آلية الإشتغال وخصوصية النص الشعري – نصوص – جبار هادي الطائي

آلية الإشتغال وخصوصية النص الشعري – نصوص – جبار هادي الطائي

إنَّ العلاقة بين اللغة ، و الفكر علاقة ديناميكيّة متنامية ، والكلمات بمثابة خلايا داخل العمل الأدبي ، و يختلف تكوين هذه الخلايا من جنس أدبي الى آخر ، فعلى الشّاعر أن يخلق من هذه الكلمات تراكيبَ متجدّدةً ، و يكون الخلق الجديد مُلكاً للشّاعر يضمن له أسلوبا يميّزه عمَّن سواه ، و عليه أنْ لا يتناسى الإيقاع الخاص بالعربيّة ، فلكلِّ لغة في العالم إيقاعٌ ومناخٌ خاص ، و من المعروف أنَّ الشّيء لا يأتي من الفراغ أو العدم ، فكلٌّ مترابط مع بعضهِ ، فالشّعر الغربي درجَ وَ تنامى في أحضان القصَّة كَ( الإلياذه ، و الأوديسة ، و الكوميديا الإلهيَّة ) أمَّا الشّعر العربي فقد درجَ و تنامى في أحضان منابر الشّعراء في الجاهليّة حتى وصل إلينا بأنغامه الموسيقيّة المتكاملة (1) فالتطوّر بالإتّجاه النثري بالنّسبة للشّعر الغربي ممكن ، وله مبرّراته و يتيح له التّعامل مع النّثريّة وصولاً الى الشّعر ، أمّا في العربيّة فهذا غير ممكن ، يقول الشّاعر المجدّد ( بدر شاكر السّيّاب ) : ( الشّعر يجب أن يبقي خيطا يربطُ بين القديم و الجديد ، يجب أن تبقى بعض ملامح القديم في الشّيء الذي نسمّيه جديداً ، وعلى شعرنا أن لا يكون مسخاً غربيّا في ثياب غربيّة أو شبه غربيّة ) (2) ، و هذا سر من أسرار نجاح قصيدة التّفعيلة ، و مواكبتها للقصيدة الكلاسيكية ( قصيدة العمود ) ، بالإضافة الى إستيعابها مساحة أكبر من الحريّة ممّا يجعلها تتوافق مع متطلّبات و معطيات المعاصرة بما لا يتنافى مع الأذن و الذوق العربيّين .

إنَّ الغاية من الشّعر ليس رصف الكلمات وفق آلية معيّنة ، و إنَّما العبرة في كيفيّة إقتناص المفردة و زجّها في المكان الذي تستحقّه ممّا يضيف الى النّص الشّعري طاقة إضافيّة ، و شحنة أكبر بعيدا عن التّقريريّة المباشرة ، و قد يستغل البعض كتابة القصيدة بشكلها العمودي ، و ليس فيها من الشّاعرية سوى ( الوزن و القافية ) و هذا مما يجعها كتلة جامدة ، لا روحَ فيها سوى هيكلها المنتصب كما هو في الشّعر التعليمي الذي شاع في العصور العباسيّة لإغراض تعليمية إفترضها الواقع الثقافي و الإجتماعي عليهم ، أو قد يلجأ شاعرٌ ما الى صياغة جمل مموسقة ، إلّا أنّها تفتقر الى أبسط شروط القصيدة النّاجحة منها – على سبيل المثال لا الحصر – تفكّك الجمل داخل النّص الى درجة التشظّي ممّا يصعب على المتلقّي الوصول الى فحوى النّص أي غياب الفكرة الواحدة ،و ممّا تجدر الإشارة اليه أنَّ ( قصيدة النّثر ) التي وضعها في دائرة الظّلم ممّن إستسهل شروط الفوضويّة ، و المجّانيّة ، و فقدان الوزن و القافية متناسين شروطها الإبداعيّة التي تفترض على كاتبها أن يعوّض شيئا ممّا إفتقدته إلّا أنّها لم توقلب ، و لم توضعْ لها معايير ثابتة رغم المحاولات العديدة منذ عام 1890 و تحت عناوين عديدة منها ( النثر المركّز ، قصيدة النثر ، اللا نثر و اللا شعر ….) ممّا أتاحَ الى مّن هبّ و دب محاولة الولوج الى عوالمها الغريبة ، فنجد كتابات البعض أشبه بهذاءات محموم .إنَّ تجارب ( محمد الماغوط ، و أدونيس ) و أعمال ( حسين مردان ، و نزار قباني ) النثريّة تجارب خلّاقة و متفرّدة ، و لا يمكن أن يتكرّر أحدهم في شاعر آخر ، و لايعني هذا أن نبخس حقوق عدد من الشعراء في هذا المجال .و من المُلاحظ في العقدين المنصرمين (الثمانينات ، و التّسعينات ) ظهور عدد كبير من الشّعراء – كمّا لا نوعاً – و خصوصاً ممن إختار الكتابة على نمط (القصيدة النثرية ) ممّا جعل المتذوّق للشّعر يبحث عن ضالّتهِ وسط الظّلام .إنَّ مَثَل الموسيقى في الشّعر ك( مثل ) الصّبغة في اللون فلو إفترضنا – إن أمكن التّشبيه -( اللون الأخضر = الشعر / اللون الأحمر = النثر ) فمن الممكن الحصول على درجات متفاوته للون الأخضر ، و كذلك الحال بالنّسبة للون الأحمر ، و لكن إذا فقد اللون صبغته فَقَدَ قيمته اللونيَّة ، و لا يمكن تحويل اللون الأخضر الى اللون الأحمر و كذلك العكس ، إذن تبقى الموسيقى جزءً مهماً في جسد الشّعر ، و ما الإيقاع الدّاخلي سوى الموسيقى الذاتية أو صوت الحرف ذاته داخل عصب المفردة .إنَّ للنّص الشّعري خصوصيّة تميّزه عن غيره من الأجناس الأدبيّة الأُخرى سواء كان ( قصيدة عمودية ، قصيدة تفعيلة ، أو قصيدة نثريّة ) إبتداءً من إنتقاء المفردة و توظيفها مروراً بسبكها في جمل شعريّة إنتهاءً بصياغة نصٍ شعريٍّ معافى تتوافر فيه شروط العمليّة الإبداعيّة .