أسئلة إشكالية وأجوبة مقلقة – عبد اللطيف السعدون

أذن وعين

أسئلة إشكالية وأجوبة مقلقة – عبد اللطيف السعدون

هذه انطباعات سجلتها اثناء زيارة لي للأردن قبل عقد من الزمن، وأظنها لا تزال صالحة لأن تنشر  ما دام حال عراقيي المنفى في الأردن وفي غير الأردن على ما هم عليه مذ وضعوا أقدامهم خارج بلادهم، وقد طالت غربتهم وامتدت كما كبر عددهم وزاد.

واحد ممن التقيت بهم في سفرتي تلك كان آخر شهود الزمان الملكي في العراق، وقد عد نفسه أول مهاجر عراقي يترك البلاد باختياره بعد أن سقطت في قبضة العسكر عام 1958، وطيلة أكثر من ستة عقود لم يزر بغداد سوى مرة واحدة، انفصمت علاقته بعدها ببلده، واعتبر مهجره الأردني وطنه، طرح علي سؤالا اشكاليا: ما معنى الوطن إذا لم يوفر لمواطنه الحرية والأمان والكرامة؟

تكرر طرح هذا السؤال علي مرارا، وأنا في الأردن، من قبل ملكيين وليبراليين وعروبيين وشيوعيين سابقين، عاشوا التغريبة العراقية في أحد فصولها، واستوطنوا الأردن، وانفصمت علاقتهم ببلدهم الأول، أو كادت، تحدثوا معي بمرارة عن أماكن أولى ألفوها وألفتهم، وأناس ارتبطوا بهم وعبرهم، وأحداث جمعتهم ثم فرطت عقدهم، حدثوني كذلك عن «ايديولوجيات» هجروها وهجرتهم، أحدهم قال لي بمرارة: «ذاك عصر طويناه، وهذا عصر آخر نتركه لأبنائنا وأحفادنا»!

سمعت من أحد وزراء ما بعد التغيير الذي حصل بعد الغزو الأميركي  ان عمان توفر له وللعديد ممن يعرف من سياسيين ومثقفين الجو الذي افتقدوه في بلادهم، هنا يقولون كلمتهم بحرية، لا يخشون مسدسا كاتما للصوت، ولا سكينا تغرز في الخاصرة، أسس هذا الوزير ومجموعة من أصدقائه منتدى للحوار في شؤون الفكر والاقتصاد والآداب والفنون، استبعدوا السياسة لأنها «تفرق ولا تجمع»، أضاف: «قضينا اعمارنا ونحن نعمل في السياسة، وعندما أدركنا خريف العمر اكتشفنا أن السياسة في بلداننا باطل الأباطيل وقبض الريح»!

ادمان الاقامة

المفارقة الأخرى ان بين العراقيين الذين أدمنوا الاقامة في الأردن من كانوا يناصبون عمان الخصومة، الفكرية على الأقل، بحكم توجهاتهم السياسية، لكنهم اليوم يجدون فيها الملجأ الذي يلوذون به بعد أن عصفت بهم الحادثات.

ألوف غيرهم شكلت عمان محطتهم الأولى عند هجرتهم من بلدهم، كانوا يريدون أن تكون معبرهم الى عواصم الغرب، لكنهم تأقلموا مع ما هو ماثل، بعدما اكتشفوا أن وجودهم في الأردن يكاد يشبه وجودهم في العراق، بحكم التماثل بين أحوال البلدين، يكاد يصل هذا التماثل الى درجة التطابق في العادات واللغة والطقوس والعلاقات الاجتماعية، لكن ثمة شيء اسمه «الوطن الأول» ظل يستوطن ذاكرتهم، ويضع على شفاههم سؤالا محيرا: متى العودة؟ لكنهم لا يتلقون من أحد جوابا شافيا!

سيدة عراقية قالت ان عمان تشبه بغدادها التي عرفتها أيام زمان، ولذلك قررت الاستقرار هنا، تساءلت هي الأخرى: «ما حدود العلاقة بين المرء وموطنه الأول، وماذا تعنيه الأرض التي يولد عليها، ويسكن، ويساكن، ثم تأتي قوة تسلخه عنها، وتقذف به بعيدا؟»

هكذا هو الأردن، أول المنافي عند العراقيين، وآخرها، ومن زمان، وهم يشعرون أن عمان هي الاقرب لهم من اية عاصمة أخرى، ولا يجدون تمايزا بينهم وبين مواطني الأردن نفسه، ومع من سكن هناك من فلسطينيين، وسوريين، وعرب آخرين، لكأنما كتب على عمان أن تكون عاصمة العرب في كل الأزمنة، رغم قلة الزاد، وضيق المكان.

رائحة الخبز

وفي كل الأحوال فان السؤال الأكبر يظل عن معنى «الوطن» الذي يجدونه كما وجده شاعر فلسطين محمود درويش في صور «البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى»، وكما سأل: «كيف تتسع فلسطين لكل هذه المفردات وتضيق بهم»، فان العراقيين يسألون أيضا: كيف يتسع العراق لكل تلك المفردات ويضيق بهم؟

هكذا هي الحال، الاسئلة الاشكالية تكبر، والأجوبة تظل معلقة على أكثر من مشجب، والتغريبة العراقية الى بلاد الله تتحول الى حكايات يتداولها الركبان، والسؤال الأكبر يظل من دون اجابة: ما معنى الوطن إذا لم يوفر لمواطنه الحرية والأمان والكرامة؟

مشاركة