أربع قصص قصيرة جداً

أربع قصص قصيرة جداً

 

السـؤال

 

 

علي إبراهيـم الدليمي

 

حاول أن يستفزني بصيغة سؤاله المفاجئ عندما كنت أتحدث معه كاصدقاء عن ذكرياتنا الشبابية القديمة.

 

ـ هل مازلت تحبها؟

 

رغم ان سؤاله كان كالصاعقة، وقد سمعته آذان جميع الناس في هذا الكون إلاّ انني تظاهرت باني لم اسمعه، كي اتحاشى الاجابة عليه، ولعله سينصرف الى حديث اخر، ويترك السؤال نهائياً إلا انه يبدو مصراً على ان أجيبه، فكرر السؤال نفسه، حاولت ان أثنيه عن سؤاله هذا ورجوته ان يستمـيحني عـذراً عن الاجابة عليه، فكرر السؤال نفسه ايضاً للمرة الثالثة وكأنه ضابط تحقيق يحاول ان ينتزع مني أعترافاً أخيراً لجريمة قد أقـترفـتها ليلبسني بالتالي تهمة مع سبق الاصرار والترصد.

 

 فلم يبق أمامي إلاّ أن أقر الحقيقة أمامه قائلاً: ـ ياصديقي أن قلت لك بانني مازلت احبها فسأكون خائناً بحق زوجتي المخلصة لي التي بذمتي منذ أكثر من خمس عشرة سنة، وهي أم أبنائي الخمسة، وان قلت لك لا أحبها أو قد نسـيتها، فسأرتكب جريمة إثم الكذب والعدوان على نفسي وعلى ضميري.

 

ـ ولكن كيف ستتخلص من هذه الازدواجية السرطانية التي تدب داخل أحاسيسك ؟.. سألـني وملامح العطف في عينيه ونبرات صوته متضامناً ومتعاطفاً مع مأزق مشاعـري المنهارة، وأنا في عقدي الذي لربما سيكون الأخير من عمري فأجبته:

 

ـ الموت، نعم ياصديقي، الموت، وحده هو الذي سيحـسم آمر إنسانيتي بين الوفاء لزوجتي، وذكرياتي العـميقة لحبيـبتي.                                                            زمـــــــــــــــــــــن

 

 كأنما صاعقة شديدة نزلت من السماء قد صعقت رأسي بقوة وأنا أتفاجأ بهـيئة ذلك الصديق القديم الذي طالما كانت تربطني به علاقة متينة وحميمة، رغم أنه يكبرني بأكثر من عقد ونيف من السنين.

 

 رأيته.. وياليتني لم أراه أبداً، فالشيخوخة قد زحفت عليه من شعره الى قدمه، وقد حنى الدهر ظهره بدرجة زاوية حادة جداً، وبدأت أقدامه لا تعـينه على المشي إلاّ ببطء شديد وهو يتكئ بثبات على العصا بكلتا يديه المرتعشتين، أما نظره فهو على الأرض لا يستطيع نهائياً أن يرفع رأسه المطاط لينظر أمامه.

 

 للوهلة الأولى لم أصدق ما شاهدته ولاسيما أنا أمشي مسرعاً في الطريق .. تركته لمسافة قصيرة ، ثم عدت اليه ثانية لاتأكد من صحة ما رأيت، وقفت أمامه بتأمل وألم عميقين وهو يحدق نحو الأرض ويسير سير السلحفاة.

 

 استرجعت حينها بعجالة شريط ذكرياتنا الجميلة التي انقطعت معه منذ احتلال البلاد، همست في نفسي: ياالله، بضع سنين تجعله هكذا.. أيا لهذا الزمن الغادر..؟.

 

حاولت أن أكلمه وأعـرفه بنفسي.. لكن هل سيتذكرني؟ وهل سيستطيع أن يرفع رأسه الى الأعلى وينظر اليّ ويكلمني؟ عدة علامات استفهام وضعتها نصب عيني وأنا أهـم بمداهـمته.

 

لكم كنت أتمنى أن أحضنه وأبكي.. ولكن ماذا سيقول عني الناس ونحن في شارع مزدحم، هل جننت؟.

 

تساءلت: لكن لما كل هذه الخطوط الحمراء أمامي.. وأحاول أن أتخطاها، فهذا الزمن الغادر الذي هجر صديقي وتركه.. ماذا بيدي أنا الضعيف أيضاً أن أفعله تجاهه؟.

 

وهكذا.. واصلت سيري وتركته وشأنه، لأطوي صفحة أخرى من صفحات اعزائي الذين أفقدهم يوماً بعد آخر.

 

جـثــــــــــــــة حـيـــــــة

 

أكثر من خمس سنوات ووالدته تبكي عليه دون انقطاع رغم أنه لما يزل حياً أمامها بعد أن خطفه الإرهابيون لمدة أسبوع وقد أطلق سراحه بعد دفع فدية نقدية عنه..!.

 

إلاّ إنها بقيت تصر على إحضار ورؤية جثة ولدها..!.

 

ذهب الولد إلى ثلاجة الطب العدلي ليبحث عن جثته المزعـومة لعله يعثرعليها بين الجثث المتناثرة، ويحضرها لوالدته كي تكف عن بكائها الأزلي..!.

 

وبعد أن عجز عن العثور على جثـته تراءت له فكرة أن يمدد جسده بين جثث الموتى.. لعل أهله يأتون بعد أيام يبحثون عنه ويعثرون على، جثـته، لعل والدته ستستريح لرؤيتها..!.

 

 (أبـو عـبـد)

 

طيلة أكثر من عقد ونيف، و(أبوعبد) ذلك المستخدم الأمي البسيط، يتردد أسمه بين الفنانين .. (أبوعبد) أرفع هذه اللوحة من الأرض، (أبوعبد) ضع هذا النحت هناك على المكعب، (أبوعبد) أذهب أجلب لوحات الفنان في سيارته التي في خارج القاعة وأدخلها الى هنا، (أبوعبد تعال ، أبو عبد أذهب).. بل أضحى (أبوعبد) يعرف كل صغيرة وكبيرة، ولا تفوته شاردة أو واردة، إلاّ ويعلمها أكثر من موظفي القاعة أنفسهم، كذلك يعرف جميع الفنانين وأساليبهم الفنية واحداً واحداً… مثلما لديه معلوماتهم السرية والعلنية!.

 

وأحياناً يقف معهم ويحادثهم عن نشاطات القاعة المستقبلية … الخ، وأغلبهم من يصغي اليه بجدية بل منهم من يأخذ ويستأنس برايه.

 

في احدى المرات تم تصويره مع شخصيات فنية عالمية في أثناء أفتتاح معرض عالمي.

 

لقد أصبحت القاعة التي يعمل فيها (أبوعبد) مستخدماً بأجور رمزية مع ما يغدق عليه من (اكراميات) من الفنانين الذين يخدمهم، عالمه الخاص، رغم انه بعيد كل البعد عن حرفية الفن ..!.

 

ذات مـرة جلبت له صحيفة كان قد كتب عنه أحد الأدباء الذين أستأثرهم (أبوعبد) فقلت له:-

 

ـ (أبوعبد)، لقد كتب عنك اليوم في الجريدة.

 

فرح جداً وقال أرني الجريدة… ولما رآها قال:

 

ـ ماذا كتب عني ، وأين صورتي؟!.

 

فأجبته بان هذه قصة تعبيرية مستوحاة من يومياتك، قد تأثر بها القاص ونشرها.

 

برم (أبوعبد) الجريدة بيده، وراح بها الى المقهى الذي يجلس فيها يومياً ليتناول نركيلته.

 

وفي صباح اليوم التالي، ذهبت الى القاعة… واذا بمسؤولة أستعلاماتها تخبرني.. بان (أبوعبد) قـد… مــــــات.

 

مشاركة