قصة قصيرة
أطلـس إلهام
محمد السيد ياسين الهاشمي
جارنا (يونس) ضابط من (كركوك) سكن منذ سنتين، معه زوجته وطفلان وأخته (إلهام). رجل طيب القلب، متواضع. يحب عائلته وجيرانه. يتابع مسيرة أخته الدراسية.
كانت (إلهام) رسما جميلا عبقريا من متن هذا الوجود، عذبة كالطفولة، كاللحن، كالصباح الجديد، في المرحلة الثالثة المتوسطة.
في مساء خريفي، طرق الباب طرقا خفيفا، فتحته، فحياني العقيد (يونس) تحية جميلة بإشراقة وجهه اللطيف، حييته بأحسن منها، وقلت:-
– تفضل أبا (أرشد) أهلا ومرحبا.
جلسنا في غرفة الاستقبال.. احتسى كوبا من الشاي، وبدأ يتحدث عن المناهج الدراسية وصعوبة بعضها.
استنتجت أن أخته تحتاج إلى من يعينها في مادة اللغة الانكليزية.. طرت فرحا وقلت في نفسي:
– هذه فرصة ذهبية من ضربة الحظ التي ستقربني كثيرا من (إلهام) والتعرف عليها عن كثب.
أجبته بالموافقة.. شكرني وحدد أياما وأوقاتا لبدء المهمة.
أخذت أتردد عليهم وفقا للمواعيد مرحبا بي من الجميع.. ولاحظت نظراتها تفعم بالفرح الصافي، والطيبة المنعشة.. إنها نقية طاهرة لا يفارق البريق عينيها.. كنت خجولا لنشأتي الريفية.. صارحتني في أحد الأيام قائلة:
– أنت تنطوي على طاقات كامنة وافرة تكفي لمدك بكل ما تحتاج إليه من جهد، وإنك شاب لطيف، حسن البيان، مثقف اللسان.
منذ تلك الومضة حل الأمل الناعم محل القلق القاسي والتردد. أخذت أسهب معها الحديث بعد الفراغ من الدروس في أمور عاطفية حتى تعمقت العلاقة إلى حب طاهر صادق…
مضت الأيام تلو الأيام والأشهر وأنا مواظب على المنهاج الذي وضعته لمساعدتها.. كنت في الخامس الإعدادي..
فاجأتني في مساء يوم ربيعي جميل وأنا فرح بحلوله وإطلالته البديعة. وبصوتها الدافئ، باسمة مرحة، بقوامها الأبدع من تمثال زهرة.. تفضل هذا أطلسي وكراسة الخرائط، طلبت منا مدرسة الجغرافية رسم خارطة العراق نبين عليها مراكز المدن المشهورة بإنتاج النفط، والعاصمة.
قلت: – وقلبي يدق فرحا: حسنا أمر في غاية السهولة:
فتحته لأبدأ بالرسم.. عثرت على مفتاح سرها المغلق الذي كان ضائعا مني.. فقد كانت سرا مغلقا عثرت على مفتاحه عندما فتحت الأطلس، فأطبقت يدي على زمام هذا السر حين قرأت جملة قصيرة بين قوسين في زاوية الخارطة (أنا أحبك يا بسام).
هزتني وبعثت في نفسي الغبطة.. بدأت بكل اندفاع ممزوج بالبهجة والفرح العارمين في رسم الخريطة،
مبرزا مدينتي (العمارة وكركوك) والعاصمة والرافدين العزيزين.. أخذت الكراسة وقالت: –
– شكرا، بسام لهذا العمل الباهر وأنشدت: –
ما أجمل العراق.. عراق الورود السمراء.. ممزوج في دمي، إنه قصيدتي العصماء… سأبقى أحبه ما كنت حية.. وأحب من يحبه::
أحب بغداد.. قبلة لبغداد.. عطر الحب وأم الحضارة.
هنأتها على موهبتها الشعرية وقلت: –
– الحب يخلق في الإنسان شاعرا.. فنانا غذاؤه روعة الموسيقى، وجمال الألوان البهية.. عبرت تعبيرا حيا عن مشاعرك الوطنية الممزوجة بالحب.. فكانت قصيدتك من عناوين موهبتك..
يدأت فترة جديدة سادت فيها التفاهمات، وصار إيقاع تناغمي لحبنا.. سألتها يوما: – هل يوافق (أبو أرشد) للقيام بسفرة إلى الأهوار في عطلة نهاية الأسبوع ؟ سرت لهذه الفكرة، ودفعتني لمفاتحته.. وافق, شاكرا.
في صباح ربيعي جميل. هيأنا المستلزمات المطلوبة.. وركبنا بسيارة العقيد (يونس).. وصلنا منطقة الأهوار.. إستأجرت زورقا بخاريا سار بنا مخترقا المياه الصافية، والجميع يتمتع بجمال الطبيعة الساحرة والماء والخضرة، وأصوات الطيور، ونسيم الصباح العليل.. مستمعين إلى أصوات الشباب العاطفية العذبة بألحانها الريفية..
سألني (يونس): أرى أسرابا من النساء والرجال ؟
قلت: – نعم، إن للمرأة حرية مطلقة في الأهوار، في العمل وقيادة الزورق، فهي تشارك الرجل في أكثر الأعمال.. شاهدنا البيوت العائمة وثقنا ذلك بالصور.. كل ذلك كان مثار إعجاب (أبو أرشد) وعائلته.
قالت إلهام: – الهور جميل في الجنوب كما القلعة في (كركوك) والجبال والمصايف في شمال الوطن. الطبيعة في العراق ساحرة، في جنوبه وشماله..
وفي اليوم التالي من عودتنا.. جاءنا (العقيد يونس) بأمر نقله إلى كركوك، فأظلمت الدنيا بعيني.. فقدت الحسن والسحر.. أعطاني عنوان السكن.. كانت صدفة رائعة ليست بالحسبان. بيت أختي قريب من دارهم.. تبعتهم في العطلة الربيعية.. أخبرت أختي وزجها الضابط في كركوك بكل شيء.
قالا:- العائلة كريمة.. أخلاق رفيعة وسلوك مستقيم. سنزورهم عصرا، رحبوا بنا، ودهشوا للصدفة الطيبة.
مرت السنون وأنا أحسبها سنة فسنة..أكملت المرحلة الجامعية.. فحصلت على شهادة (البكالوريوس) في اللغة الانكليزية، عينت مدرسا في إحدى إعداديات مدينتي.. وتخرجت (الهام) من كلية الإدارة والاقتصاد، وعينت في مصرف الرافدين في مدينتها..
كلفت إبن عمي وأختي طالبا يد (الهام).. تمت الموافقة.. وجرت مراسيم الزواج في مصايف الشمال هيأوا لنا فرصة لزيارة (قلعة كركوك).. وفي صباح هادئ جميل وصلنا القلعة.. حقا إنها جولة في أسطورة.. قالت (الهام) وهي تتحدث عن القلعة: إنها تأريخ فهي تحتفظ بطبقات تاريخية عديدة ربما من فترة (نبو خذ نصر) إذ يقال إنه بنى هذه القلعة.. أجبتها:
– يا لك من رائعة تهتمين بالتاريخ والتراث:: ثم توجهنا إلى جامع (دانيال) لتقدم نذرها هناك..
أشعلت الشموع.. قدمت الحلوى.. قرأت بعض الآيات والأدعية.. كان يوما مليئا بالحب والجمال والسعادة..
عدت إلى مدينتي الجنوبية ومعي ابنة (كركوك) التركمانية المدهشة مرورا ببغداد الحبيبة.. وقد عمقت الوشائج العراقية واكتمل النسيج، لحمته وسداه متشابكتان، وألوانه زاهية (كقوس قزح). إتجهنا إلى السوق العربي، وفي لحظات سعادتها وهي تتبضع من محل للعطور، عانقها جنون شرير ظلامي حقود بحزام ناسف، فصرخت صرخة مدوية من جسم صادر حياته من لا يدرك من الدنيا إلا القتل والدم. فصعدت روح الهام إلى السماء في حين يبقى الكثير من الجبناء على هذه الأرض، لأن الأرض هي السفلى والسماء هي العليا..
سقطت مغشيا علي من هول الصدمة، ولما أفقت، لا أعرف ماذا أفعل ؟.. صرخت: ربنا آتهم ضعفين من العذاب, إنهم يريدون بعدوانيتهم اللئيمة أن ينشروا ثقافة الحقد والبغض والعدوان بدلا من الحب والسلام والوئام.
احتضنني ضابط ضمن المجموعة الأمنية التي هرعت لموقع الحادث، وكنت قد أحنيت رأسي على صدري كمن يمنع قلبه من الخروج مذهولا.. وقال: صبرا جميلا، وهو يربت على كتفي قلت:
– الأرض التي تحرق أشواكها إزهارها لا تصلح للسكن، لا بد من الرحيل إلى أرض أخرى.. فالحب اغتالوه على وجه هذه الأرض.
أجابني ودموعه تنهمر على خديه: –
– علينا أن لا نشعر بالهزيمة، فلا يمكن للإنسان أن ينتصر إلا إذا هاجمته المصاعب والمتاعب فشكرا لله على الأوقات الصعبة.. وأضاف بتأكيد حازم وحاسم:
– لا، لن نغادر وطننا.. وفيه أسباب بقائنا.
رجاله ونساؤه أقوياء وأشداء عند المحن.. توحدهم النوائب، كالجبال تزيل عن الوطن هذه الفتنة..
بقاؤنا… بقاء الوطن