أسرار من تاريخ العراقية –  طارق النجار

أسرار من تاريخ العراقية –  طارق النجار

صافي يخلّص الناقل الوطني من التصفية

لنا عودة للتاريخ حملنا وزر اعواما، تعودنا على اتراحه وافراحه في حياتنا اليومية ، بعد ان جف فيه ضرع البلد.. وما انتابه من نكبات ومآسي خلدها ذلك التاريخ المضرج بالدم والمأزوم بالفواجع والاحزان التي لا تنفك تنز دما حراقاً..

هذا التاريخ كنا جزء منه ، فقدنا فيه حيوات حياتنا المبللة بالحسرة في دونية الهجرات، التي فرضت علينا قسرا، ولم تلتأم جراحاتنا في قوادم الايام.. فغاب هذا التاريخ في بضع سنين دأبا، متسترا وراء واقع منكور تشرنقت نفوسنا في قراءة فاضحة للاحداث . برغبة ملحة، فقدنا فيها بعض رجالات واناسي ، لهم شأن كبير في تاريخنا المعاصر يشار اليهم بالبنان لدورهم الريادي من تاريخ مشرق وضياء من سيرة حياتية مفعمة بطعم المعرفة.

نجاح فعلي

ومن الذين غادرونا قبل بضعة سنين .. رجل عصامي ، ذو شخصية ثرة بمقومات النجاح العملي ، نستنبط من سيرته بعض هوامش الموقف والمبدأ والكلمة الصادقة والمعتقد، خطت اثاراً خالدة في اديم رزنامة الخطوط الجوية العراقية، كمدير عام لها في ثمانينات القرن الماضي، بما حققه من نجاحات بارزة في مسيرة العراقية، اثارت الكثير من التساؤلات ، حول ما تركه من افياء بقت اثارها بائنة في مسيرة ظافرة بالانجازات والقيم الخالدة، اضاءت جنبات  سيرته الاولى من قيادته الادارية والفنية ابتداء من الشهر العاشر من عام 1987.

في وقت كانت العراقية غارقة في مديونيتها المالية المتراكمة . مما اضطرت وزارة المالية العراقية تسديد رواتب موظفيها، وما تعانيه من قصور عملي ، وعجز مالي وخسارة ، دبت في مفاصلها الحيوية ، وما لحق بها من تراجع فني في كفاءة موظفيها، بعد ان كانت في مقدمة شركات الطيران في المنطقة العربية والتي احتلت المكانة الثانية فيها وتصويبها المنجز في الشرق الاوسط.. وفي ضوء هذا الاخفاق والتخلف والتراجع في بنائها الفوقي والتحتي ، اصدر مجلس الوزراء قرار باعلان افلاسها لعدم استطاعتها تسديد المبالغ المرتبة بذمتها، ومنح قيادتها الجديدة المتمثلة بالمهندس نور الدين صافي حمادي- كمدير عام لها فترة ستة اشهر لتصفيتها والذهاب الى تأسيس شركة طيران بديلة عنها.. مع منحه صلاحيات واسعة ، فكان له دور متميز ومؤثر فيما حصل للعراقية لاحقا من تقدم وازدهار..

فأستطاع هذا الرجل المقدام بعلميته وكفاءته الفنية والقيادية وذكائه المتقد وخلفيته المعتمرة بثقافة اممية ، منفردا بتميز جلي في محاولاته المستمرة والمعتاد عليها بثبات، مخلصا لقيمه الروحية، ولسيرته الذاتية الوضاءة بالثقافة والتي مهددت له تبؤه هذه المكانة الرفيعه التي يحسد عليها في بناءه الايمانية بعمله وما يمتلك من اخلاقيات مبدئية صائبة يحمل على اعتاقه ازميلا من اعمال مكتظة بالمعوقات والتراجعات والاخفاقات التي استولدتها الادارات السابقة مخلفة الكثير من المصائب تحمل مشقتها، ونشير هنا الى نجاحه الباهر في اصدار او اقرار قانون العراقية المرقم /108 لسنة 1988. الذي بموجبه منح صلاحيات واسعة – كرئيس مجلس ادارتها، والتي ربطت مباشرة بمجلس الوزراء. وبهذه الخطوة المستقبلية ، تم فكها من معصم وزارة النقل- الجهة المعرقلة لمسيرة الناقل الوطني لجمهورية العراق، وتخليصها من تدخلاتها الضارة في الشؤون ذات الصلة بحركتها وفي صعوبة الحصول على الموافقات اللازمة والمستعجلة التي يتطلبها الموقف الآني في تسهيل عملها.. هذه الشخصية المولودة عام 1931  امتلكت مقومات نجاحها، بدرجة عالية من العلمية والعملية والتألق الفني، والابداع الاداري، وبعد نظر ثاقب في تصحيح مسارها العملي والاداري والمالي.. والحائز على المرتبة الاولى وبتفوق في سلم اقرانه في هندسة الطيران المدني من بريطانيا. رسمت علامات فارقة في مسيرته الوظيفية في بناء نهضتها واستنهاضها من كبوتها التي كانت تعاني منها.. فأستطاع المهندس صافي بشغفه الفني والعملي ان يتخطى المعوقات ، فكان قراره الرشيد في ابعاد العناصر الفاشلة واستبدالها بكفاءات تمتلك الموهبة العملية للمساهمة في تطوير هيكلها التنظيمي ودعمها بارادات مساهمة في الوصول بها الى الغايات المرجوة من تحقيقها.. فهذه الشخصية التي اتصفت بالزهد والنزاهة ونكران الذات.. ظل مخلصا وفيا لعمله بقناعة ايمانية  بضرورة انهاء حالة الافلاس والتراجع والتخلف.. والعودة بها الى عهدها الفائت في مراتبها الاولى كشركة طيران عراقية لها مكانة المتميزة في سلم النجاحات التي حققتها في بداية مشوارها  والتي تعد من اولى شركات الطيران العربية التي تأسست في المنطقة العربية في اربعينيات القرن الماضي من الالفية الثانية.. يشار اليها بالبنان، مزيلا عنها غبار اليأس والخذلان، نافخا في روحيتها المتجددة بالنشاط والعمل الدؤوب..

فوضع استراتيجيته الواضحة المعالم، لتواكب التطورات الحاصلة في عالم الطيران المدني، وانتشالها من هوة الترهل الاداري والفني والمالي، وافتقارها الى البنية التحتية.

فتبنى سياسة سليمة، تساعده في النهوض بها لانقاذها من واقعها المتردي والمزري، الذي شكل عائقا امام تقدمها نحو الافضل .. كنت اشفق عليه في بعض الاحايين، حيث نديمه في ظهيرة نهاية الدوام الرسمي من كل يوم لمساعدته في تمشية متعلقاته التي لها شأنا بالعاملين وبقضايا الشركة في اغلب الظن.. فاجد في صوته بحة يرافقه احساس غريب لما لاقاه من جفاء ، وندامه ،ومن خيبة امل في صحوبيته ومريريه وفي عينه دمة تترقرق بين جفنيه الماً وحسرةً وحزنا من غير ان يكشف المستور عن خياياها، خوفا من الذين يتربصون به الدوائر فرضتها الضرورة الملحة التي ادمت جراحاته الاجتماعية والانسانية ، التي تعرض لها في مسيرته الوظيفية، ومن اقوال شائنة اصابته في مقتل ، من بعض الصحابة في خفاء غمزاً ولمزاً، اضرت في شخصه مما حدا به التغافي والتغافل عن تلك التقولات الضارة التي تركت في قلبه غصة ، وجرحاً في النفس لم يندمل طوال حياته الدنيوية.. كان يسعى دوما في الولوج في مسارات التكهن ، لايقاض مشاعر فياضة بما يحمله من مسؤولية وعمل مضي تجلى في اشراقات وضاءة ، بانت ملامحه في خطواته الوئيدة والمتسارعة في بعض الاحايين والمتزنة بما ينسجم وكفاءته الفنية والعلمية والادارية.. فكان عليه ابعاد  العناصر المتلكئة والملاكات الفاشلة والمتهاونة والمقعدة عن مواقعها الاثيرة بالتقاعس، فكانت حجر عثرة في مقدمات ما تعرضت له العراقية في سابق عهدها .. والمعوقة لمسيرتها ، فكان لزاما عليه ان يرتق عيوب تلك العناصر المهلهلة بالانجاز العملي، والتي لحقت ضرار فادحا ببنية العراقية التحتية واستبدالها بكفاءات مشرنقة بالتصحيح في المسار الذي يسهم في التطوير البنيوي للعراقية، فشمر ساعديه بمعاونة الخيرين من ابناء برر والمخلصة لعملها. ومن الذي رافقوا مسيرته، ووجد فيها الامل والنجاح والخبرة والكفاءة والتميز والخلاص مما هي فيها.. فاستعان بتلك الملاكات بما تملكه من حنكة فنية ، مؤهلة لقيادة المواقع القيادية للاعتماد عليها في مسيرته الصائبة لاصلاح ما يمكن اصلاحه ، ويسكن في جنباتها التراكم التراجعي، والتشتت ، لتنشيط اواصلها بخبرات حسية وعملية وفنية وتجارية ومالية، زيادة في الكفاءة والمعلوماتية .. فدأب الصافي – مدير عام شركة الخطوط الجوية العراقية على تخليصها من الحيرة التي تعيشها وسط ظلام الافتقار العلمي، والعبور بها من الحواجز المعوقة التي شكلت حائلا نحو تقدمها..كان الرجل يبحث دوما في اجندته اليومية عن خططه الانية والمستقبلية، التي تضمن له النجاح في اجتياز العراقيل، والاستباق بها في بلورة مفاهيم قيمه تساعده على مواكبة التصورات والتطورات التي تحدث في عالم الطيران المدني .. مستفتحا صباحه الباكر في قراءة خطواته اليومية والمدرجة في مفكرته التي يبصر فيها كل صباح لتعضده في عمله في الحفاظ على تاريخ العراقية التي هي جزء من تاريخ بلد حافل بالحضارة المشرقة والتاريخ التليد لتحقيق حلمه الكبير في الوصول بها الى الربحية المادية والمعنوية التي تفيض بالكفاءة العالية..

فالرجل محصنا بمواقف مبدئية ومرجعيات علمية ، وفنية مسترشدا تجارب الآخرين ممن سبقه في علو المعرفة لدعم نشاطه المطرد لتصحيح مساراته المجنحة بالامثل والافضل  باحثا في دفاتر حضوره اليومي عن منصات النجاح فيما يقدمه من جهد ومثابرة ، وعمل يتجلى بتلك النجاحات البائنة، لرفع شأن العراقية بتصحيح مساراتها وعللها التي رافقتها بعض الانتكاسات ناهيك ان ما يحمله من سجايا كثيرة في حمايته للموظفين والعاملين لمعيته وقد تعرض مساعده التجاري لمسائله قانونية من قبل الرئاسة في اتخاذه قراراً دونما حصول موافقات اصولية بذلك لشعوره بأنه هو الاصح فيما اتخذه من منح بعض مسافري العراقية تذاكر سفر  ؟؟؟؟ لقطاع طوكيو- بغداد. بدلاص من تعود الطائرة الى بغداد ينصف مسافريها. والتي تتعارض مع التعليمات المحلية والدولية.

حصار جائر

فتعرضت العراقية في نهاية مطافه الوظيفي الى حصار جائر وظالم انهك بنائها التحتي امتد من عام 1990 ولنهاية 2003 على اثر صدور قرارات دولية مجحفة من مجلس الامن الدولي، وما لحق بها من اضرار قاسية ومن خسائر مادية ومن جهد معنوي كناقل وطني للدولة العراقية.. بعد ان احتلت مكانة مرموقة من بين شركات الطيران المدني الدولية طول مسيرتها من عام 1946 وحصولها على سمعة طيبة وثابة.. وها ما شهدت به منظمة الطيران الدولية – ايكاو- كشركة متميزة ذات شخصية معنوية مستقلة بما تمتلكه من شخوص ذات كفاءات نادرة وتتشرف بها لوائح المتميزين من شركات الطيران.

ان منظمة الطيران الامريكية قد منحت الشخصية العراقية المقدامة والتي شهد العالم بكفاءتها وتميزها والمتمثلة في شخص المهندس نور الدين الصافي كمدير عام العراقية وحصوله على درع المتميزين الذي منحته اياه تلك المنظمة لنجاحاته. وطلبت منه المنظمة حضوره الى واشنطن لاستلام تلك الشهادة الجائزة التي ميزته من  بين اقرانه من رؤساء شركات الطيران الاجنبية والعربية. وحال الحصار الجوي دون حضوره كشخصية شاخصة تستحق التقدير والثناء من لدن الطيران الامريكي لاستلام شهادة التميز والكفاءة والابداع كافضل شخصية عالمية في مجال الطيران المدني..

كان الصافي يستفتح صباحه الباكر في اتخاذ خطوات تنجد مساعيه المشرعة للحفاظ على ديمومة العراقية وتاريخها دون حوادث تذكر وتأسست في 29 كانون الثاني من عام 1946 وربما في ثلاثينات القرن المنصرم تعمل تحت عباءة السكك الحديد العراقية فهي جزء من ذلك التاريخ الخالد المشرق بحضارات تسطع شمسها في سماء العالم القديم وفقد جذوته في سنوات التخلف والانهيار الثقافي والاجتماعي تعج فيها الاحداث المؤلمة والانحطاط والقصور الفكري والاقتصادي والموت يخطف ابناءه في الاتي من الايام..

فقد غادر الرجل وظيفته مبكرا بعد بلوغه السن القانوني ، ولم ينجح في مسعاه في البقاء بوظيفته مبتغيا الاصلاح الذي ابتداه محاولا غلق بعض ملفات الحصار الجائر المفروض قسرا وجورا على شركة الخطوط الجوية العراقية الناقل الجوي للعراق، بقرارات فرضها مجلس الامن بحقها دون حق، لم تكن العراقية الفاعل فيما حصل من غزو عسكري لدولة شقيقة وجاره، فالحق بها اضرار فادحا يصعب اصلاحه وتعويضه رغم مرور سنوات عجاف، فقدت فيها الطائرات العراقية قيمتها المادية والمعنوية وكفاءتها واصاب بعض اجزائها العطب والتلف والخراب بفعل تقادم الزمن عليها..

كان المهندس نور الدين صافي حمادي ، علامة من اعلام العراقية والعربية والاجنبية، ونقطة تحول تاريخي حافل بالتميز والكفاءة النادرة . كان مخزونه المعرفي وعلو وجاهته العلمية والفنية والعقل المستنير فيما حصل للعراقية خلال سنوات خدمته.. الاثر الفاعل والمضيء من تاريخ مشرق وضاء في مآثر الرجل وخطت له مواقف تذكر وافعال جليه منفردة عن بقية اقرانه في العمل الوظيفي ومن جيله المهني الذين تدربوا معه سوية في احضان بعض الدول الاوربية المتقدمة علميا في مجال الطائرات المدنية وفي المجال عينه الذي له ارتباط فني فيها.. وقد عضدته لغته الانكليزية التي اكتسبها منذ زمن ناهيك عن دراسته في معاهد الطيران المدني ومدارسها المتقدمة في هذا الشأن.

وفي وقوفه امام المحاكم البريطانية عندما استدعته الضرورة بالامتثال امام احد القضاة لمناقشته

في ما حصل للخطوط الجوية الكويتية والضرر المادي الذي لحق بنيتها جراء الغزو في 8 اب من عام 1990 على اثر الخلاف الذي نشب بين العراق والكويت بشأن المديونية في ذمة الجمهورية العراقية..

فغادر الصافي العراق بعد عام 2003 يحمل في قلبه وجع السنين وحزن شفيف، وتاريخ فني وعملي عريق ، وفيا لعراقيته رغم ما اصاب وكناته من ضرار وتهكم يحمل على اعتاقه واكتافه ثقل الهزيمة المرة ،وبشاعة ما حدث له من اجتراح دنيوي. وبقي لاجئا في المملكة الاردنية الهاشمية مختفيا وراء ظلال الغربة والاعتصام الحياتي والدنيوي.. يداوي جراحات الايام الخوالي بعيدا عن الاهل والاصدقاء ، بعد ان تعرض لمحاولة اغتيال ، واستلاب ما كان يختزنه في بيته من مال وحاجات ثمينة.. ولم تسعفه الظروف التي كان يعيشها في الاسر، التي تعرض له مستنجداً بالاصدقاء في رسالة نصية من هاتفه النقال.. مما سهلت على خطفه في فترة اخرى من بعض السابلة، واطلق سراحه بعد ان دفع الفدية التي طالب بها خاطفيه.. فاضطر لاحقا الى مغادرة البلد حزينا كئيبا ،متلبسا بالخوف والقلق تاركا ارثه الانساني والتاريخي، مختبئا وراء اسوار عمان.. يندب حظه العاثر، فجاءه الموت متربصا به في تلك المدينة التي ظللها اللجوء الانساني والحنين والرغبة الكامنة في روحيته للعودة الى بغداد، التي طبعت تاريخها وارثها الحضاري والثقافي، في نفسيته بعد عمر مديد تجلى خلاله لا يمكن استبيانها ، الا من كان قريبا من شخوصها في حياة دنيا .. فارقها عنوة دونما ندم ، مرتحلا بجسده في حفرة مظلمة وحيدا مسورا بجدران يلفها الظلام.. لك الرحمة والمغفرة والجنة مثواك يا ابا محمد.

مشاركة