أنا غاتسبي – نصوص – عبد علي اليوسفي
لم أتبين أنه ثمل أم لا … كل شيء يدل على انه ثمل ،رغم خلو مدينتنا من الخمور … بل هي محضورة ومن اراد الشراب عليه السفر الى مدينة اخرى .
نقضي أماسينا مع جنوح الشمس نحو الغروب في المقهى المطلة على النهر ،المظللة بالأشجار العملاقة ،كانت في السنوات الماضية ،مشرباً كبيراً ،يؤمه الناس في كل وقت . في المساء تأتلق المصابيح وتتراسل الشعاع مع النجوم التي تسطع بالسماء وهي تأتلق فوق ذوؤبات الأشجار العملاقة .
أنا الآن بلا عمل ،بل أعتمد على ثروتي المودعة بالمصارف ،واسواقي ومخازني التي يديرها عمال عينتهم فيها بوساطة أصدقاء قدماء لي ،علاقتي بهم لايمكن التنصل منها ،غالباً ما أتظاهر بالعنف ،واهددهم بالطرد لتتلقفهم تيهانات الشوارع والازقة او تتصل بهم العصابات ،لتكلفهم بأعمال السرقة والقتل والخطف .
الضحى من الاوقات الجميلة عندي التي احبذ فيها الذهاب الى المقهى ذات الفضاء المظلم الشبيه بالقبو ،كأنه روح مهجورة ،شيء ما مفقود ،ظل لسنوات يملأ ذرات الهواء والزوايا والتشققات في السقف ،وكأنه مكان خطط لعزله عن زوايا حدوده . عادة ما أتخذ زاويتي ،واحتسي كثيراً من أقداح القهوة والشاي والكابتشينو .. متذكراً أيام حياتي الماضية بتلذذ . ما أن تنتهي الحكاية حتى اعيدها على نفسي ثانية بفنجان آخر ،وخاصة ( تمارينا ) وقد ترسبت بذاكرتي ،ولم تتمكن أي امرأة تعرفت عليها فيما بعد ،وخضت معها غمار الاكتشاف من ازالة هذا الترسب الراكد : هل لانها تمنعت عني ،وجعلتني أعتقد بأن لا شبيه لها أم ماذا ؟ اذ كنت لوحدي ،تدفقت في شاشة خيالي ،وكأنها المرأة التي لم تخلق بعد ،في مرة رآها أحد المخبولين ،أخذ يتفرس يوجهها ،ويلفظ بكلمات لم نفهم منها شيئاً اذ ضاعت بين اعوجاج فمه ولعابه السائل . بالرغم من ازدحام النساء على الرصيف ولما شعرت بأنزعاجي قالت :
-دعه مخبول .
وما أن أحسس بالملل حتى أحمل حقائبي واحلق بعيداً عن فضاء مدينتي الخامل ،حيث المدن المزدهرة بالحياة
أقبل (( غريب )) ينقر الارض بعكازة ،وجسده يرتعش رغم عوده الصلب ،وما أن ولج باب المقهى حتى توقف يستوضح المكان ،يبدو أكثر ظلاماً للآتي من الخارج ،لعدم وجود اضاءة ،ولما استوطنت عيناه المكان رآني ،ابتسم هازاً يده بحركة تمثيلية تدل على الاستخفاف بأمر ما ،وكأنه يؤدي دوراً وثمة كامرا ترصده . جلس والعكازة تهتز بيده ،اسندها جانباً . أخرج علبة سجائر وقداحة ووضعها أمامه ،مد يده الاخرى الى جيب سترته واخرج كتاباً عتيقاً رماه على المائدة . لمحت كلمة ( روايات الهلال ) كما خمنت . انه ثرثار بدرجة امتياز وأنا أمقته كثيراً الا اني الآن بحاجة الى ثرثرته ،بل اني سعدت بقدومه ,اما لماذا تتغير المسارات داخل الانسان لا ادري . وحتى اني لم اجد الرغبة في التحري عن الاجوبة . لم تمض الا دقائق قليلة اجهز فيها على ثلاث سجائر . حتى امتلأت زاويتي برائحة دخان تبغه الرديء . هو دائماً في قلب الحدث الا انه بعيداً كل البعد ،عن كل شيء ،ولم يحصل طيلة حياته على شيء سوى راتبه ،وانه لم يكتب قصة او قصيدة او حتى خاطرة ،ولم اقرأ له كلمة واحدة ذات يوم . بالرغم من ادعائه قرأ مئات بل آلاف الكتب وحتى انه يوهمك بأنه لايقل اهمية عن اي شاعر او قاص معروف بالمدينة . ويروي أن مؤلفاته ستنشر في مطابع بيروت والقاهرة . وان الصحف التي انتشرت بالمدينة بشكل مثير تطلبه الا ان الوقت لم يسعفه وحكايات … وحكايات …
*** *** ***
تكمن رغبة بداخلي ان يسرد لي احدهم حكاية من حكاياتي التي ارددها مع نفسي في مونولوج داخلي يتكرر . ما ان فرغت علبة سجائره ،زاغت عيناه تبحث عن عامل المقهى وهو يعتصر بقوة العلبة الفارغة ،طلبت له علبة اجود الا انه رفض ( هذه سجارتي المفضلة ) احتسى رشفة من قدحه ،ثم اشعل سيجارة . تمعنت بوجهه عن قرب . ذات الملامح الدقيقة قد الفتها منذ سنوات تعرفنا الاولى بها شيء منه وهو صغير رغم التجاعيد والتشققات التي غزته ،وشعرات لحيته الخفيفة البيضاء المخلوطة بقليل من الشعيرات السود الناتئة . هو هكذا حتى بدا لي انه لم يحلقها ابداً .
*** *** ***
حاولت تصنع الصمت لحثه على اثارة حكاية ما .
-متى عدت من السفر ؟
نطقها والدخان يندفع من فمه وفتحتي انفه بكثافة ،
قلت ببرود :
-منذ مدة .
ضحك ثم اكمل :
-لو كانت هذه الثروة من زمن
هززت رأسي متأسفاً . كثر اللغط بين الناس بأن ما أملك من اموال حصل بشكل غير شرعي والايام كفيلة بذلك اذ يصدقون بل ويعترفون ،انا ادرك بأمكان الانسان اقناع الآخرين بأشياء اخرى لاتمت بصلة الى الحقائق . يصدقون بل ويعترفون حتى انا اقنعت نفسي بأن ما املك من اموال هي من تعبي وجهدي او اني ورثتها من خالي المغترب مثلاً … او من امرأة تزوجتها بالمنفى اثنا هروبي من الحرب . توفيت اثر اصطدام قطارات الانفاق في اوربا
قال -أتذكر ؟
قلت بسرعة ..
-أذكر ماذا ؟
مد يده وسحب سيجارة . قلت سيروي نيابة عني . حدثاً يمت لي بصلة … اتذكر (( تمارينا )) وكيف تنساها ؟ لعن الله ذلك الاشيب والدها المصر ،ازاء سيلان لعابه امام التاجر الذي طلبها لابنه . كان بيته اكبر بيوت المدينة المطلة على صدر النهر ،قرب الجسر الحديدي . كنتم في / عكد اليهود /… البيوت الشرقية ذات الطابقين ،والسراديب الباردة صيفاً ،حيث ينحدرون اليها في قيلولات الصيف الحارقة . كانت ازقتها مظلمة حتى في النهار . حيث ترتدي النساء النفانيف الملونة الخفيفة وزنودهن البيضاء القوية عارية . ما أن ترفع احداهن يدها حتى يبان ابطها ومطالع نهديها . نساء جميلات حقاً .
كن يعملن في معامل المدينة في النسيج والخياطة والحلويات .
مد يده لسحب سيجارة من العلبة تلقفتها منه سحب اخرى وهو يعلق : (( سترجع للتدخين لامحالة . وربما ستشرب معي الليلة . عندي قنينة حصلت عليها بطريقة ما .
…. انا ادرك انك ابتنيت قصراً منيفاً في المدينة يضاهي قصر التاجر حتى تثير فضول الآخرين او حتى هي تعرف ،انك الآن من اغنياء المدينة . اكيد انك ملأت زوايا القصر ،وخصصت غرفاً لانواع الطيور ،واقلام الروج ،والتحفيات،والفساتين ،وقماصل الفرو . والهدايا التي تجلبها من مدن الثلوج ،والشفراوات والعيون الزرق . ومشجب البدلات الانيقة . ولوحات الخيول والغزلان والاسود . واشجار ذات اشكال غريبة شتلتها بالممرات . يمكن ان ترى من وراء الزجاج المظلل . وربما مشجب للاسلحة ،مسدسات صغيرة باشكال تصميمية جديدة . وكاتمة للصوت . وقناصات خشبية باسطوانات طويلة . لقتل الطيور ،والغزلان ،وحرق الاشجار . عجيب أمركم لاتنسون يئس طفولتكم وخوفكم من المجهول . لاشك انها الآن امرأة كبيرة . بل هي الحقيقة . وربما هي مريضة الآن اذا لم يأخذها الموت .
أتنسى السنوات الطويلة التي قطعناها في المفازات والحروب والجوع والتشرد والاسر . والقصف والتفجيرات ،والتفخيخ . كم امرأة ماتت بالسوق من جراء التفجير … انك تصرف العمال في اوقات كثيرة وترتدي بنطال الكابوي الجينس الامريكي وتعمل بائعاً وتتفرس بوجوه النساء وتبيع الحاجيات باسعار مختلفة لجهلك بذلك . وتمنح الدهون وملمعات الوجوه واقلام الروج للنساء اللائي تمنحك ملامحهن شبهاً لها . وايام كثيرة لم تأت امرأة . فتتصل بنقالك طالباً حضورهم ،او تقفل ادراجك عائداً لزاويتك في بيتك او في المقهى . وربما تذهب الى الزقاق القديم الذي تهدم وانطمرت سراديبه واكيد انك سألت أكثر من امرأة عنها الا ان الاجابات كانت رافضة . ومنيت نفسك ان تعرف واحدة من صديقاتها ولكن كيف تعرفها وقد تغيرت ملامح الوجوه .
وليس غريباً ان فتحت صالون حلاقة فاخر للنساء . وعينت امرأة ما تستدل عليها . انك تريد ان تراها فقط اليس كذلك ؟ ومن قال انها تحفل..؟ اتعتقد انك سترتجف مثل (( غاتسبي )) عندما عثر على حبيبته وسترتجف هي ايضاً وتهم بالفرار . اتصدق ان ثمة حب ؟ هههه .. .. انا واهم وانت واهم وغاتسبي واهم .
سحب نفساً عميقاً من سيجارته
– من قتل غاتسبي يامغفل اجبني ؟
انا اعرف من هو غاتسبي وما هي قضيته . فسألته :
-من هو غاتسبي ؟
-امريكي واهم مثلك اخذوه للحرب . الا انه هرب الى البحر . وقضى سنوات طويلة تتقاذفه الامواج في السفن الكبيرة وعند عودته مكللاً بالورد والثروة . ظل يبحث عن حبيبته فلم يجدها . فبنى قصراً منيفاً . وظل يقيم الحفلات الاسطورية فيه ويدعو اهالي المدينة . عسى ان يعثر عليها . ولما وجدها قتلته بعد فترة وجيزة .
لا اعرف هل حكايته صحيحة ام انها وهم من اوهامه ؟
(( …. لا تقل انك لم تطرق عيادات الاطباء . وساحل البحر المقفر . والاسواق القديمة . ممنياً نفسك بالعثور عليها . اذ ليس لديك فضاءً مثل غاتسبي . . وتقصد مطاراً او مسرحاً او سينما في مدينتك البائسة …يتغير كل شيء ولا تتغير …
غاتسبي اثار فضولي ..
-عندك هذه القصة ؟
-كانت في مكتبتي . لم اتمكن من العثور عليها . والبيت يمتلئ بالكتب . رغم اني لم ار مكتبة اثناء دخولي معه . تفجرت ضحكة بداخلي وانا اتخيله لم يقرأ هذه الرواية بل سمع بها .
-اين اجدها ؟
-في مقبرة الكتب . ثم اردف :
-الم تر المكتبات مثل المقابر؟
هززت رأسي مؤيداً … وعند خروجي بعد منتصف الليل اتعثر بظلام (( العكد القديم )) تتناهى الى اذني صرخات اللصوص الهائجة .
وقد دفعتني صعلكتي القديمة … متوقعاً ان نصلاً حاداً سيغرز بظهري . واسقط صريعاً مع اوهامي كغاتسبي العظيم في بركة ماء . وتصبح ثروتي دون حاجة لمبرر لوريثي .
انتهت
هامش
– اشارة الى رواية غاتسبي العظيم
للكاتب الامريكي سكوت فيتز جيرالد .



















