‮ ‬الإمام علي‮ (‬ع‮) ‬وخطب نهج البلاغة – نصوص – زهير‮ ‬غازي‮ ‬زاهد‮ ‬

 الإمام علي (ع) وخطب نهج البلاغة – نصوص – زهير غازي زاهد

تحدث الجاحظ في رسالة الأوطان والبلدان، قائلا: “الذي تهيأ وخصّ به آل أبي طالب من الغرائب والعجائب والفضائل ما لم نجده في أحد سواهم. وذلك أنّ أول هاشمي هاشميّ الأبوين كان في الدنيا وُلِدَ لأبي طالب”، كان علي (ع) أول هاشمي من أبوين هاشميين فاجتمعت له خلاصة صفات هذه الأسرة الكريمة التي عُرِفَ بها أعلامها، وكانت ولادته في الكعبة فكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها وهو القائل: “ما أعرف أحدا من هذه الأمة عبد الله بعد نبينا غيري، عبدتُ الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة تسع سنين” (1).

كانت ولادته في الكعبة كأنها إيذانٌ لعهد جديد لها وللعبادة فيها فقد فتح عينيه على الإسلام ونشأ في بيت الرسالة لم يفارق رسول الله – حتى آخر أيامه. وكان مبكر النضج في القدرة على الفهم وتقدير الأحداث ووعي الحياة بتجاربها المختلفة هذا إلى جانب ما كان للرسول من توجيهه وتعليمه وتلقينه مختلف العلوم والتجارب، ومعايشته القرآن الكريم وبيت الوحي من أول نزوله حتى آخر ما نزل؛ لذلك كان الأكثر فقها والأكثر علما والأكثر زهدا ثم الأكثر شجاعة وفروسية (2) والأكثر عدلا كما كان الأول إسلاما (3)، قال عمر بن عبد العزيز: “أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب”، لذلك أقول ما قاله عز الدين بن أبي الحديد المعتزلي: “وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله، فقد علمتَ أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة اطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر وتوعّدوا مادحيه، حتى حظروا أن يسمَّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلاّ رفعة وسموّا، وكان كالمسك كلما سُتِر انتشر عَرْفُه، وكلما كُتِمَ تضوّع نَشْره، وكالشمس لا تُسْتَر بالراح وكضوء النهار إن حُجِبتْ عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة” (4).لقد كان المجاهد الصادق مع الرسول – منذ أيام الإسلام الأولى، والباذل حياته للدفاع عنه ونشر الإسلام، فكانت مواقفه مشهودة منذ نومه في فراش الرسول حين عزم المشركون على اغتياله، وسيفه معروف فعله منذ معركة بدر الأولى بعد الهجرة ثم أُحُد ثم الخندق، ومواجهة أفرس العرب عمرو بن عبد ودّ، وقد وصفها النبي – قائلا: “لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله” لخطورتها آنذاك ثم تسليمه الراية في واقعة خيبر وقوله فيه: “لأدفعنّ الراية غدا إلى رجل كرار غير فرار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله” وتستمر مواقفه في الحرب والسلم مع النبي حتى وفاته. وبعد وفاته كان الصابر المحتسب في أمر الخلافة، فلم يثر ما فيه تفرق السلمين، وظلت آراؤه الفقهية ومشورته حاضرة في كل معضلة، فكان مرجعا لأبي بكر وعمر في شؤون الفتوى، بل كان مرجعا لسائر الصحابة فهم قد سمعوا قول النبي -: “أقضاكم علي”، ورويت للخليفة عمر فيه أقوال منها: “لا بارك الله في معضلة لا تحكم فيها يا أبا الحسن”، وقوله: “لولا علي لهلك عمر”، وبقي في عهد عثمان بن عفان ذلك الناصح في الأحداث التي واجهته حين انتقض أمره بسبب تحكيمه مروان بن الحكم والأمويين في أمور الخلافة وتحكمهم في الرعية، وتبذير المال على غير صالح المسلمين.وعندما آل الأمر إليه أراد أن يعيد ما انحرف من الأمور إلى صوابها ويقيم العدل والإسلام النبوي، فكان الحكم لديه إشاعة العدل بين الرعية وليس تسلطا عليها وإنما نصرة الحق وخذلان الباطل، فالسلطة لديه أمانة يجب أن تدار على وفق شريعة الله، لذلك أول ما واجه المتحكمين في عهد عثمان من الأمويين والذين أَثْروا من غير وجه حق من القرشيين. بقوله: “الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه”.لقد واجه من قريش ما واجه الرسول منهم في بداية دعوته، فقد قال في خروجه لقتال أصحاب الجمل في البصرة: “مالي ولقريش والله لقد قاتلتهم كافرين، وَلأقاتلنّهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا لصاحبهم اليوم”.

وكان (ع) يوصي ولاته أن لا يتخذوا السلطة سوطا على الناس، وإنما يجب إشاعة العدل والمساواة بينهم. ففي وصيته لمالك الأشتر قوله: “وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبةَ لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، وهذا القول وحده نظرية في العدل وسياسية المجتمع بأسمى عقلية متحضرة متنوّرة بنور الإسلام من منبعه. فالحاكم لا يجوز له أن يحول البلاد إلى بستان يستغلها ويسرق أرزاقها ويحرم رعيته منها، وإنما عليه أن يشارك الأمة حياتها بكل ألوانها، لذلك كان يحسب حسابه لأحوال الناس ويفكر بطرق لإشاعة العدل فيهم.

فالدين لديه تفكير بإشاعة العدل قولا وعملا، قال في خطبة له: “أيها الناس إني والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها”، والدين تفكير يقمح جماح الهوى والسيطرة على النفس. قال : (أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر)”، وقوله: “أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟”، وقوله: “ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة مَنْ لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع”.

لقد كان يكره الغدر، وحين أشيع بين الناس دهاء معاوية والوصول إلى ما يريد بأية وسيلة، قال يصف نفسه: “والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهة الغدر لكنت من أدهى الناس”.كان الإمام بهذه الروح والأخلاق السماوية السامية الإنسان الكامل إنسان المبادئ والقيم العليا. عاش يدافع عنها ويدعو إلى نشرها وتطبيقها حتى اغتالته يد الغدر والإثم في أثناء صلاته في مسجد الكوفة يوم الجمعة في السابع عشر من رمضان سنة 40 من الهجرة (5).لقد كان يخرج وليس له من يحرسه (6) مؤمنا بحراسة الله لا حراسة الشُرَط والجند، لقد ظلت روحه الإنسانية ومبادئه خالدة لم يستطع عتاة الأرض من الحكام أن يطفئوا نورها، فنورها موصول بنور الله ونور شريعة الحق. لقد ظل كلامه وخطبه وحكمه تشيع على ألسن الأدباء والعلماء تلك القيم، وقد جمعت في كتاب “نهج البلاغة” ظلت إلى جانب كلام الله يرفعان صوت القيم الإنسانية عبر العصور يتسلمها جيل عن جيل وعصر عن عصر، فهما الحجة على الأجيال والأمم.

نصوص نهج البلاغة

إن كلام الإمام علي وخطبه وحكمه كانت موضع اهتمام العلماء والأدباء منذ عهده، فكانوا يتذوقونها ويدونونها ويتأثرون بها بالرغم من الحرب الأموية عليه في حياته وبعد حياته، لم تستطع حرب طغاتهم أن تطفئ نور ذكره ولا أن تحجب كلماته عن التداول. فكان العلماء والأدباء يحفظونها ويتداولونها لتربية ملكة البلاغة لديهم. فكان عبد الحميد المقتول سنة 132 هـ كبير كتاب عصره وكاتب آخر حكام الأمويين حين يسأل ما الذي خرّجه في البلاغة؟ فيجيب: حفظ كلام (علي) (7).

وكان الحسن البصري (ت110هـ) بارع الفصاحة بليغ المواعظ كثير العلم “وجميع كلامه في الوعظ وذم الدنيا أو جلّه مأخوذ لفظا ومعنى من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فهو القدوة والغاية” (8).

وقد نقل الجاحظ (ت255هـ) جملة من نصوص خطبه الطوال وكثيرا من حِكَمِهِ وأقواله في كتبه، وقد نقلها من كتب مجلدة. وكذا نقل المبرد (ت285هـ) في كتابه الكامل مجموعة من خطبه وأقواله، وبعض كلامه (ع)  ذكره في كتابه المقتضب.

وذكر المسعودي (ت 346هـ): “والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة ونيف وثمانين خطبة، يوردها على البديهة، وتداول الناس عنه قولا وعملا” (9).

وقد جمع الشريف الرضي (ت 406هـ) ما توصل إليه موثقا من كلامه وخطبه وحكمه القصار في كتاب سماه “نهج البلاغة” اشتمل على ثلاث مئة خطبة ومئة رسالة وخمسمائة حكمة.

لقد كان عنوان “نهج البلاغة” وضعه الشريف الرضي بحق، فهو نهج للبلاغة نفسها التي تصدر عنها مناهج البلغاء، وقد وصفه أصدق وصف في مقدمته بقوله: “الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عَبْقَةٌ من الكلام النبوي”، وهذا أبلغ وصف لكلام الإمام الذي يمتد من القرآن الكريم متصلا بكلام النبي – مستوعبا طاقات الإمام الفكرية والثقافية وعلمه الذي اكتسبه من البيت النبوي، ومن تجارب الحياة. وقد وصل نهج البلاغة من مراتب الكمال حدا قيلت فيه عبارة مشهورة ومتداولة بأنه كلام دون مستوى كلام الخالق وفوق مستوى كلام المخلوق باستثناء كلام النبي -.

لقد كان (ع) في كلامه وخطبه متنوع الأغراض من دون تكلف ولا تصنّع إنما كان يرتجل الخطبة ارتجالا، فإذا هي معبرة أصدق تعبير، وكان مستوى الكلام لديه واحدا ليس فيه اختلاف ومن العبقرية أن كان أسلوبه في كتابته مثل كلامه مرتجلا وأكبر الظن أن هذا الأسلوب الفطري في الكلام المنتظم المتماسك كان في ذهن الجاحظ حين تحدث عن بلاغة الخطيب إذ يصرف همه إلى الكلام “تأتيه المعاني أرسالا وتنثال عليه الألفاظ انثيالا”(10). وذلك ما وصف ابن أبي الحديد كلامه (ع) قائلا: “وجدته كله ماء واحدا ونَفَسًا واحدا وأسلوبا واحدا”(11).

لقد ظهرت قدرته في الحديث بأي موضوع شاء قد اقتضاه المقام فكان كلامه محكم الصياغة حاضر البديهة يخرج كلامه من أعماقه صادقا ويؤديه منسجما وموضوعه. قد تكلم في الزهد فكان أزهد الناس، وتكلم في وصف الطبيعة ومظاهرها وفي خلق السماوات والأرضين وفلسفة خلقها وغاية خلقها وخصائص خالقها الذي “ليس كمثله شيء”، وتحدث عن طبائع البشر وحب الدنيا الذي يبعدهم عن السبيل الذي رسمه الإسلام لهم، وقد أبدع في وصف خفايا المخلوقات وإبداع خلقها وأطوار الإنسان وحالاته ومشاعره والتزامه في حياته ثم خلق النملة والخفاش والطاووس… وغيرها.نحن لا نجد كتابا قد استوعب كل هذا الكم من فنون المعرفة، فهو نهج للفقهاء ونهج للمتكلمين والفلاسفة والأدباء والسياسيين العدول، فكل إنسان يجد فيه ما يغذي فكره ومسيرته لأنه موسوعة معارف وكتاب دين ودنيا.

إنه أول نص ظهر من رحم القرآن الكريم، النص الذي نجد فيه روح القرآن وأساليبه ومناهج تفكيره قد استوعبت ما فيه من حكمة وأحكام وفقه وأساليب إبداع وتساوق مع آياته ذِكْرا حينا وشرحا أحيانا، يتناص مع مضمونها.ويمكن أن نعده المعبّر عن الخطاب الإسلامي والثقافة النبوية، أعطى للحضارة الإسلامية شكلها ومضمونها أنتجه فكر واع وقدرة فائقة بخصائص فنية وإبداع نادر.فالإمام علي (ع) نشأ في بيت الرسالة قبل نزول الوحي وبعده وكانت حياته مع حياة الرسول صلوات الله عليه وآله ممتزجة، وكان قد حفظ ما نزل من الوحي على النبي منذ بدئه ووعاه وعمل به معه، وهو الحافظ للقرآن، وقاتل المشركين للإيمان به وبتنزيله، وهو من أوائل كتبة الوحي المخلصين ثم إنه جمع القرآن بعد وفاة الرسول الكريم على أنه كان مجموعا في وسائل الكتابة آنذاك في بيت الرسالة، وليس غريبا أن تتعدد فيه أقوال النبي صلوات الله عليه وآله صريحة بأنه امتداد للرسالة غضة وامتداد لخصائص صاحبها فيخاطبه: “يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى”، وبمناسبة أخرى بقوله: “أنا مدينة العلم وعليّ بابها”، وحين برز لعمرو بن عبد ودّ يصفه داعيا له بأنه برز الإيمان كله إلى الشرك كليه، وقوله مخاطبا: “لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق”. فإذا عرفنا هذا ووعيناه عرفنا مدى وعيه وتعبيره عن أسرار النص القرآني ووصف غوامضها في كلامه وخطبه في (نهج البلاغة). فهما نصان متآخيان لكن الأول نتاج وحي رباني والآخر نتاج فكر وتجربة حياة في بيت ذلك الوحي.

لقد نهض كلامه وخطبه لإعادة الخطاب الإسلامي بعدما اهتز بظهور طبقة ضخمت ثرواتها بغير ما أمر به الإسلام من العدل والمساواة مع استغلال السلطة واستغلال المجتمع والتسلط عليه، فلم تكن نصوص خطب نهج البلاغة وأقوال الإمام علي (ع)خطب حاكم لمحكومين، وإنما كانت بسطا عمليا لنهج القرآن الكريم وتعليمات الرسول العظيم. لقد جاهد لتجديد خطاب الإسلام النبوي في وجه روح البداوة التي أيقظها التعصب، ولترسيخ قيم الحضارة الإسلامية والتزامها منهج حياة وتفكير وتأمل، لذا واجه الخطاب العلوي كثيرا من العسر في فهمه حدّ الحروب وإراقة الدماء، وبالرغم من كل المصاعب والعقبات ظل الخطاب العلوي باذلا كل غال للحفاظ على القيم النبوية، كما ظل تأثيره يتفاعل على امتداد العصور، ولولا هذا الامتداد النبوي في الخطاب العلوي والتضحية لتثبيته لبلغ الانحراف مداه ولما كان تمييز بين الحق والباطل. لقد كان خطابا لإيقاظ الأفكار وتحريضا لهم ونورا يضيء الآفاق المعتمة.

الهوامش

(1) رسائل الجاحظ  4- /122 هارون.

(2) خزانة الأدب للبغدادي 1/434.

(3) رسائل الجاحظ 4 /.210 -208

(4)  شرح نهج البلاغة 1/16  ينظر عبقرية الإمام علي للعقاد ص13.

(5) تاريخ الطبري 5/143

(6) تاريخ الطبري 5/149 سنة 40 هـ. قالها البُرَك بن عبد الله بعد أن أخفق في قتل معاوية في ضمن المؤامرة التي دبرها جماعة من الخوارج: ابن ملجم لقتل الإمام علي والبُرَك بن عبد الله لقتل معاوية وعمر بن بكر التميمي لقتل عمرو بن العاص. (ينظر التفصيل في تاريخ الطبري 5/.149-143

(7) لكنه كان كأسياده لا يذكر اسم علي فيقول: “حفظ كلام الأصلع” (ينظر ثمار القلوب للثعالبي 197 علي سلطة الحق – عزيز جاسم  539مصادر نهج البلاغة، عبد الزهراء الحسيني 1/44

(8) أمالي الشريف المرتضى 1/153

(9) ينظر البيان 1/179، 2/50، 52،5، 55،  77، 190،3/138، رسائل الجاحظ 1/91، 4/122، 208-210.

(10) مروج الذهب  2/419 ينظر كتاب مصادر نهج البلاغة للأستاذ عبد الزهراء الحسيني في أربعة أجزاء.

(11)البيان والتبيين 3/28

(12) شرح نهج البلاغة 1/.9