يغلق فمه ،يدخل منطقة الصمت ،لا أحد معه ،تظل الأفكار والرؤى داخله ، تنزل من عقله ثم تأخذ بالتجول في محطات النفس .
فتح الباب .
ــ تعال ،يؤلمني غيابك كثيرا عني . ثم مسكه من يده اليسرى ،لأن اليمنى بترت في حرب عام 1991 . أجلسه على الكرسي امام منضدة الكتابة ،أستمر واقف قرب صديقه للحظات .
ثم دخل المطبخ المفتوح على الصالة بباب ذي فردة واحدة . من هناك قال :.
ــ أنتظرني دقائق ، أعد خلالها طعام العشاء ومستلزمات السهرة .
رفعت رأسي أنظر اليه، متفحصاَ من في الباب الى الجانب من السائق . من رقدتي في السرير الجواني ،سرير آخر ،فوقي ،فارغ ،سريري خلف مقعد السائق ،سنتمترات قيليلة، تفصلني عنه . أنزل السائق زجاج نافذة الباب ،ليتحادث مع العسكري ،تلصصت عليه ،من مكاني ،لا يراني ،شبه مختفي وراء جسد السائق الضخم ،بين وبينهما أقل من متر . لم أسمع حوارهما ،دوي المحرك أمتص صوتهما ،وجهت مسامعي أليهما فقط ،أخرجتها من الدوي في قمرة القيادة. أفشل جهدي ،دوي طائرات الأمريكان ،تحلق وحدها بين قمم الجبال ،ليس هناك ،بالتأكيد من طائرات غيرها ،تحلق هذه الأيام .أستمر الدوي في القمرة وفي السماء . دفعت بصري بخط مائل نحو الأعلى ،الى السماء ،عبر زجاج نافذة الباب المقابل ،الى الجانب الآخر من السائق . كان الوقت قبل الغروب بقليل ،تتحرك بين قمم الاجبال وفوقها ،غيوم حمر وصفر وسود . بدت مثل ديناصورات أو حيوانات متوحشة ،ترسل من فيها ،الى الأرض ،أعمدة من نار ،تخيلتها تنوب عن طائرات الأمريكان . سحبني منها رنين رأسي ،أخذني بعيدا ،لهنالك ،الى درب آخر . أمرني عقلي بالكف عن التحديق ،أهيط ،أنزلها ,لم أنزلها ،أغرتني حالة الهدوء والسكينة، رغم الرياح الهابة والأزه في شبكة الردار وعربه الصورايخ ،أذ أبقيتهما معلقتين في الغيوم الحمر والصفر والسود . لم يدم الأمر طويلا ، مدة قصيرة جدا ،اثناؤها راقبت عيوني أختفاء الغيوم خلف ستار الظلام . حل اللليل . قرأت في ساعة يدي ،فسفوريه الأرقام والعقارب ،لم يبق على انتهاء نوبتي ألا نصف ساعة . ثم أخذت مسامعي ،تلتقط طقطقات الأواني وحديث جنود البطارية ،في الملجأ القريب مني ،تقريبا خمسين مترا . أذن بعد دقائق يتناولون الطعام ،أكره تناول الطعام وحدي . وجدتني من غير تفكير ألعن الحرب بصوت عال يشبه الصراخ :. تباً للحرب ،تباً لهما . أعادت الشبكة رجع صوتي الى منصة الأطلاق . الشاشة الوامضة أمامي ،ذهلت :. ثمة طائرة تقترب من المنطقة ،ثوان وأخذت تحوم حول المنطقة، فوقي . دخلت في دائرة تأثير الصواريخ ،دست على زر الأمساك . صحوت بعد أيام ،عشرة أيام ،أعلموني عددها الراقدين بالقرب مني ،الجرحى في ردهة من ردهات مستشفى الرشيد العسكري . أفهموني بعد ثمانية أيام ،قبل يومين ،أستعدت جزءاَ من وعيي ،كنت بين الصحو والاأغماء . قلت الكثير ،لم يوضحوا ماهية القول ،عمر صاحبي ،أيظاَ لم يتكلم ،بعد يومين أقترب مني ،همس في أذاني :.
ـ أهرب
في هذين اليومين ،أصبحت بكامل نشاطي الذهني والنفسي والجسدي . لكنه حيرني بالأضافة الى أنه فاجأني. لم أسال ،تدرعت بالصمت . الذي ادخلني في ممرات وحجرات دماغي ،بحثت في ظلمتها ، ظغطت بقوة على جدرانها ،أفلحت في الأخير ،أذ أسمعني صوتي من دون صوت ،بموجاته الراكضة في فضاء دماغي ،الى أذاني .
أرجعني الى ما كان مني ،كأنه طيف في حلم ،أصوات مني أومن الأخر ،لا أعلم ،لكن الأصوات مسموعة ،ربما غير مترابطة :ـ تبا للحرب ،تبا لهما ،أحدثا شرخاَ عميقاَ ،أوقعني المجانين فيه ،أفقداني سيطرتي على جسدي ،دماغي ظل يقظاً لدقائق، متحسساتي أشعرتني بوجودي تحت خزان الوقود ،طار وحط فوقي ،قبل تلة التراب التي سقطت عليه . كنت هناك ،ممدد تحتهما .عند ما تحركت الشاحنة ،أهتز جسدي. عبرنا آخر سيطره بأعجوبة ،كيف تم الأمر ،لا أدري ،لم أتبين الطريقة التي أقنع بها السائق ،عسكري السيطرة ، قال :ـ
ـ أصبحنا الآن في الاراضي التركية . تعال ،أجلس هنا ،على هذا المقعد ،أومأ بيده أليه ،خذ راحتك ،نام ،لاحظت أنك لم تنام خلال ساعات الطريق ،أطمئن . تبسم وعاد يمسك الطريق بعينيه . وصلنا حذاء مطعم على جانب الطريق ،أستمر ،لم يتوقف خرج من المطعم ،أحد سواق الشاحنات المتوقفة على جانب الطريق ،قرب جسر ديالى ،تابعته ،أقترب من أحد الشاحنات ،وقف أمام الباب . ركضت أليه ،قبل أن يصعد ،سألته .ـ
ــ ممكن أن تقلني
بعربية ركيكة، وفهومة ،أعلمــني بها موافقته بلا وجل .
أشار لي بالصعود ،ركبت ،وضعت ثقل جسمي على المقعد جنبه ،لأني متعب ،لم أنم الليل . أومأ بيده ،عرفت على الفور ما يريد مني ،أنزلقت الى الخلف ،تمددت على السرير الجواني ،سحبت الغطاء فوقي ،أختفيت تحته ،لم يرني أي كان من النافذة . صار المطعم الى الخلف بكيلو مترين على الاقل . أشعرني وضعي بالأمان ،تركت خلفي آخر محطة من محطات الخوف . شيء آخر ألمني ،عفت أمي ،وحيدة في البيت،لم تعطني ظروفي فرصة لتوديعها . أعذريني ،قوة كبيرة، أكبر من قدرتي ،أجبرتني . لكنني بالمقابل ،خرجت من منطقة الصمت الى فضاءات الصوت . بي رغبه بأخذ الشمس من مستقرها ،لأضعها في جمجمتي ,فيتحول داخلي الى ضوء باهر ،ينير ممرات وحجرات دماغي . أخترق به أشد الأمكنه عتمه ،تصبح واضحة . تدلني على طريقي،أعرف ما فيه من مطيات وحفر . في اللحضة التالية ،أجبرني تعب جسدي وسهري على النوم . غفوت غصبا عني ،عفوت . لم ينتبه له عندما أنزل أواني الطعام على المنضده ،أستمر يقرء في السطر الأخير .
ضمير أيظاَ لم يتكلم ،أنتظر ان ينتهي .
غير أن عمر في هذه اللحظه قرء بصوت :ـ
غفوت ،غصبا عني ،عفوت .
ثم رفع رأسه الى ضمير وقال :ـ
ثمة أوضاع . قاطعة ضمير ولم يدعه يكمل ،عرف ما يريد :ـ
ــ نعم بعد أكثر من عشرين عاماً ،أتذكر :ـ فيما أصبحت تحت تله من التراب ،شممت رائحة االكيروسين ،لذلك عرفت أن خزان الوقود فوقي ،داخل كتلة التراب الكبيرة . أصاباتي كانت في جميع أنحاء جسدي ،أنت تدري ،فقط رأسي لم يصب ،أصابه بليغة .
ثم أخذ منه الأوراق ووضعها جانبا .
وبدأوا بتناول الطعام ….



















