آل ياسين لـ (الزمان): كم الشعر العراقي كبير وفنّه قليل

الصنعة تغلب الموهبة على مدار العصور

آل ياسين لـ (الزمان): كم الشعر العراقي كبير  وفنّه قليل

كرار النعيمي

كانت بداياته عبارة عن محطات كثيرة بدأها بهوس شعري شهد حمى نشره لقصائده بالصحف والمجلات وانخرطت مشاركته في الاماسي والندوات التي سادت حقبة الستينات .. كرم بدرع ريادة الشعر بمهرجان الرواد العرب الاول كذلك نال العديد من الجوائز والأوسمة والدروع في عدد من الاقطار العربية والعالمية بدءاً من العراق وانتهاء مطافه بيوغسلافيا. يعده النقاد والقراء خليفة للجواهري حتى لقب بالعديد من الاوصاف منها المتنبي الثاني وشاعر الامة وشاعر الانسانية وأبياته محفورة على شواخص حضارية ومعمارية وقصائده تردد بين فينة واخرى في كل مكان وهو يعد الشعر همه الوحيد ونبضه الاخير لذلك لم يجتحه بالتجارة ولم يدنسه بالجبن ولم يذله بالاسفاف والعبودية حتى كان نتاجه يرتفع به على جناحيه لقمة شامخة ؛ انه الشاعر محمد حسين آل ياسين  وكان هذا الحوار معه:

{ أين انت من ساحة الشعر العربي والعراقي ؟

– القمة العليا في هذه الساحة الضاجة بالاسماء والعاجة بالمدارس المزدحمة بالاجيال  بشهادة ما اكتب وشهادة من يقرؤه ومن يدرسه ويبحث فيه ولست قمة هذه الساحة لأني ما زلت  فيها من ستة وخمسين عاما اطل عليها وأحترق بنيران الابداع وطموحه ولا لأنني أفرغت في دوحتها الباسقة اكثر من اثنين وعشرين ديوانا سوى (الاعمال الكاملة) (وديوان آل ياسين) التي طبعت في ست عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة وتونس وعمان فأثارت مئات الاقلام تنقد وتبشر وتدرس حتى تجاوزت البحوث والدراسات والمقالات والتعليقات آلاف الصفحات المنشورة في الصحف والمجلات والكتب على امتداد الوطن العربي الكبير بين الخليج والمحيط  …

{ في اية خانة من الاجيال تضع نفسك وأين ترى نفسك ؟

– زمنياً الى الجيل الستيني ففي اوائل الستينات بدأت النشر في الجرائد والمجلات وبدأت كذلك المشاركة في الأماسي والندوات وبها شاركت في تأسيس ندوة عكاظ الشعرية عام 1965ونشرت أول دواويني (نبضات قلب) عام 1966وفزت بجوائز الجامعة والمجمع العلمي في مسابقات الشعر ؛ اما اصطلاحيا فالستينيون حينما  اختاروا لأنفسهم الانتماء الى عقد زمني أرادوا تصنيف القصيدة الحرة تصنيفاً يبعدها ظاهرياً عن تقليد روادها الأوائل ، السياب ، ونازك وغيرهما وكأن الذي يكتبون ليس تقليدا لأولئك فهم ستينيون وأولئك خمسينيون وهكذا سارت الامور فظهر سبعينيون وثمانينيون وأما واقعياً فلست قائلاً بالانتماء الى عشر سنوات معينة فالشعر الحقيقي فوق الحدود الزمنية والعقود المرسومة واستقراء الشعر الخالد يبرهن على ذلك  فماذا نقول مثلاً في جيل المتنبي او الجواهري او سواهما من الذين اختزلوا الزمن بأيديهم بل نسب اليهم عصرهم إذا ذكروا وذكر العصر . يبدو أن التمسك بالجيل من أوهام العجزة الناضبين أذ يبحثون في تقدم الجيل تقدماً في الشعر وأنى لهم هذا والموهبة هي المعيار.

{  ما هي اكثر الاغراض الشعرية التي وقعت تحت وطأة قلمك ؟

– لم تزل الشهادة بمعانيها العظيمة المتفردة هاجساً شعرياً هائل الخصب والعطاء وسحري التدفق والتوهج وسيظل كذلك نبعاً ثراً لاينضب ما بقي لدي حس قادر على التوحد بهذا العالم الباذخ فلم أزل كلما تمثلت صور الشهادة أرتعش ارتعاش العصفور بالقطر وأهتز اهتزاز الغصن بالمطر وتغمرني قشعريرة اشعر من خلالها بقدرة عجيبة على الاستجابة الشعرية إذ لاتنفك هذه القدرة  ما دمت متلبسا ببرد الشهادة واقفا تحت مطر أتامل هذا الكرم والنبل والأريحية والبذل صورة مسربلة بالدم الزكي مهيمنة على روحي وعلى الكون واقفة تختزل الزمان والمكان نابضة بالحياة والحركة راسمة حقيقة البقاء وعاكسة معادلات الحياة والموت رافضة الرثاء والبكاء لأنها ترجمت كيف يكون الخلود العملاق بالذب عن القيم والحرمات والدفاع عن المقدسات بانتصار الجراح على المدى والنصال وعزة الدم والخذلان الطعنة والنهار واصطرع الحق والباطل.  ولا اكشف سراً اذا قلت اني لم امارس في يوم من الايام تحربة شعرية تشبه تجربتي مع الشهادة موضوعة وفناً على الرغم من انفعالي النفسي في تجارب ذاتية او غزلية خصبة وتنعكس دفقاً فنياً عالياً في كثير من الاحيان غير أن للشهادة أصداء في اعماقي ترن رنين الأنين والآه ولا املك ان أسد عليه المنافذ ولا أن أمنع تياره الجارف من أن يأخذني معه الى العويل الصامت المتفجر بالصور الشعرية المتجددة والمعاني.  وكم توقفت أمام قصائدي في الشهيد والشهادة أتامل هذه الحقيقة وأستجلي كنهها وأتساءل عن سر هذا التوحد الأخاذ فهل كنت منطلقاً من حلمي بها وأنها أعلى أماني العمر أم كنت منطلقاً من تقديس الشهادة الذي نما في وجداني تربية ونشأة وعقيدة أم لأن الشهادة قمة عصية أغلى واكبر من أن يدركها الحي وأصعب من أن يفهمها الذي أخطأته اللحظة العظمى ؟ لا أدري على وجه الدقة أي من هذه الأسباب كان وراء الحالة ولكني أدري انها مجتمعة وغيرها معها لاتكفي تفسيرا لها لأن مانتحدث عنه أروع وابهى من كل ما قلته فيه واجمل واحلى من كل ما قيل فيه فهو الابداع الانساني الذي لايصفه إبداع ..

{ يقال الشاعر طائر يحلق بجناحيه ؛ ما رأيك ؟

ان الطائر المحلق له ألوان وأشكال ؛ منه هو الخيال الشعري حين يرود أقاليم الرؤى وأصقاع الصور وحدائق المعاني وحرائق الحضور والطواف راحلاً في الدروب الموحشة يغمرها خفقاً واخضراراً ويعيد خلقها جمالاً ودهشة . وتارة اخرى ترى هو الشاعر نفسه حين يرتفع به صدقه ويطير به ضميره النظيف وتحلق به انسانيته وشجاعته ويظل يطل من على أحبته بني البشر يمطرهم بالحب ويملأ عيونهم الانبهار والمتعة وانكشاف الطريق. وفي مرة اخرى المتلقي حين تحلق به القصيدة الى غيوم الامل وقمم الاحلام يشهق لحرف ويصفق لكلمة ويسجد لبيت . كل شيء مع الشعر يطير وكل مخلوق يحلق حتى يغدو الكون كله طائراً يحلق بجناحيه فوق فيافي المادة وصحارى الرداءة .

{  يقول أبو شبكة ؛ الشعر صنعة وكذلك يقول الجواهري ان الشعر غيبوبة ، فماذا تقول أنت ؟

 –  لا أدري هل قالا ذلك فعلاً : ففي النفس من الشك في نسبة القولين اليهما لأن كلاً منهما كتب شعراً لايصدق عليه قوله ذلك أن الصنعة وحدها لاتضمن شعراً ففي الشعر الصنعة جفاف ومحول لايفصح عن أكثر من التزام العروض واتقان اللغة وهو في احسن فروضه شعر ترصف فيه الألفاظ وتسلسل فيه القوافي خالية من النبض المتدفق والوجدان المنفعل والعاطفة المتفجرة صوراً ومعاني والبوح المحترق بنبوءة الشاعر والجمر المخضل بهواجسه وإحساسه وهو حينئذ لايفترض موهبة خاصة وقدرة ذاتية ينفرد بها الموهوب .

{  من هم شعراء الصنعة في اعتقادك  ؟

الواقع أن اغلب شعراء كل عصر يصنفون شعراء صنعة لأن الامر لايتطلب كما ذكرت لك يمكن لمن يتقن العدة العروضية واللغوية ان يكتب من شعر الصنعة  وغالباً ايضاً ان لايكتب لشعرهم طول البقاء فحياة الشعر وخلوده تشترط غير الصنعة ومن جانب اخر فإن الغيبوبة على اهميتها القصوى لاتكفي خالقاً مبدعاً للشعر ..

*   أذن هل يمكنك ان تقول ما الذي يجب ان يقترن مع الغيبوبة ؟

ان لم تقترن الغيبوبة بالقدرة على تصنيعها نصاً فالغيبوبة مجردة مما يتساوى فيها عدد هائل من الناس ينقطعون لحظات او ساعات عن محيطهم مهومين في عوالم الحلم والسحر والرؤى من دون ان تكون لديهم القدرة المفصحة عن استعداد نفسي وثقافي عاليين على نقل هذا العالم الغائب الى نص محسوس مقروء او مسموع …

{  هل يمكن القول ان الغيبوبة اندمجت بالصنعة ؟

هما يشكلان اتحاداً عضوياً مصيرياً بحيث لاينفك أحدهما عن الآخر وكأنهما ولدا معاً وهما كذلك فعلاً ؛ إذ لم يحدث لدي أن سبق أحدهما الآخر إذ يجيئان معاً ويذهبان معاً فحين يحدث هذا الانقطاع اللذيذ عن الواقع فيما ندعوه الآن بالغيبوبة فإن الصور والمعاني تمطر مسربلة بلغتها ومرتدية ثوبها فالوعاء اللغوي جزء لايتجزأ من لحظة البرق الشعرية في كل خفق لصورة او رفة لمعنى بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر لأنه بحسب درجة الطغيان يكون النزول من الهرم الفني درجة درجة بحيث اذا بلغ طغيان احدهما على الاخر كبيراً كانت القصيدة على الارض التي ينتصب عليها الهرم كله وبهذا المعيار يتفاوت الشعراء كبراً ومنزلة وتتفاوت مواهبهم ابداعاً واسفافاً والخالدون منهم هم الناجحون في تحقيق هذه الوحدة الفريدة ..

{  من الشاعر المفضل لديك من الأحياء المعاصرين ؟

اكثر من واحد،  كل منهم يستحق مني وقفة..  نازك الملائكة الوفية لصوت الشعر في وجدانها وضميرها النقية في مناجاتها للشعر ، لم تتعصب وهي رائدة الشعر الحر كفرت بالأشكال ان لم تكن شعراً أنحني أمام صدقها مع الشعر وسليمان العيسى المبدع المجلي من ساحات النضال وصخبها الى حدائق الصمت وحضورها براءة مدهشة مع الشعر والأطفال وكرامة الصمت وحسبه ان قصائده الخضر أفرعت على شفاة الحالمين بغد الأمل والحرية وأينعت في أحضان الأمهات ودفاتر الأطفال نامية مزهرة مطلة على الفجر ومحد الفيتوري ضمير أفريقا وبلبلها الغريد الذي ابتسم حتى هطلت دموعه شعراً طالعاً كالعنقاء وسط النار والدخان والحرائق حبس في قلبه همه الملون ليبيض نهار العرب يكفيه ان ينشد قصيدته بصوت راعش مرتجف لئلا يوقظ الحالمين ومحمود درويش المسكون بالشعر والغربة والتوق والذكريات والأرض حتى صار فلسطين اهلا وتراباً هزم الاخر بالشعر والحب وأقام من رؤاه وذكراه أحلى الاوطان واغلاها …

{  كيف تنظر الى تجسيد مفهوم الالتزام للشعراء الاخرين من خلال قراءتك للمشهد الشعري العراقي الحديث؟

ان الكم كبير والفن قليل  بسبب ما ذكرته لأن الامر يتعلق بالمواهب وكذلك فإن دوافع الكتابة اختلفت واختلطت بعد ان كانت ذاتية خالصة صارت متعددة متنوعة منها التطلع الى النشر في الجرائد والمجلات او السعي الى نشر المجموعات الشعرية لدى الناشرين  الذين يتمسكون بشرط الالتزام فيها ثم بدوافع مصلحية مادية محضة كمكافأة النشر وامثالها مما لايمت الى عالم الشعر الجميلة بأي صلة فحين تكون الدوافع للكتابة من هذا القبيل تصبح الكتابة متعجلة متسرعة غير معنية بالجانب الابداعي الأصيل لأن النص سيكتسب شرعيته في هذه الاحوال من مجرد التزامه حتى لو كان مصطنعاً متكلفاً مجتلباً من الخارج الاجتماعي او السياسي فزاد الضعيف زيادة مرعبة  وقل العالي المبدع ولكنه مع قلته التي تشتد يوماً بعد يوم لاتخطئه عين القارئ ولا أذن السامع ولا قلم الناقد ولا وعي المتلقي في كل مكان وزمان والزمن مصفاة هائلة العدل والانصاف وستفرز وتصنف بحسب الاستحقاق

{  ماذا ترى عن الالقاب الممنوحة للشاعر ؟

لا ينبغي للشاعر ان يكون اللقب هدفاً يسعى اليه لأذن ذلك من شأنه ان يصرفه  عما هو أدعى للسعي وهو الشعر نعم ربما يزهى بها في أعماقه لشعوره بأنها نوع من الاعتراف على لا يتعدى الأمر الزهو الذي لايوزع نفسه وجهده ووقته فيخسر بذلك ما لا يعوضه اللقب بل ربما خسر اللقب بعد خسرانه الشعر كما حدث ويحدث لكثيرين  قصروا همهم على لقب هنا وصفه هنالك جاهدين على ان ينمو اللقب ويكبر الوصف فخسروا أنفسهم والشعر فشغلوا بغيرهما من سفاسف الحياة وزخارفها …

{ ماذا تقول ايضاً عن الالقاب التي  خلدت تأريخ الشعر العراقي ؟

     – ان اطلعنا على سير الخالدين ممن أطلق عليهم أكبر الالقاب فلا نعثر على ما يدل على إهتمامهم باللقب او السعي إليه وأقرب الأمثلة زمنياً الجواهري الذي لقب منذ أواخر الأربعينات بشاعر العرب ثم أضيف إليه (الأكبر) فلا نقف في شعره ولا في ذكرياته المطبوعة بجزءين كبيرين تحدث فيهما عن كل جزيئات حياته الشعرية على اي اشارة إيجابية او سلبية الى اللقب ولا حتى تلميح عابر او ذكر يسير وكأن لاوجود للقب اصلاً في حين ان هذا اللقب كبير ورافق اسمه في كل مرة يذكر فيها او ينشر مع قصيدته الى ان صار لقبا رسميا شائعاً ومثل الجواهري في هذه الظاهرة  من سبقه من الشعراء الملقبين بشاعر العرب كالكاظمي (ت 1935) والرصافي (1945) وغيرهما من شعراء مصر والشام سوى القدماء من الشعراء كالمتنبي والنابغة وسواهما ذلك ان الالقاب نوع من التعبير عن الاعجاب بالشاعر.

{  بماذا اتسم شعرك ؟

    – اتسم شعري في هذه المرحلة بالرومانسية وكانت أغلب تجاربي فيه بالغزل والبوح الذاتي والشكوى من الوحدة والسأم مما يعد طبيعياً منتظراً من شاعر شاب مقبل على الحياة يفعمه طموح لا حدود له ويرفده إرث عائلي باذخ العطاء والمجد وتحيطه بيئة تراثية ثقافية أدبية كل ذرة منها تنطق شعراً تليها مرحلة الخروج بالنشر الى الصحف والمجلات العربية والمشاركة في المهرجانات الكبيرة وتمتد هذه المرحلة من أوائل السبعينات الى اواخرها وشهدت صدور ديوانين جديدين هما (قنديل في العاصفة) و(مملكة الحرف) كما شهدت زيادة كبيرة في كتابات النقاد والدارسين لدواويني والتبشير بقادم منتظر كبير خصوصاً اني في هذه المرحلة وما سبقها كتبت كثيراً من الشعر الحر الى جانب الشعر العمودي وضممته في الديوانين المذكورين …

{  كيف كانت إذن تجاربك في هذه المحطات خصوصاً مرحلة السبعينات ؟

   – اغلب تجاربي كانت تميل للذاتية والغزل وقصائد الاسئلة والحياة والموت والحيرة والوجودية والحكمة المستخلصة من الحياة وعنفوان الصراع المصيري فيها مما رصد النقاد تطوراً في العمق والتناول والحساسية ورافق كل ذلك نيلي الماجستير في فقه اللغة 1973والدكتوراه في الاختصاص نفسه 1978بعدها جاءت المرحلة التي بدأت عام 1980 واتسمت بنشر عدد من دواويني والاعمال الكاملة وديوان آل ياسين بطبعاتة الثلاث وكثرة الدراسات النقدية التي رافقت كل ديوان او نشاط، وترجمة شعري الى عدد من اللغات ومشاركتي بمؤتمرات وملتقيات عالمية اسفرت عن نشر بعض قصائدي في اوربا وامريكا. وشهدت هذه الحقبة كثافة المشاركات في المهرجانات في داخل العراق وفي الوطن العربي مشبهة تماماً مرحلة التسعينات من حيث استقرار المكانة عراقياً وعربياً وطغيان قصائد المصير العربي وقضايا الامة والشهادة وتكاد تلوح بوادر مرحلة جديدة بدأت قبل عام او اكثر تنذر بموسم القطاف بعد السعي والسهر والرعاية والانتظــــار.

مشاركة