أرض اليمبوس.. وثيقة إجتماعية

إلياس فركوح في لحظة التواري والإختباء أرض اليمبوس.. وثيقة إجتماعية حميد الربيعي بغداد اليأس فركوح في روايته (أرض اليمبوس) يحاول أن يخلق لنا شخصية البطل ، بشكل لا يماثل (الفحل الثوري كما في رواية الياطر لحنا مينه أو الفحل البرجوازي كما في رواية البحث عن وليد مسعود لجبرا إبراهيم جبرا) ، هذه الجملة أطلقتها شخصية الرواية في أثناء رحلة التداعيات إزاء المتغيرات الكثيرة في الواقع المعاش ، وهي بالتأكيد تختلف عن ظروف الفحل الثوري في الياطر كليا ، وتختلف عن الفحل البرجوازي – وليد مسعود جزئيا ، وإن كانا يلتقيان في عملية البحث عن الهوية . الفحل الوسط : صورة تحمل في طياتها انسحاق الطبقة الوسطى في المجتمع العربي، والتي كانت من المؤمل أن تتسيد في ظل الأنظمة ” الوطنية ” في واقع مرحلة الستينات والسبعينات، بيد أن هذه الطبقة قد سحقت بسبب إشكالات تاريخية مرت على المنطقة، لكنها بقيت حية (ثقافيا)، في الإنتاج الأدبي لسببين، الأول : أن الأدباء هم أبناء الطبقة الوسطى، التي هي عماد المدنية المرجوة، بمعنى المؤمل لها التسيد في المناطق الحضرية، خاصة تلك التي بنيت بموجبها الدولة ” الوطنية “. والثاني : إن قراء الأدب هم أيضا أبناء هذه الطبقة، لأنهم صناع المدينة والمتعلمين، الذين يتابعون شؤون الثقافة. من هنا حاول ألياس فركوح أن يوصف لنا بطله، من كونه مثقفاً، أولا من خلال رؤاه اتجاه الأحداث العامة أو الخاصة في الحدث الروائي، وأيضا من ناحية كونه السارد الأول في الرواية، خاصة في أثناء تلمسه للتغييرات التي طرأت على أمكنة الأحداث، في الرواية تختص القدس وعمان بمكانة بارزة، لهذا كانت رؤاه إزاء التحولات ومن ثم تداعياته، التي جلبت له المعاناة، حيث كان يرصد بعين الصحفي/الكاتب، فهو سارد للنص الروائي وهو أيضا صحفي في المهنة، يتابع من خلال عمله مجريات الأحداث العامة. أزمة انهيار الطبقة الوسطى ترافقت مع الخراب الذي زحف إلى الأمكنة عمرانيا، وأخلاقيا بزحف قيم التخلف، بدءا من قيم البداوة وانتهاء بالمفاهيم الظلامية. غالبا ما تلجأ الشخصيات، في فترات الانكسارات، إلى التعويض عن العطب، الذي يصيب الأنفس، وهو تعويض يقوم على محاولة الإشباع النفسي، قبل أن يكون إشباعا روحيا، كما هو الحال في الشعوب المتفتحة حضاريا وذات إرث معرفي. التعويض الذي ملأ حياة شخصية (أرض اليمبوس) كان إشباعا من وجهة نظر ذاتية، قائمة على المقومات الشخصية، فالبطل أبن مدينة وصحفي. وإن ما هو متاح أمامه، إزاء الخراب العمراني والاجتماعي، هو الاستفادة من أدوات المدينة ذاتها. المعادل الطبيعي للمدينة الحديثة، التي كان يحلم بها المثقفون، هو دخول المرأة إلى معترك الحياة اليومية وتشعباتها، مما يوفر فرصة، في أثناء الانهيارات، لأن تصبح المرأة هي أداة التعويض، مادامت قد انغمست في شؤون المدينة، ولم يعد أمامها من سبيل للنكوص إلى الوراء أو التقوقع إزاء المتغيرات. هذا يعني إن المرأة أكثر عرضة لانتهاك حقوقها، في أثناء الأزمات، مما يجعل صيدها أو محاولة لملمة جراحها تقع على أقرب الناس إليها، من المشاركين والداعين إلى الروح الحضرية في المدينة. وبالنتيجة تكون الإشكالية أكبر على كلا الطرفين، مع إن المعادلة التي تحكمهما أضحت غير متوازنة. صحفي وكاتب انهارت أمامه مقومات الحياة، الرواية هنا تحكي عن حرب 1967 وصولا إلى بداية حرب اجتياح الكويت، يتحرك في مكان محدد، كان قد ضاع هذا المكان في الحرب الأولى وقد يضيع أو يتغير بالحرب الثانية، ويعيش حالة اجتماعية مأزومة، كنتاج طبيعي للتغييرات، التي حدثت أو التي ستقع قريبا، هذا الصحفي وجد ملاذه في المرأة، التي هي الحلقة الأضعف في أوضاع كهذه. كان يأمل بأن يصبح وسطا بين (ثورية فحل الياطر وبرجوازية وليد مسعود)، بيد إنه أيضا تماهى مع كلا الشخصيتين في صفة مشتركة، ألا وهي الفحولة. لقد أراد ألياس فركوح أن يبرز شخصيته الروائية في جانب الفحولة، فأدخله في سلسلة من العلاقات النسائية، وهي بقدر ما تكون تعويضا عن هزائمه الشخصية والعامة، بقدر ما كانت محاولة للتشبث في الحياة ورفضه لكل الانهيارات التي وقعت. تبدو حوافز الشخصية المتحركة المنصبة على الفحولة، والتي تعني بالمقام الأول البقاء على مكونات الحياة السابقة الضائعة، وبنفس الوقت التشبث بالحياة الحاضرة، كونها دلالة على حراك يومي، وإن كان زائفا وزائلا، لهذا امتد الحدث الروائي فملأ فجوات الانقطاع بالحدث العام، وشغله بعلاقات نسائية، مما دعا مؤلف الرواية بالضرورة إلى تبئير الحدث عبر إشكالية العلاقة، ما بين البطل والنساء. إزاء الانهيارات الاجتماعية التجأ المؤلف، عبر رؤية ثقافية متنورة وكي ما يخرج من وحل الواقع، إلى النظر إلى النساء، من زاوية المرأة الحلم، المرأة التي شكلت بداية الوعي بعقلية البطل وظلت حلما، عندما ضيعتها الظروف، فلم تعد أي امرأة أخرى من اللائي مررن بحياته، وقد انتقل بعد النكسة من القدس إلى عمان، إلا صورة عن الحبيبة الأولى، بالإضافة إلى تسميتهن جميعا باسم واحد. لحظة التواري والاختباء هذه لابد وأن تتفجر في نهاية المطاف، لهذا وضع ألياس فركوح لقاءهما الثاني في نهاية الرواية، كي ما يسوغ لنا رؤاه السابقة، بأنها كانت جزءا وناتجا عرضيا للتغييرات التي طرأت على الحياة. بهذه الإشكالية الملتبسة كان ألياس فركوح قد شرح لنا واقعا قاسيا، راسما فيه حركة الشخوص، أقل ما فيها إنها كانت أمينة على عصرها وانهياراته.