أزمة مارس 1954 وثورة 30 يونيو 2013

د. حسن حنفي

وكأن التاريخ يعيد نفسه، ويستكمل دورته بالرغم من قصرها، حوالى ستين عاما، أقل من قرن، والدورات التاريخية ليست أقل من قرنين، أربعة أجيال كما لاحظ ابن خلدون، قرنين من الزمان، اثنان للصعود واثنان للهبوط. تتشابه اللحظتان، بداية الدورة ونهايتها. تتشابه وتختلف. تتشابه أحيانا وتختلف أحيانا أخري. أحيانا تبدو الى التشابه أقرب والى الاختلاف أبعد. وأحيانا تبدو الى الاختلاف أقرب والى التشابه أبعد. وأحيانا يتداخل التشابه والاختلاف فيصعب الحكم الى أيهما أقرب أو أبعد.

1- من الواضح أن ناصر نفسه قد مر على الإخوان كما مر على التيارات الوطنية مثل الوفد والشيوعيين.

وعرف حسن البنا باعتباره يمثل إحدى القوى السياسية. وكان الإخوان يمثلون أحد روافد الضباط الأحرار قبل

الثورة وبعدها حتى أزمة مارس 1954. بل ويرى البعض أنهم كانوا نصف الضباط الأحرار مثل رشاد مهنا الذي عُيّن وصيا على العرش وكمال الدين حسين الذي عُيّن وزيرا للتربية والتعلىم. وألغي العرش. وأعلنت الجمهورية. ولم يبق كمال الدين حسين طويلا في الحكم بل غادر وانعزل أو حددت إقامته، سيان. كان الإخوان جزءا تكوينيا من ثورة يوليو 1952 قبل أن يحدث الصدام في 1954. في حين كان الإخوان جزءا تكميليا لثورة يناير 2011 بعد أن ضمن نجاحها. ويقول البعض أنهم ركبوا الموجة الثورية قبل أن ينعزلوا عنها ويعملوا بمفردهم وإقصاء الثوار الشباب عنهم.

2- كانت فردية ناصر في 1954 أظهر بين زملائه من الضباط الأحرار فاستطاع إزاحة زملائه وعلى رأسهم محمد نجيب الأكبر سناً ورئيس نادي الضباط والذي كان رمز النضال الوطني ضد الملك وتدخله في انتخابات النادي.

كان وزيرا للداخلية. وأطلق النار على المتظاهرين في الجامعة. واستشهد اثنان من الإخوان حمل عبد

القادر عودة ملابسهم الملطخة بالدماء. وخطب في المتظاهرين الذين اجتمعوا في ميدان عابدين. أما السيسي في 2013 فلم يكن له نفس الفردية والظهور بل كان الجيش هو الذي قام بتأكيد ثورة الشعب في 30 يونيو.

كان وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة في طريقه الى الظهور باسمه وصورته ومقارنته بناصر في وطنيته واستقلاله وحرصه على بقاء الدولة دون التلاعب بها باسم الجماعة. ومع ذلك يظل لمقابل ناصر 1954 جيش 2013.

3- في مارس 1954 كان الجيش في أزمة انشقاق مما انعكس على الشعب. كان الجيش منشقا في داخله بين نجيب وخالد محي الدين من ناحية وناصر ورفاقه من ناحية أخري. وكان الشعب أقرب الى الاصطفاف وراء نجيب والإخوان. وبعد حادث المنشية، محاولة اغتيال عبد الناصر في الإسكندرية تم حل الجماعة أسوة سابقتها من الأحزاب السياسية خاصة الوفد. فلم يكن الشيوعيون في يوم من الأيام حزبا شرعيا. في حين في يونيو 2013 كان الشعب في أزمة، أزمة انشقاق بين التيارين السياسيين الكبيرىن في البلاد، الإسلاميين والوطنيين أو المدنيين أو العلمانيين أو الىساريين حيث يصعب إطلاق أحد الأسماء علىهم جميعا. وكان الجيش موحدا أمام قائد الجيش الذي كان طائعا لإرادة غالبية الشعب.

4- قل الشهداء في مارس 1954 وكثروا في أغسطس 2013 حين فض الاعتصامات والإضرابات رعاية للمصالح العامة، وفك الطرق، ورفع المتاريس، ونزع الدولة من داخل الدولة في رابعة والنهضة. في مارس 1954 كانت المعارضة للجيش قلة، مجرد الجماعة. في حين في 2013 كانت المعارضة للجيش والشعب كثرة ممثلة في الجماعة والحزب وما تنصب من جهاز الدولة أثناء “الأخونة”. وقد تتساوي القيادات، عصب الحزب، وكانت مسألة حياة أو موت. فقد كانت الجماعة تنتظر هذه اللحظة التي تصل فيها الى السلطة منذ ثمانين عاما أو يزيد ثم فقدتها في غمضة عين. وها هي تسترد وعيها وتبدأ في المقاومة لاستردادها بصرف النظر عن الفرق السياسية الأخري وبصرف النظر عن مخاسر الوطن.

5- قامت ثورة 1952 على ائتلاف وطني من الضباط الأحرار، إخوان وماركسيين ومصر فتاه ووطنيين، ضد الإنجليز والقصر والإقطاع. واستمر هذا الائتلاف حتى 1954 بعد أن حلت الأحزاب السياسية بمجرد قيام الثورة واستبقاء الإخوان المسلمين. ثم حل الإخوان بعد محاولة الاغتيال في 1954 وتفرد ناصر بالحكم. وفي 2011 قامت الثورة تلقائيا على أكتاف الشباب، على تجارب الضنك والفقر والبطالة والضياع والعوز والتهميش. ثم دخل الجيش ممثلاً في المجلس العسكري على الخط في صف الثورة من أجل نقل المجتمع من المرحلة الاستبدادية الى المرحلة الديموقراطية. وجاء الإخوان نتيجة انتخابات حرة لمجلسي الشعب والشوري والرئاسة واللجنة التأسيسية لوضع الدستور. وبعد عام ظهر عيوب الاستبداد الديني وإقصاء القوي السياسية الأخري. وخضعت الرئاسة والحكومة للجماعة وحكم المرشد. وبدأ الضيق في الظهور. فتكونت حركة تمرد وقادت الشعب يوم 30 يونيو للثورة على النظام. ثم جاء الجيش فأيد مطالب الشعب وطلب تفويضا من الشعب للعودة الى المسار الديموقراطي وتخليص البلاد من حكم الرأي الواحد. وقام الإخوان بإضراب عام تحول الى اعتصام في الميادين العامة وتعطيل المصالح العامة والقضاء على هيبة الدولة. وفي كلتا الحالتين بدأ الإخوان والجيش في 1952 بمصالحة وطنية وانتهيا بخصام دموي، وفي 2013 بدأ الإخوان والجيش أيضا بمصالحة وطنية بل بتوفق أو غزل وطني انتهيا بخصام وتنافر وقتال دموي كذلك.

6- قبل أزمة مارس 1954 في العصر الثوري الأول في حالة الوئام مع الإخوان كان التغير الاجتماعي سريعا للغاية لحاقا بالثورة بالشعب. فجاء الإصلاح الزراعي بعد عدة أسابيع للقضاء على الإقطاع أحد مبادئ الثورة، وإلغاء الملكية، وإلغاء الألقاب المدنية، الباكوية والباشوية، وإعلان مجانية التعلىم الجامعي.

وبعد 1954 بعام كسر احتكار استيراد السلاح حتى جاءت سنة 1956 لتأميم قناة السويس. تلاها التمصير في 1957 ثم الوحدة مع سوريا في 1958 وثورة العراق، وثورة الىمن في 1962، وقوانين يوليو الاشتراكية في 1961-1963 حتى جاءت هزيمة 1967. في حين أنه في ثورة 2011 تباطأ التغير الاجتماعي بالرغم من وضوح أهداف الثورة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية نظرا لتعثر القوي الثورية بين عسكرية ودينية ومدنية. فالقوي الاجتماعية المتصارعة مازالت متناحرة بين الفلول، القوي القديمة، والقوي القديمة ذهنيا الجديدة جسديا مثل الإخوان، والقوي الجديدة ذهنيا وجسديا المعاصرة بين القوتين السابقتين.

7- كانت جماعة الإخوان في أزمة مارس 1954 علنية في الجيش والشعب. تتوحد مع أهداف الثورة. وكان عبد الناصر قد اختار سيد قطب صاحب “العدالة الاجتماعية في الإسلام” بمجرد دخوله في الإخوان رئيسا لهيئة التحرير ، وكلفه بإلقاء محاضرات في الإذاعة المصرية في هذا الموضوع. ثم تحولت الجماعة الى سرية بعد الأزمة. وفي ثورة 2013 كان تنظيم الإخوان أيضا علنيا في الشعب وفي الحكم، ولكن برنامجه سريا ينفذه عن كثب مكتب الإرشاد للجماعة. وما الحكومة أو الرئاسة إلا منفذتان، مما آثار علىه شباب الإخوان وجماهير الثوار. ففرق بين عقلية الجماعة وعقلية الدولة. واستحال مد يد الحوار بين الاثنين. كل يقصي الآخر ويستبعده.

التاريخ يعيد نفسه من مارس 1954 حتى أغسطس 2013. فهل تتعلم الناس الثورة والحكم، والحكم والثورة، ألا تعود التجربة مرة ثالثة؟

مشاركة