أديب روسي قرأ القرآن الكريم وتأثر به ـ زهير ياسين شـــليبه

أديب روسي قرأ القرآن الكريم وتأثر به ـ زهير ياسين شـــليبه
إيفان بـونين الطبعة الأولى للأعمال مصيرها سلة المهملات دائماً
زهير ياسين شـــليبه
واحد وأربعون عاماً مرت على ميلاد الأديب الروسي الكبير إيفان بونين، الحائز على جائزة نوبل عام 1933، حيث كان يقيم خارج بلادهِ الضاجة بالأحداث السياسية الكبيرة مما جعله يهرب منها اندلاع الثورة فيها ويقيم في فرنسا.
ولد إيفان بونين بتاريخ 22»10»1870م في مدينة فورونيش، التي تبعد خمسمائة 500 كيلومترا عن موسكو وهي في الأراضي الروسية السوداء كما يطلق عليها الروس، وهذا يعني أن بونين ولد وترعرع في أعماق روسيا.
وفضّل بونين الإقامة في باريس بعد ثورة أكتوبر الروسية حتى وفاته عام 1953. عُرف إيفان بونين برحلاته العديدة إلى الدول العربية مثل مصر وبلاد النوبة والقدس والشام كلها واليونان وتركيا وسيريلانكا. وعُرف ايضا بقرائته القرآن باللغة الروسية وتأثره به وبالفكر العربي و الشرقي عموما كما يبدو ذلك واضحا من عناوين مجموعته القصصية معبد الشمس الذي استوحاه من زيارته لبعلبك وآثار معبد الشمس فيها. ونفس الشىء يقال عن قصائده ألخرى نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مثل ليلة القدر و إمرؤ القيس و البدوي ، القاهره اليهوديه المكرسة لزوجة الرسول محمد صلعم صفيه اليهوديه. الغريب أن إيفان بونين زار القدس كمسيحي شرقي لكنه تعلق بسحر الشرق والإسلام باعتباره يشمل كل الأديان السماوية وهذا ما يبرر تأثره الكبير بالإسلام وهو ما يبدو بكل وضوح في قصيدته اليهوديه حيث يصور الرسول محمد صلعم يطمئن زوجته صفيه بأن تقول لمن يعيرها بيهوديتها بأن أبراهام أبوها وموسى عمها ومحمد زوجها. لقد كان بونين أديباً متمكناً من لغة الأدب وقد قال عنه مكسيم غوركي مؤسس الواقعية الإشتراكية في الأدب الروسي بأنه سيد الأسلوب في الوقت الحالي… ، وقد كان مكسيم غوركي على علاقة جيدة بإيفان بونين منذ عملهما سوية في دار نشر المعرفة ، وبقي يحترمه ويجله حتى بعد موقفه السلبي، بل والمعادي للثورة البلشفية الروسية عام 1917. فمن هو إيفان بونين وما هي آراؤه في القصة وبعض جوانب النقد الأخرى، وما هي علاقته بعملاق القصة القصيرة المشهور أنطون تشيخوف؟
ينتمي إيفان بونين إلى عائلة روسية نبيلة معروفة، إلاّ أنه مارس في شبابه مختلف المهن لسد رمق العيش وبخاصة بعد إفلاسها. وكانت الصحافة، مهنة المتاعب، آخر المهن التي زاولها بونين، وقد ساعده عمله في هذا الميدان على التعرف إلى الحياة الأدبية الروسية آنذاك، والتي مكنته بالتالي من تطوير لغته وموهبته الشعرية بالذات، فأصدر مجموعته الشعرية الأولى أشعار وذلك في 1891.
لقد تغنى بونين في مجموعته الأولى أشعار بجمال الطبيعة الروسية وغابات مدينة أريول التي كان يسكن فيها عشية كتابته قصائده الأولى، وإذا كانت هذه المجموعة قد أعلنت عن ولادة بونين كشاعر روسي محب للطبيعة الروسية بغاباتها وسهولها وأشجارها، فأن مجموعته الثانية تساقط الأوراق أو الخريف التي أصدرها عام 1901م كانت قد جلبت له شهرة كبيرة، لا في أريول فحسب، بل في كل أنحاء روسيا المترامية الأطراف، وحصل بفضلها على جائزة بوشكين.
وأحب هنا أن أقول بأني شخصيا حصل لي الشرف أن أدرس وأُقيم في مدينة فورونيش وزرت أريول ووقعت في غرام اشجار الباتولا التي ظل إيفان بونين يحلم بها في غربته التي امتدت حتى وفاته في فرنسا.
ثم أصدر بونين مجموعته الشعرية الثالثة بعنوان تحت السماء عام 1898، وأثبت فيها، جنباً إلى جنب مع مجموعته الشعرية الثانية، قدرتَه على إتقان الأشكال الشعرية الكلاسيكية في الأدب الروسي، التي اهتمت بالأغاني الشعبية التراثية عن الطبيعة الروسية وعن أشجار الباتولا الروسية الشهيرة، وعن الأرياف الفقيرة في الغابات البعيدة المترامية الأطراف، وليتخيل المرء هذه القرى في ليالي الشتاء الباردة والثلوج تتساقط عليها بحيث تصبح الأرض ناصعة البياض، أو في الخريف حيث تغطى الأوراق الصفراء المتساقطة من الأشجار العالية الأرضَ، وتكتسب الطبيعة خصائص رومانتيكية يعرفها أصحاب النفوس الحالمة .
ومن المعروف أن أكاديمية العلوم الروسية كانت قد رشحته فخرياً عام 1909 لنيل لقب أكاديمي ، وزار القدس، وقام برحلة طويلة إلى الشرق في بداية القرن العشرين وكتب عن هذه الرحلة قصائد كثيرة جمعها في ديوان نشره بعنوان معبد الشمس ، فتعززت مكانته الأدبية في روسيا.
لم يمارس بونين السياسة ولم يكن عضواً في حزب سياسي، إلاّ أنه عرف بإخلاصه الكبير لروسيا ورغبته في تطويرها نحو الديمقراطية، ويقول أحد الباحثين المتخصصين بأعماله بأنه كتب في إحدى الاستمارات الشخصية معلومات تشير إلى انتمائه إلى حزب العمال الديمقراطي الروسي، رغبةً منه في أن يبدو أديباً معارضاً للسلطة القيصرية.
ووقف إيفان بونين ضد حكم البلاشفه الذين استولوا على السلطة عام 1917، بل وشَهَّرَ بهم في مقالاته وكتاباته الكثيرة التي نشرها في الصحافة الروسية المعارضة للنظام الشيوعي، الصادرة في فرنسا.
هكذا إذن، لم يقف هذا الأديب الموهوب مع حركة البلاشفه التي كان قادتُها يرفعون شعاراتٍ تدعو إلى إنقاذ فقرائه وأريافه وغاباته التي تولّه بحبها، فنشر في باريس روايته الشهيرة حياة أرسينيف عام 1930، إضافة إلى كتب أخرى عن الأدب الروسي، وعلى الرغم من تسامح السلطه السوفييتية مع بونين ودعوتها له للعودة إلى بلاده، إلاّ أنه كان أشد عناداً من أيام الثورة الأولى في عدائه للسلطة السوفييتية.
وكما سبق وقلنا بأن بونين حاز على جائزة نوبل عام 1933 ولكنه بقي يمارس طقوس الحزن بسبب بعده عن غاباته، التي عشقها وكتب عنها أجمل أشعاره، وهو الذي شهد انتصار الحلفاء على ألمانيا الهتلرية وكان فرحاً له كما يؤكد المقربون إليه، ومع ذلك لم يتراجع عن موقفه، ولم يفكر بالعودة إلى بلاده التي كانت تخيم عليها الستالينية الحديدية.
ولم يخلِّف بونين وصية يطلب فيها الرقاد الأبدي قرب جذوره التي أحبها، عند أشجار الباتولا، وفي أحضان القرى الروسية التي عشقها، بل فضل أن يرقد في باريس فتفسخت عظامه في ترابها وامتزجت حياته الأدبية بحياتها في فترة ما قبل الحرب.
ومع ذلك كله، وبغض النظر عن كل ما قيل عن بونين ظلت أشجار الباتولا أمينة لأدبه ومخلصة لشخصيته، فأنشدت الأجيال الجديدة أشعاره واهتمت بقصصه، لأنه قدم الكثير لثقافته القومية، ولأنه على الرغم من اختلافه مع البلاشفه لم يؤثر المهاترات السياسية والحروب الكلامية، وإنما انصرف إلى العمل الإبداعي الدؤوب في كل المجالات الشعر، القصة، النقد الأدبي، تاريخ الأدب و الخ… وهنا يكمن سر احترام الأجيال له، ومن النادر أن نجد كاتباً حريصاً على أدبه وسمعته الأدبية ومتطلباً ومراجعاً دقيقاً، بل صارماً لكل ما كتبه كإيفان بونين، فقد كان يصحح أعماله الأولى ويراجعها بدقة متناهية ويعدها للنشر في طبعة ثانية، وكان يميل بشكل خاص نحو الاختصار… وهذه خاصية يتميز بها عن غيره من الأدباء ليس في روسيا، بل في كل العالم، إذ إن الأدباء يرفضون، في أغلب الأحيان، إجراء التعديلات على أعمالهم الأولى، وإعادة نشرها في طبعة أخرى.
وطالما يصبح النص الأدبي بمستوى الكمال الفني بعد المراجعة ونشره في طبعة ثانية فإن بونين كان يرى أن الطبعة الأولى يجب أن ترمى في سلة المهملات، أو توضع في طي النسيان بل إن بونين لم يكن ليسمح لأحد بأن يقرأ قصصه الأولى المنشورة في الطبعات الأولى، وحاول بمختلف الطرق والوسائل إبعادها عن أنظار أصدقائه المقربين إليه، وكان يقول لهم بهذا الخصوص أرجوكم ، أتوسل إليكم أن تمتنعوا عن قراءة أعمالي المنشورة في الطبعات الأولى، أستحلفكم بالله أن تقرأوا الطبعات الجديدة وتتركوا طبعة بيوتر بوليس ، فأنا أصبح معتوها وأصاب بانهيار عصبي عندما أسمع أن أحداً ما قرأ قصص الطبعات الأولى؟ لأني أرى فيها كلمات زائدة ولا معنى لها، وأتعجب من نفسي وأقول لها كيف لم أحذفها آنذاك؟ بل إني مستعد لأن أشنق نفسي وأصرخ في وجه العالم كله… آه… آه ، تماماً كما كان يفعل ليف تولستوي عندما يتذكر شيئاً مزعجاً في مفرداته أو تصرفات أحد أبطاله.
وكان بونين شديد الانتقاد لقصصه القصيرة والطويلة، فمثلاً إنتقد في شبابه قصته الطويلة الريف ووصفها بأنها طويلة أكثر من اللازم، إلاّ أنه امتدحها في الشيخوخة عام 1947م، وقال عنها أنا مندهش لهذه القصة، كنت اكرهها لفترة طويلة ولكني أراها الآن قصة نادرة وقوية وقاسية في تصويرها للعالم والواقع الاجتماعي، لكنها وهذا هو المهم ـ كانت متنوعة .
وإن قصة الريف تنتمي على حد تعبير بونين إلى الأعمال المتشائمة أو الكئيبة، وكان الكاتب يقول إني في الحقيقة أكون أحياناً ، بل في أغلب الأحيان في حالة كآبة هذه هي الحقيقة ولكن ليس دائماً، ليس دائماً .
وكان بونين يصف نفسه بالتنوع، والتعددية في الاهتمامات ولهذا ظهرت لديه أعمال رومانسية تهز المشاعر لدرجة البكاء وكتب أعمالاً تراجيديه تهز المشاعر لدرجة البكاء، وكتب أعمالاً تراجيدية قاسية مليئة بالكآبة والحزن.
وكان بونين معجباً بقصتيه مدريد و إبريق القهوة الثاني وقال في إحدى المناسبات بعد أن أجرى تعديلات عليهما مما يؤسف له أن الجميع، وكما في كل مرة يعتقد أن أبطال القصتين حقيقيون وأخذتهم من شخصية فلان وعلان من الذين كانوا يحيطون بي، إلاّ أن هذا غير صحيح، إذ إن كل ما كتبته في القصتين هو من صلب الخيال فحسب. كله من الخيال. يشهد الله كله خيال في هاتين القصتين والقصص الأخرى .
وكان بونين يحب انطون شيخوف الكاتب القصصي والمسرحي الكبير، وقد أشار إلى ذلك في العديد من المناسبات، من ذلك أنه كان يقول لابن أخيه الذي ترجم جاك لندن عام 1910 إلى اللغة الروسية اسمع يا ابن أخي، أن كل واحد منا نحن معشر الأدباء يرغب في أن يخرج من جلده، أن ينظر إلى أدبه بعيون غريبة، أنا مثلاً أريد أن أعرف الصالح والطالح في أعمالي، المقاطع التي بالغت فيها بالتصوير أو بالعكس، أريد أن أكتشف مواطن الضعف والسلبيات، أريد أن أكتشف الأفكار الغبية والساذجة، أخيراً أريد أن أعرف الجواب الحقيقي على سؤال لطالما طرحته على نفسي هل أجيد الكتابة؟ أو… يا إلهي عن الأدب ممكن الحديث مع أنطون شيخوف فقط.
بونين عرف شيخوف عن قرب ولهذا فهو يختلف مع الكثير من الآراء المطروحة في كتاب ذكريات معاصري شيخوف لصديقه الحميم تيليشوف، والذي صدر عام 1947م، فهو لا يتفق مثلاً مع الوصف المعروف لشيخوف على أنه جميل، أنيق، هادىء الطبع وخجول والخ… ويقول هذا مجرد هراء ليس إلا.
ومن الطريف أن أحد معاصري شيخوف كان قد ذكر بأن الكاتب الروائي الروسي الكبير تولستوي قد صرح في أحدى المرات بأن شيخوف هو بوشكين النثر الروسي إلاّ أن بونين علق على هذا الخبر مستفهماً متى؟ أين؟ ولمن صرح تولستوي بهذا الرأي؟ ويا لغباء هذه المقارنة
ويرى بونين أن تشيخوف امتدح بعض الأدباء والمسرحيين لا حباً أو أعجاباً فيهم بل خجلاً منهم. فمثلاً أن تيليشوف ذكر أن تشيخوف مَدح الشاعر الروسي بيلوأوسوف وأعتبره كاتباً نادراً وشاعراً من طراز جديد، إلاّ أن إيفان بونين رفض هذا الرأي، بل وأنكر أن يكون شيخوف قد صرح بهذا الأمر، وقال إن أنطون شيخوف يكذب عن طيب خاطر وحسن نية لأن بيلوأوسوف هذا لم يكن كاتباً قط، بل هو مجرد خياط مسكين وناظم شعر فاشل
كما هو الحال في الادب العربي المعاصر حيث نجد العديد من المتطفلين على الأدب ممن يستغلون ظروف سهولة النشر والشهرة.
وفعلاً كان بيلوأوسوف 1863 ــ 1930 شاعراً روسياً ـ سوفييتياً قليل الأهمية، قليل المعرفة الأدبية، وكان يعمل في محل خياطه مع والده، واستمر يمارس مهنة الخياطة حتى وفاته، إلاّ أنه كان يتابع أهل الفن والأدب، وبالتالي أخذ يهتم بالأدب والموسيقى، وله علاقات اجتماعيه مع ممثلي الثقافة بشكل عام فنشر فيما يعد كتاباً عن ذكرياته مع شيخوف وغوركي وغيرهما، إضافة إلى قصائد شعرية مختلفة، إلاّ أن بونين رفض أن يعتبره شاعراً، بل سمى الأشياء بمسمياتها كما يقال.
وأود أن أختتم هذا المقال بالقول إن إيفان بونين، جنبا إلى جنب مع أدباء آخرين مثل ألكسندر كوبرين وليونيد أندرييف وأنطون تشيخوف كوّنوا قمة النثر الروسي الفني العميق وتأثر بهم العديد من الكتّاب الروس والأجانب.
استاذ جامعي عراقي مقيم في الدانمرك
AZP09